في رحاب القرآن.. "لا تحسبوه شرًا لكم"

إسلاميات

بوابة الفجر


إن المسلم يمرّ بأوضاع وأحوال يرى فيها الشر مستوليًا، حتى يكاد يصيبه الإحباط ويقول: ليته لم يكن، ولو كان كذا لكان كذا، حينها يبدأ بالتحسر والتلاوم والتغيظ، وإذا فكرت في قول الرسول الكريم -صل الله عليه وسلم-: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن".

وحدث ما يبين ذلك قديمًا وحديثًا من نتائجه، أن ما قدره الله تعالى مما يكره كانت عاقبته إلى خير كبير يربو على ما كان فيها من شر أضعافاً مضاعفة، حيث يميز الله الخبيث من الطيب بهذه الأحداث: "لِيَمِيزَ اللَّهُ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْـخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ". 

وما كان الله ليطلع عباده على الغيب ليعلموا ذلك، بل يبيِّن لهم ذلك بما يقدره من أقدار، كما قال: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَـكُمْ عَلَى الْغَيْبِ"، فتتمايز الصفوف، ويظهر المؤمن الصادق في إيمانه، ويظهر المنافق الذي جعل من إظهاره للإيمان جنة يتقي بها المؤمنين الصادقين، فتنكشف المواقف في زمن وجيز ربما لولا هذه المحن لمكث الناس عدة عقود قبل أن تظهر هذه الأمور على حقيقتها، ومن ثم يأتي التوجيه القرآني في ذلك ليسكّن القلوب ويجعلها راضية مطمئنة تقبل على أمرها بعزم ونشاط: "لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ".

وانكشاف المستور من المتخللين للصف حتى يضعفوه، أمر حسن؛ ولذلك فإن الله تعالى يقدر من الأقدار ما يكون سبباً في ابتعاد المنافقين عن الصف المؤمن، أو ينكشف أمرهم كما قال تعالى: "وَلَوْ أَرَادُوا الْـخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ"، فكراهة الله لخروجهم في الصف المؤمن لما يعلمه من الفتن التي يبثونها في الصف وأورثتهم القعود، وقد ورد في الأثر عن معاوية -رضي الله تعالى عنه- : "لا تكرهوا الفتنة فإنها حصاد المنافقين".

وكان من ذلك المكروه غير المرغوب في حدوثه زمن رسول الله -صل الله عليه وسلم-، قصة الإفك التي رميت فيها السيدة الشريفة بنت الصديق زوج رسول الله -صل الله عليه وسلم-، قال الله تعالى بعدما ذكر قصتها: "لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ"، فقد كان في ذلك خير كثير، منه: التأكيد على التثبت فيما ينقل وأن لا يسارع الناس إلى تصديق ما يقال بغير بيّنة شرعية، ومنه فضح المنافقين الذين يتخللون صفوف المسلمين، ومنه ما ظهر من عفاف السيدة عائشة -رضي الله عنها- ونزول براءتها في قرآن يتلى بالليل والنهار، حضراً وسفراً، يتلوه الصغير والكبير، "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه"؛ ومنه حض المؤمنين على ظن الخير في أنفسهم وعدم قبول الشائعات الكاذبة وتداولها وترويجها، ومنه نزول الرخصة في التيمم بدلاً من الوضوء عند فقد الماء.

ومن تلك الأحداث ما حدث في غزوة الأحزاب، عندما اجتمع المشركون جميعهم على حرب الإسلام، وبلغ من جمعهم وقوتهم أن الأرض ضاقت على المسلمين بما رحبت، وزلزلوا زلزالاً شديداً، وبلغت القلوب الحناجر حتى ظنوا بالله الظنون، ونجم النفاق، وقال المنافقون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، وقالوا عن المؤمنين: غر هؤلاء دينهم، لكن كان هذا الحدث الجلل متضمناً الخير في ثناياه، إذ ازداد إيمان المؤمنين وأورثهم ذلك الرسوخ والثبات، ولما رأى المؤمنون اجتماع الناس عليهم قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، ولم يزدهم هذا الاجتماع عليهم من المشركين إلا إيماناً بالله ورسوله وتسليماً لما شرع لهم مما تبين به امتيازهم عن غيرهم، إلى أن أذن الله تعالى بانكشاف الغمة.

وما يحصل من الأذى في كل عصر للمؤمنين، يكشف من كان ظاهره معهم وباطنه مع عدوهم، ويبيّن حقيقتهم، فيحذرهم المؤمنون ولا ينخدعون بهم.

وفي أدنى الأحوال إذا لم يمكن الدفاع عن المسلك لقبحه الشديد، وفظاظته الغليظة التي لا يمكن الدفاع عنها بحال، تلتمس المعاذير التي لا نصيب لها من الصحة أو الصدق.