طارق الشناوى يكتب: محمود مرسى بلا سوليفان!!

الفجر الفني

بوابة الفجر


لا تنطبق على الفنان الراحل محمود مرسى مواصفات النجم التقليدى المتعارف عليه، فهو دائما يحلق خارج السرب، حالة استثنائية فى تاريخنا، موقعه على الخريطة الإبداعية غير قابل للتكرار، فنان تستطيع ببساطة أن تلمسه، بقدر ما هو ممثل عبقرى أمام الكاميرا فهو مواطن بسيط فى الشارع!!

إذا كان النجم فى العادة يحرص على الحضور الإعلامى حتى يزداد بريقه، فإن محمود مرسى يخاصم الإعلام، بل لا يسمح له حتى بالاقتراب ولو من بعيد لبعيد، وإذا كان النجم لا يترك نفسه بعيدا عن الساحة ويفكر دائما فى معادلات فنية تعيده إلى البؤرة، فإن محمود قد يواصل الابتعاد ولا تعنيه أبدا تلك الدائرة.

إنه يسأل نفسه أولًا: «ما الذى يضيفه لى هذا العمل الفنى، وما الذى سأضيفه إلى الشخصية الدرامية؟»، وإذا كانت الإجابة: «لا جديد»، فإنه يبتعد مهما كان الإغراء المادى، بل ومهما كان احتياجه المادى.

أتذكر أننى التقيت به آخر مرة فى صيف 2003 فى عرض خاص لفيلم يقدمه مجموعة من الشباب الجدد بكاميرا الديجيتال اسمه «حبة سكر»، كانت مفاجأة لى أن أرى محمود مرسى بين الحاضرين، فهو مقل جدا فى الحضور داخل أى تجمع فنى أو إعلامى، وأمام دهشتى التى أظن أنه قرأها على وجهى، بادرنى قائلًا: «أنا مع الشباب ومتحمس جدا لهذه التجربة مهما كان المستوى الذى يمكن أن يسفر عنه الفيلم»، قلت له: «مهما كان؟»، أجابنى: «مهما كان»!!

ولم أشاطر أستاذى محمود مرسى الرأى، المهم ما الذى تسفر عنه الشاشة. وبعد نهاية العرض تضاءل ترحيب محمود مرسى، وإن كان لم يفقد إيمانه بأن الشباب قادر على تقديم فن جيد. قال لى بصوت عالٍ: «عندك حق يا طارق»، ولم يشأ على الملأ الإفصاح عن الذى كان يقصده بـ«الحق»، وأنا على المقابل اكتفيت بابتسامة!!

كان يكفيه فى السنوات الأخيرة أن يسجل عملًا من التراث المسرحى العالمى بصوته للبرنامج الثقافى فى الإذاعة المصرية مقابل مئات قلية من الجنيهات، لأنه توقف عن السينما منذ عام 1986 بعد أن قدم آخر أفلامه «حد السيف».. أى أنه قرابة 18 عاما قبل رحيله فى مثل هذه الأيام 2004، ابتعد عن السينما ورغم ذلك لم يقبل أن يتنازل!!

عرف محمود مرسى كيف يمزق أوراق السوليفان، يحاور رجل شارع عندما يلتقيه فى كل شىء: السياسة، الأسعار، الأفلام، الأغانى.. لكنه فى المقابل يرفض أن يذهب إلى أى مهرجان ولا يسمح بأن تسجل له الكاميرا أو الميكروفون أى لقاء ويرفض أى تكريم، ويقول: «أنا لست كاتبا ولا مخرجا، فكيف يكرموننى؟ أنا مجرد مؤدٍّ»، والحقيقة أن الأداء به أيضا إبداع، ومحمود مرسى من القلائل الذين ينطبق عليه تعبير المؤدى المبدع!!

قدم محمود مرسى للسينما قرابة 25 فيلما، فكان يقبل فيلما ويعتذر عن عشرة.. ورغم ذلك عندما تم اختيار أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية كان نصيبه منها سبعة «الباب المفتوح» هنرى بركات، «الليلة الأخيرة» كمال الشيخ، «السمان والخريف» حسام الدين مصطفى، «شىء من الخوف» حسين كمال، «زوجتى والكلب» سعيد مرزوق، «أغنية على الممر» على عبد الخالق، «ليل وقضبان» أشرف فهمى، سبعة أفلام من بين 25، أى أكثر من 25% من إنتاجه.

كان فنانا محلقا خارج سرب السينما المصرية ولا يزال محلقا بأعماله الفنية التى كلما شاهدناها تذكرنا أنه كان بيننا فنان عظيم آثر أن لا يكون صدى لأحد، فكان فقط صوتا متفردا، فنان يعشق الإبداع ويهرب من الإعلام حتى لا يصبح على حد قوله «فرجة».

أكتب هذه الكلمة فى ذكرى مرور 11 عاما على رحيل أستاذى محمود مرسى، فلقد كان يدرّس لنا فى معهد السينما «مادة حرفية الإخراج»، واكتشفت أن موهبة المعلم من أهم إبداعات الأستاذ التى تستحق مقالا آخر!!