حكم التعلق بأستار الكعبة والالتصاق بها

إسلاميات

بوابة الفجر


الكعبة في لغة العرب تأتي على أحد معنيين أو كليهما:
المعنى الأول: أن الكعبة سميت كعبة؛ لأنها مربعة، فكل بيت مربع فهو عند العرب كعبة، بخلاف أكثر بيوت العرب فكانت مدورة. [لسان العرب 1/ 718، مادة: ك ع ب، ط. دار صادر].

قال ابن العربي: «سميت كعبة لتربعها، قاله مجاهد وعكرمة». [أحكام القرآن 2/ 206، ط. دار الكتب العلمية].
المعنى الثاني: أن الكعبة سميت بذلك لبروزها وارتفاعها حِسًّا ومعنى، فكل شيء علا وارتفع فهو كعب. [أحكام القرآن لابن العربي 2/ 206 بتصرف].

والحق أن كلا المعنيين في الكعبة ظاهر وواضح، فهي مربعة في الشكل ومرتفعة عن الأرض، وهي مشرفة ومرتفعة في المنزلة.

والمراد بالكعبة شرعًا: بيت الله، والقبلة، والمسجد الحرام، وهي محلٌّ للإجلال والاحترام؛ لأن الله عز وجل جعلها بيتًا له؛ تشريفًا وتكريمًا لها، قال تعالى على لسان نبيه إبراهيم -عليه السلام-:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}..[إبراهيم: 37]، وقال عز وجل: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }..[الحج: 26].

وهي أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}..[آل عمران: 96].

وقد جعل الله ما حول مكة من جميع جهاتها الأربع حرمًا آمنًا، تكريمًا لبيته الحرام، وقد جعلها الله عز وجل قِبْلَةً للمسلمين يستقبلونها في صلاتهم خمس مرات، ولا يجوز لإنسان أن يستقبل غيرها، بل لو اتخذ قبلة غيرها عالمًا متعمدًا لا تقبل صلاته إلا في بعض الأحوال الاستثنائية كما في صلاة الخوف مثلًا، قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}..[البقرة: 144]، وقد جعل الله عز وجل الطواف بمعناه الشرعي خاصا بالكعبة فقال تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.. [الحج: 29].

والمراد بالتعلُّق بأستار الكعبة: هو التشبث بها والالتصاق بأركانها وكسوتها. والكسوة: هي ما يُتَّخذ من الثياب للستر والحلية، وفي المصباح المنير للفيومي [2/ 534، مادة: ك س ى]: «الكسوة: اللباس، بالضم والكسر».

وهذا التعلق فيه إشارة إلى الإلحاح في طلب المغفرة، وسؤال الأمان، كالمذنب المتعلق بثياب من أذنب إليه، المتضرع إليه في عفوه عنه، المظهر له أنه لا ملجأ له منه إلا إليه. 

وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق: «قال عبد الباري لأبي الفيض: ما معنى التعلق بأستار الكعبة؟ فقال: مَثلهُ مثل رجل بينه وبين صاحبه جناية، فهو يتعلق به ويستخذي له؛ رجاء أن يهب له جرمه». [تاريخ دمشق 6/ 352، ط. دار الفكر].

وقد كان العرب قبل الإسلام إذا أراد أحد منهم أن يُؤَمِّن نفسه دخل الكعبة وتعلَّق بأستارها، والظاهر أن هذا مما ورثوه عن بقايا دين إبراهيم الخليل -عليه السلام- إذ استمر ذلك إلى عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فما بعده دون نكير، ومما يروى في هذا: لما كان يوم فتح مكة أَمَّنَ النبي -عليه السلام- الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: ((اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح)). [مصنف ابن أبي شيبة 8/ 52، ط. دار الرشد].

وقد ورد في كلام كثير من الفقهاء التصريح بذلك على اختلاف مذاهبهم:
قال الإمام الغزالي: «وأما التعلق بأستار الكعبة والالتصاق بالْمُلْتَزَمِ، فلتكن نيتك في الالتزام طلب القرب حبًّا وشوقًا للبيت ولرب البيت، وتبركًا بالمماسة، ورجاء للتحَصُّن عن النار في كل جزء من بدنك لا في البيت، ولتكن نيتك في التعلق بالستر الإلحاح في طلب المغفرة، وسؤال الأمان؛ كالمذنب المتعلق بثياب من أذنب إليه المتضرع إليه في عفوه عنه، المظهر له أنه لا ملجأ له منه إلا إليه ولا مفزع له إلا كرمه وعفوه، وأنه لا يفارق ذيله إلا بالعفو وبذل الأمن في المستقبل» [إحياء علوم الدين 1/ 269، ط. دار المعرفة].

وقال الشيخ الجمل: «وَيُنْدَبُ قَبْلَ الصَّلاةِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُلْتَزَمَ بِفَتْحِ الزَّايِ الْمُعْجَمَةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ ؛ لأَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- الْتَزَمَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّ هُنَاكَ مَلَكًا مُؤَمِّنٌ عَلَى الدُّعَاءِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ وَمُحَاذَاةِ الْبَابِ مِنْ أَسْفَلِهِ وَعَرْضُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَيُلْصِقُ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ بِجِدَارِ الْبَيْتِ وَيَضَعُ خَدَّهُ الأَيْمَنَ عَلَيْهِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ الْيُمْنَى إلَى الْبَابِ، وَالْيُسْرَى إلَى الرُّكْنِ وَيَتَعَلَّقُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ اللهُمَّ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَعْتِقْ رَقَبَتِي مِنْ النَّارِ وَأَعِذْنِي مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَوَسَاوِسِهِ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ)).
[حاشية الجمل على شرح المنهج 2/ 441، ط. دار الفكر].

وقال الشيخ الدردير: «(و) ندب (دعاء) بعد تمام طوافه وقبل ركعتيه (بالملتزم): حائط البيت بين الحجر الأسود وباب البيت: يضع صدره عليه، ويفرش ذراعيه عليه ويدعو بما شاء، ويُسمَّى الحطيم أيضًا». [الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2/ 43، ط. دار المعارف].

وقال البهوتي: «(فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْوَدَاعِ وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَقَبَّلَهُ وَقَفَ فِي الْمُلْتَزَمِ) وَهُوَ (مَا بَيْنَ) الرُّكْنِ الَّذِي بِهِ (الْحَجَرُ الأَسْوَدُ وَبَابُ الْكَعْبَةِ) وَذَرْعُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ (فَيَلْتَزِمَهُ) أَيْ: الْمُلْتَزَمَ (مُلْصِقًا بِهِ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَبَطْنَهُ وَيَبْسُطُ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَيَجْعَلُ يَمِينَهُ نَحْوَ الْبَابِ وَيَسَارَهُ نَحْوَ الْحَجَرِ) لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (( طُفْتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ فَلَمَّا جَاءَ دُبُرَ الْكَعْبَةِ قُلْتُ: أَلا تَتَعَوَّذُ؟ قَالَ: نَعُوذُ بِاَللهِ مِنْ النَّارِ، ثُمَّ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ فَقَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَكَفَّيْهِ هَكَذَا وَبَسَطَهُمَا بَسْطًا وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَفْعَلُ)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. (وَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ مِنْ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)». [كشاف القناع 3/ 513، ط. دار الفكر].

وقال ابن قدامة: «قَالَ طاوس: رَأَيْت أَعْرَابِيًّا أَتَى الْمُلْتَزَمَ ، فَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ: بِك أَعُوذُ، وَبِك أَلُوذُ، اللهُمَّ فَاجْعَلْ لِي فِي اللهَفِ إلَى جُودِك وَالرِّضَا بِضَمَانِك مَنْدُوحًا عَنْ مَنْعِ الْبَاخِلِينَ، وَغِنًى عَمَّا فِي أَيْدِي الْمُسْتَأْثِرِينَ، اللهُمَّ بِفَرَجِك الْقَرِيبِ، وَمَعْرُوفِك الْقَدِيمِ، وَعَادَتِك الْحَسَنَةِ. 

ثُمَّ أَضَلَّنِي فِي النَّاسِ، فَلَقِيته بِعَرَفَاتٍ قَائِمًا، وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ إنْ كُنْت لَمْ تَقْبَلْ حَجَّتِي وَتَعَبِي وَنَصَبِي فَلا تَحْرِمْنِي أَجْرَ الْمُصَابِ عَلَى مُصِيبَتِهِ، فَلا أَعْلَمُ أَعْظَمَ مُصِيبَةً مِمَّنْ وَرَدَ حَوْضَك وَانْصَرَفَ مَحْرُومًا مِنْ وَجْهِ رَغْبَتِك». [المغني 3/ 407، ط. مكتبة القاهرة].

وقال الزيلعي: «(والتزم الملتزم وتشبث بالأستار والتصق بالجدار) والملتزم هو ما بين الباب والحجر الأسود، ويلزق صدره به والتشبث: التعلق، والمراد بالأستار أستار الكعبة، ويُستحب له أن يأتي باب البيت أولا ويقبل العتبة، ويدخل البيت حافيًا ثم يأتي الملتزم فيضع صدره ووجهه عليه، ويتشبث بالأستار ساعة يتضرع إلى الله تعالى بالدعاء بما أحب من أمور الدارين». [تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 2/37، ط. الأميرية].

وبناء على ما سبق: فالتعلق بأستار الكعبة أو مس البيت والدعاء، كل ذلك من الأمور المندوبة باعتبار ما تحمله من معاني الالتجاء إلى الله وطلب مغفرته والإلحاح في ذلك، إضافة إلى التبرك والإجلال والتعظيم، ولا ينبغي أن يترتب على هذا الحكم التفصيلي فوضى في التعامل مع الكعبة.

مما يعد إساءة واستهانة بذلك البيت المقدس، كما أنه يجوز للقائمين على أمر المسجد الحرام تنظيم ذلك الأمر، وإن وصل إلى منعه خشية على كسوة الكعبة من التمزيق وحسمًا لتلك الفوضى، ولكن لا يكون منع ذلك بادِّعاء حرمة نفس الفعل أو كونه شركًا.