وسط المَوت وآلاف القبور تُولد الحياة عبر كرة القدم في "سربرنيتشا"

الفجر الرياضي



 

في "سربرنيتشا" الكرة تصنع المعجزات، وتكتب الأمجاد التي تُخلد حتي الممات، "أف سي جوبر"، هو فريق كرة القدم الوحيد المتعدد العرقيات في جمهورية البوسنة، والذ يمثل البلد الجريح، ورغم مرور بضع سنوات علي توقف الحرب البوسنية، إلا أنه مازال اللاعبين يستشعرون تداعياتها، في قلب الفريق.

 

إنها أمسية رائعة من أمسيات أيام الآحاد في "سربرنيتشا"، يوم مثل غيره من الأيام، ففي منطقة النصب التذكاري، في "بوتوكاري" ينتقل بعض الأشخاص بوشوش عابسة، بين المدافن الإسلامية لضحايا المجزرة التي ارتكبتها القوات الصريبة، بقيادة "راتكوملاديتش" عام 1995، ووصفت المحكمة الدولية الجنائية في يوغسلافيا سابقًا، تلك المجزرة بأنها عملية إبادة عرقية، حيث خلفت 8آلف ضحية".

 

وفي مدافن الأرثوذوكس يتجول البعض ممكسين بالصلبان، المقبرة تبدو جديدة فالتربة مازالت نضرة، ويبدو الطقس رماديًا، والجميع في انتظار سطوع الشمس التي تبعث الدفء في نفوس الأحياء.

 

من قبل كانت أمسيات الآحاد مختلفة تمامًا لكن من الصعب العثور علي من يريد أن يتذكرها في تلك الحقبة، كانت النساء ينظفن زجاج النوافذ، وينشرن الغسيل في ساحات المنازل علي صوت الموسيقي الذي ينبعث من كل مكان، كما كان لاعبو كرة القدم في النادي المحلي، التابع غالبًا للمنجم أو مصنع المعادن، يواجهون منافسيهم في المدن المجاورة " براناش، زوفونيك، مودريتشا".

 

كان كثيرون من المتابعين يذهبون إلي الإستاد ويقضون أوقاتٍ ممتعة، وكان الوقت يمضي بسرعة، هناك صور تترد من آنٍ لآخر علي الذاكرة، فكنا نشاهد أكوامًا من الممتلكات الشخصية المدفونة، والتي يتم إخراجها من مقبرة جماعية، وتم العثور في جيب احدي الضحايا علي محفظة مزينة بشعار نادي "النجمة الحمراء" سابقًا، والنجمة الحمراء في بلجراد هو الفريق الوحدي الذي تُوج بكأس أندية أبطال أوروبا عام 1991، ولطالما يتذكر التاريخ قصة مشجع هاذ الفريق، المسكين الذي لم ينقذه حبه لفريقه، فهو كان لا يمثل سوي رقم لمرتكبي المجزرة.

 

لكن عندما تشاهد هؤلاء اللاعبين قد عادوا للعب مجددًا، لكن لقصة هذا الفقيد لا يوجد أي معني، ولكن لنذهب لأشخاص آخرين، وهم"ستويان، أمير، لوقا، إلفيس، زوران، مرسد، أجيت، دراجو، صافيت، عادل"، هؤلاء الأشخاص هم من نشاؤا علي أرض نادي "أف سي جوبر" في سربرنيتشا.

 

وتعد أسماء هؤلاء اللاعبين، مجرد أسماء نمطية لصرب ومسلمي البوسنة، فهؤلاء الشباب يتميزون بشيء رائع وخيالي، حتي لو كانوا يعيشون في بلد كثيرة الإضطرابات، ومدربهم يوسف مالاجيتش، الذي ولد في جانجا عام 1952، وقد جاء إلي سربرينتشا قادمًا من نادي مجاور هو "بوكسيت فلاسنيتشا"، وقد عرض عليه اللعب في نادي "وزفورنيتش"، الذي كان صاعدًا حديثًا، لكنه في النهاية اختار "سربرنيتشا"، ويقول المدرب "في زفورنيتش عُرض علي راتب كبير، لكنا هنا أعطوني سكنًا ووظيفة كما جعلوني شبة محترف، وكانت تلك فرصة حقيقية بالنسية لي فالأحتراف بعرض صاحبه لكثير من المخاطر، فإذا أصيب مثلًا فتكون الإصابة نهاية حياته الكروية، أنا هنا علي ما يرام، لا أذعب إلي عملي أيام المباريات، كما أتقاضي علاوات علي اللقاءات".

 

وكانت الكرة قد دخلت البوسنة مع خط السكة الحديد، وأسس وقتها نادي"اف سي جوبر" عام 1924، إلا أنه لم يبدأ اللعب جديًا إلا في الثلاثينيات، وجاءت أول نجاحاته في عام 1986، عندما وصل لدور الثمانية في نهائيات كأس يوغسلافيا، أمام فريق بودوتشنوست أحد أندية الدرجة الأولي.

 

وفي تلك البطولة كانت القوانين، فعندما يتعادل الفريقين في الوقت الأصلي يتوجهان مباشرة لضربات الجزاء، وبالفعل اتجه الفريقين لركلات الترجيح، وكان فريق بودوتشنوست يمتلك وقتها حارس قوي هو ماهر ليكوفيتش، وكان يلعب ضمن الفريق القومي اليوغسلافي، الذي فاز بكأس العالم للناشئين في تشيلي عام 1988، إلي جوار كل من بركوفيتش ومبياتوفيتش.

 

لكن ملاجيتش حارس جوبر، أستطاع وقتها التصدي لركلتي جزاء لعبهما ميباتوفيتش وبركوفيتش، وتأهل إلي الدوري التالي، بعد المباراة شكك فريق بودوتشنوست في النتيجة، لأن الحكم نسي احتساب شوطيين إضافيين، مدة كل منهما 15 دقيقة قبل الانتقال مباشرة لضربات الجزاء.

 

يقول اللاعب دراجو، وهو من ضمن أربع لاعبين يلعبون في نادي جوبر :" كان عمري 21 عامًا عندما إندلعت الحرب، لذا لم أتمكن من اللعب في أفضل مراحل عمري"، واليوم يحمل دراجو شارة القيادة، وكان أثناء الإدلاء بهذه التصريحات، كان دراجو يرسم الخطوط البيضاء للملعب.

 

ويتردد أن  نادي إف سي جوبر، لا يمتلك شعبية كبيرة في سربسكا "أي الكيان الصربي في البوسنة الذي يضم الآن سربرنيتشا"، نظرًا لكونه يضم ستة لاعبين مسلمين، في حين يبلع عدد الصرب خمسة، وهو يعد النادي البوسني الوحيد الذي يضم مزيجًا من الصرب والمسلمين، مما يدفع البعض إلي التساؤل عن احتمال حدوث مشاكل بين اللاعبين، إلا أنهم علي عكس ذلك تمامًا، فهم يضحكون معًا، ويصادق ويحب بعضهم البعض، كما كانت يحدث قبل الحرب الشرسة.

 

وقال دراجو :" توجد حماقات في كل مكان كما توجد هنا ايضًا"، فأحيانًا تطلق الجماهير صحيات تذكر الحرب والموت ، بالإضافة إلي نعتهم بالأتراك " اسم تحقيري يطلق علي المسلمين البوسنيين"، في حين يرتدي بعض المشجعين قمصانًا تحمل رموزًا للتشينيك الصرب "مناهضو الحكم الثعماني في العصور الوسطي"، وهو اسم اعتادت الميليشات الصربية استخدامه خلال الحروب اليوغسلافية، وعندما يؤكدون لهم أن الفريق يضم لاعبين منهم صرب ومسلمين، يسعون إلي التقليل من شأن المسلمين، بقولهم "نحن نعرف اصحاب خصلات الشعر المصبوغة الذي يرتدون الأقراط"!.

 

ومن بين اللاعبين المسلمين هناك "ألفيس، أمير، محمد، صافيت"، بالإضافة إلي عادل موكيتش الأكثر موهبة والذي لا يتجاوز عمره الـ16 عامًا، فقد سجل ثلاثة أهداف في مباراة فريقه أمام "بودوتشنوست"، خلال شوط اللقاء الأول، وكان زملائه يهنئونه بحرارة بعد كل هدف، وعندنا تراهم في هذه اللحظات المليئة بالبهجة والفرحة، قد تتسائل عما إذا كانت هذه المشاعر تعكس الحياة الحقيققة في سربرنيتشا، أم أنه يجب أن نضع دائمًا في الإعتبار وفي المقام الأول الضحايا وآلاف من القبور، وكأبة المدافن المحلية والشوارع الخالية في هذه المدينة المنكوبة.

 

وهكذا ينتهي يوم آخر في سربرنيتشا، مخلفًا وراءه العديد من التساؤلات، فهل سيتمكن "صافت ولوقا"، ذات يوم من الأيام الحديث عن عما جري في عام 1995؟!.

 

بالطبع، فقد حان الوقت الذي يستطيعان فيه اللعب معًا، وتقاسم فرحة الفوز بالمباريات، صحيح أن كرة القدم لن تحل جميع المشكلات المعلقة، لكنها تساعدهم علي حل بعضها، فهي أكثر من مجرد لعبة، إذ أنها ترمز للحياة نفسها، وقد تكون أحيانًا أقوي منها، ويوسف ولاعبوه خير دليل علي ذلك.