باحث في التاريخ الكنسي: شخصية "فيرونيكا" أسطورية والمنديل المُعجزي هو نفسه "الكفن المقدس"

أقباط وكنائس

بوابة الفجر


"فيرونيكا.. بين الحقيقة التاريخية والموروث القصصي".. عنوان دراسة آجراها الباحث في التاريخ الكنسي "شريف رمزي"، وهو من مواليد القاهرة فى العام 1979، تخرج فى كلية الحقوق، وعمل كمراسل صحفي ومُعد برامج فى عدد من الفضائيات، له عدة كتب وإصدارات أبرزها "طرق تبدو مستقيمة" (وهو بحث شيق يتناول باستفاضة موضوع الخرافة وتأثيراتها على سلوك الفرد والمجتمع)، وعدداً من القصص والمسرحيات، فضلاً عن مئات المقالات فى صحف ورقية ومواقع إلكترونية، وكلها تصُب فى نطاق الدفاع عن الحقوق والحريات ورفض الاستبداد والتعصب باسم الدين.


وتتمحور الدراسة حول شخصية "فيرونيكا" التي تحظى بهالة كبيرة من القُدسية، وبشعبية جارفة في بقاع شتى من المسكونة.


وبحسب الموروث الشعبي فإن "فيرونيكا" هى المرأة التى مسحت بمنديلها وجه السيد المسيح -حينما وقع تحت ثقل الصليب- بدافع من حبّها له وإشفاقها عليه، وعند عودتها إلى منزلها وجدت أن صورة وجه السيد المسيح قد انطبعت علي هذا المنديل، وقد ظهرت الآلام علي ملامحه، ويُقال أن "فيرونيكا" ذهبت إلى روما وشَفَت الإمبراطور طيباريوس بقوة  المنديل الذي تحمله، وأنها عند نياحتها تركته للقديس كليمنضس أسقف روما.


واختلفت الرويات ما بين قائلٍ بأن "فيرونيكا" هي “زوجة زكا العشار” (لو 19: 2-10)، خرجت هذه السيدة مع رجلها زكا العشار الذي باع كل ما يملك وذهبا ليبشرا بالسيد المسيح حتى بلغا إلى فرنسا. بشّرا بالإنجيل ونشرا المسيحية في منطقة جنوب فرنسا. وقيل أنها هى ايضا من اردات ان تسقى يسوع ولكنه لم يرد، وكانت ايضا ضمن النساء اللواتى تبعن يسوع وخدمنه من اموالهن وفتحن بيوتهن ليعلم فيها.


 لكن رويات أخرى تجعل من "فيرونيكا" نفسها مرثا أخت لعازر، وابنة المرأة الكنعانية، والمرأة نازفة الدم!


في أوائل القرن الخامس عشر تم تحديد منزل "فيرونيكا" كأحد محطات مراحل طريق الصليب في أورشليم، وبعدها تدريجيًا صارت حادثة فيرونيكا -مع غيرها من الحوادث- إحدى المراحل الثابتة في هذا الطريق، ويُقال أن "منديل فيرونيكا" مازال موجودًا في كنيسة القديس بطرس في روما، والبعض يقول بوجوده في أحد المعارض الشهيرة بفرنسا حيث تنيحت القديسة فيرونيكا. وتُعيد لها الكنيسة الكاثوليكية فى 12 يوليو. 


وقد استهل الباحث "شريف رمزي"  دراسته حول الموضوع، بالبحث والتحري في كل تلك المعلومات، وسجل ملاحظاته عليها كما يلي:


أولاً: "فيرونيكا" أسم يوناني معناه "الصورة (الأيقونة) الحقيقية"، وعليه فإن التعامل مع"فيرونيكا" باعتبارها "شخصية حقيقية" يضعنا أمام عِدة تساؤلات هامة:


+ هل كانت "فيرونيكا" (ومنطقياً إنها إمرأة يهودية) تحمل أسماً "يونانياً"، سواء مُنفردأً أو إلى جانب أسمها العبري؟!


+ هل تسمت بهذا الأسم عند ولادتها لأن أبويها "بروح النبوة" كانا على عِلم بأنها ستكون أداة في المُستقبل لمعجزة ظهور وجه المسيح على منديلها؟!


ثانياً: كيف مر حدث جَلَل ومُعجزي كظهور وجه المسيح على منديل "فيرونيكا" دون أن يُحدث أية ضجة في خِضم أحداث الصلب في يوم الجمعة العظيمة، وما أعقبها من هدوء لم تكسر حدته إلا لحظة القيامة، وكيف لم يُشكل هذا العمل المُعجزي فارقاً لدى المُشككين والمُتشككين في حقيقة الرب يسوع نفسه، بمن فيهم تلاميذه الذين تواروا عن الأنظار خوفاً وهلعاً حتى قيامته؟


ثالثاً: ما هى الكيفية التي انطبع بها وجه السيد المسيح على "منديل فيرونيكا".. (يُقال أن وجه المسيح انطبع على المنديل بواسطة الدماء التي كانت تُغطي وجهه لحظة سقوطه بالصليب).. فهل تُشكل تلك الكيفية عملاً إعجازياً حقيقياً يمكن مُقارنته بمعجزة "الكفن المقدس"؟!


رابعاً: قيل أن "القديسة فيرونيكا" تنيحت ودُفنت في فرنسا، فأين جسدها أو ما تبقى من رُفاتها؟!.. والسؤال الأهم، أين منديل فيرونيكا نفسه؟؟


ويستمر "رمزي" بثقة الباحث في تفنيده لفصول القصة (من الناحية التاريخية) شيئاً فشيئاً، مُستشهداً بوقائع تاريخية مُثبتة وبمراجع مؤكدة، فيقول:


+ جميع الروايات التي تتحدث عن "فيرونيكا" كشخصية حقيقة، تُشير إلى أنها انطلقت ومعها المنديل الذي يحمل صورة السيد المسيح إلى روما، وتقابلت مع الإمبراطور طيباريوس قيصر وأمكنها بقوة المنديل أن تُجري له معجزة شفاء!


+ تاريخياً، ولد طيباريوس في نوفمبر سنة 42 ق.م ، وبمرسوم إمبراطوري خاص أصبح وصيًا على العرش في سنة 13 م (أو 11 م في رأي آخر)، وعندما مات أوغسطس قيصر في 19 أغسطس 14 م خلفه طيباريوس، وفي 26 م اعتكف طيباريوس في كابري حيث لاحقته الشائعات بالإسراف في الفجور، وفي 16 مارس عام 37 مات طيباريوس في مسينة بجزيرة صقلية جنوب إيطاليا.


+ وبحسب دائرة المعارف الكتابية فإن "طيباريوس" يُذكر بالأسم في إنجيل لوقا (3: 1) في تحديد الوقت الذي بدأ فيه يوحنا المعمدان خدمته، وذلك في السنة الخامسة عشرة من سلطنته، وهو الإمبراطور الذي عاصر فترة خدمة السيد المسيح وصلبه وقيامته، كما حدث في أيامه استشهاد استفانوس وتجديد الرسول بولس، لكن من المستبعد أن يكون طييباريوس قد سمع شيئًا عن المسيحية، فقد مات طيباريوس في عام 37 م، ولم تكن المسيحية قد انتشرت في أنحاء الإمبراطورية.


ليصل "رمزي" إلى نتيجة مفادها أن الرواية المُشار إليها تصطدم بالواقع التاريخي، حيث أن الحديث عن زيارة "فيرونيكا" لروما وإجرائها مُعجزة شفاء للإمبراطور طيباريوس بواسطة "المنديل"، يتعارض مع حقيقة أن طيباريوس قد توفى في وقت مُبكر جداً من تاريخ انتشار المسيحية، وحتى السنوات التي سبقت موته قضاها بعيداً عن روما.


+ بحسب الرواية المتوارثة فإن "فيرونيكا" عند نياحتها (موتها)، تركت منديلها للقديس إكليمنضس الروماني.


فيكشف "رمزي" أن القديس إكليمنضس وهو ثالث أسقف لمدينة روما، سيم أسقفًا في السنة الثانية عشرة لحكم دومتيانوس الذي امتد بين عامي  81 – 96 م، أي نحو عام 93 م، وتنيح عام 101 م. 


ويتساءل، هل امتد العُمر بالقديسة "فيرونيكا" التي عاصرت السيد المسيح في أورشليم، ومسحت وجهه بمنديلها، وكافأها السيد بظهور ملامح وجهه وآلامه على المنديل، حتى تقابلت مع القديس إكليمنضس ما بين عامي 93 – 101 م في روما، مروراً بسنوات خدمة طويلة في فرنسا، ومع ذلك لا نجد لها ذكراً في أياً من المراجع الهامة في العصور الأولى للمسيحية ولا في كتابات الآباء الآولين؟!


ويتابع: كيف لم تحظى قديسة بهذه المكانة بالاهتمام اللائق بها في الكنيسة الأولى؟!، وكيف لم تُسجَل سيرتها، أو حتى تُعرَف هويتها على نحوٍ دقيق؟!، وهل من المنطق أن تظل قصتها مُختبئة في غياهب التاريخ إلى أن كُشف عنها النقاب في القرن الخامس عشر، ويتم تحديد منزلها في أورشليم كأحد محطات طريق الآلام؟!


ثم يطرح "رمزي" ملاحظة يعتبرها غاية في الأهمية..


+ التاريخ يذكر عن الملكة هيلانة (حوالي 250 - 327 م)، أنها اشتركت مع إبنها الملك قسطنطين في بناء كنائس ببيت لحم وأورشليم، في الأماكن التي عاش وتألم فيها السيد المسيح، ما سبب حركة إحياء لأورشليم وشجع على السياحة إليها. 


ولأن العصر الذي عاشت فيه الملكة هيلانة وابنها قسطنطين هو الأقرب زمنياً للعصر المُفترض أن "فيرونيكا" عاشت فيه، فكان الأسهل والأكثر معقولية أن يتم في وقتها تحديد منزل فيرونيكا، أو حتى تحويله إلى كنيسة أو مزار، فالعائلة المالكة التي اتخذت من روما مقراً لحكمها، لابد وأن تكون قد سمعت عن "فيرونيكا" التي (بحسب الروايات المتوارثة) قد بشرت في أنحاء متفرقة من الإمبراطورية الرومانية، كفرنسا وروما نفسها.


ولم يفت "رمزي" أن يطرح سؤالاً محورياً:


آلا يُعتبر البحث والتحري في معلومات أصبحت عند البعض من كثرة تداولها بمثابة "التقليد المقدس"، مُحاولة لإثارة البلبلة والتشكيك في مكانة إحدى القديسات؟!، فيجيب: قطعاً لا.


ويُعلل "رمزي" تناول الموضوع من حيث التوقيت، بأن أسبوع الآلام من كل عام يكون موسم للحديث عن "فيرونيكا" وترويج سيرتها وصورها، والتواتر المُستمر والمُستديم يُساهم في تثبيت أي معلومة مهما كانت نسبة الخطأ فيها، أو كما ذكر سلفاً تكون بمثابة "التقليد المُقدس"، وعندها يكون للمُشككين من ذوي النوايا السيئة الذريعة للتشكيك في مُجمل المُعتقدات المسيحية.


+ اللافت أيضاً، أن أسم "فيرونيكا" تحمله إبنة الباحث، وأنه شخصياً يعتز بلقب "أبو فيرونيكا"، لكنه يعود فيؤكد أنه لم يطلق الأسم على طفلته تيمُناً بالقديسة "فيرونيكا"، فقناعته الشخصية وقتها أن الحقيقة التاريخية تُثبت عدم وجود شخصية بهذا الأسم.


وهُنا لُب الموضوع..


+ فبحسب الدراسة، "فيرونيكا" تعبير يوناني معناه "الصورة الحقيقية"، والشخص المَعني بهذا التعبير هو السيد المسيح نفسه صاحب الصورة الحقيقية التي انطبعت بطريقة مُعجزية لا يُمكن أن تحتمل التشكيك فيها على أي نحوٍ، وبخاصة بعد أن أُخضعت للبحث والدراسة العلمية والمعملية على أيدي عُلماء في الطب والكمياء والفيزياء وغيرها من التخصُصات، باستخدام آجهزة علمية غاية في الدقة.


وبحسب الدراسة أيضاً، "فيرونيكا" أو "الصورة الحقيقية"، ليست إلا إشارة لكفن السيد المسيح، الذي انطبعت عليه صورة جسده وآثار جراحاته في "لحظة القيامة" نتيجة لصدور إشعاع من جسده المقدس، على عكس ما تسرده رواية "منديل فيرونيكا" من أن الصورة التي انطبعت عليه كانت بالدماء. 


فخلال الفترة الواقعة بين 1978 و 1981 آجرى 31 عالماً أميركيا 120 ساعة من الاختبارات بالأشعة السينية وفوق البنفسجية على قماش الكفن، وقد أطلقوا على عملهم "مشروع البحث في كفن تورينو"، وفي النهاية توصلوا الى أن الآثار لم تكن نتيجة استخدام أصباغ أو ألوان، وأن الصورة لم تتكون من صنع فنان ولكنها في الوقت نفسه عصية على التفسير بالطرق العلمية الحديثة،  وخلص الفريق الأميركي الذي ضم فيزيائيين نووين وكيمياويين حراريين وفيزيائيين حياتيين وأطباء مختصين بجمع الأدلة الجنائية إلى "أن الصورة لغز ما زال مستمراً".


وبعكس منديل فيرونيكا الذي لم يظهر أبداً لحيز الوجود، إلا من خلال أقاويل (ومؤخراً بعض الصور التي تُروج لها مواقع الانترنت باعتبارها لمنديل فيرونيكا، خلافاً للحقيقة)، فإن الكفن المُقدس موجود ومكانه معلوم (كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان في تورينو بإيطاليا)، حيث يُحفظ في صندوق ذي تصميم خاص ومكيف، ويشاهده سنوياً ملايين الزوار.


+ لكن من أين جاء الربط بين "الكفن المُقدس" الذي هو واقع حي يشهد لنفسه عَبر التاريخ، وبين قصة "منديل فيرونيكا" التي هي في الواقع محض فلكلور من القصص الشعبي؟!


التفسير الوحيد المنطقي والمقبول -بحسب الدراسة- يكمُن في كون "الكفن المُقدس" ولكي يسهُل اخفاؤه وحمله من مكان لآخر، كان يتم طيه بحيث تختفي معالمه داخل ثنياته، عدا وجه السيد المسيح الذي يبقي ظاهراُ للعيان، فكان يُطلق عليه "المنديل المقدس" Holy Mandylion.


 فمن أورشليم إنتقل الكفن إلى إديسّا (الرَّها) عاصمة السريان، ومنها إلى القسطنطينية (عام 944) ليغادرها إلى أوروبا مع الصليبيّين (عام 1204)، وهناك تنقَّل الكفن في المدن الأوروبيّة: من لِيريه (فرنسا) إلى شامبيري (فرنسا) فتورينو (إيطاليا) حيث استقرّ (منذ العام 1578) ولا يزال.


وتستدِل الدراسة على ذلك من خلال تعدد الصور والأيقونات المنسوبة لـ "فيرونيكا"، والتي تحمل نفس ملامح وآثار جروح السيد المسيح المطبوعة على الكفن المُقدس، والتي تؤكد صدقية الافتراض بأن جميع هذه الصور والأيقونات ليست سوى أعمال فنية مستوحاه من "الصورة الحقيقية" المطبوعة على الكفن المقدس، وبخاصة أن تلك الصور لا يظهر فيها وجه السيد المسيح فقط، بل الرأس والشعر والعنق أيضاً، وفي بعضها أجزاء من الجسم.


++ لكن الباحث في التاريخ الكنسي "شريف رمزي"، وبرغم كل ما استند إليه من براهين لتفنيد رواية "فيرونيكا" تاريخياً، لايزال يرى في قصة تلك السيدة التي مسحت وجه المسيح بالمنديل حُباً وإشفاقاً، في وقت تخلي عنه فيه حتى تلاميذه، أيقونة للتأمل وعنواناً للمحبة الصادقة، حتى وإن لم تثبت صحتها تاريخياً.