صلاح سالم يكتب: دار الأوبرا المصرية

الفجر الفني

بوابة الفجر


فى يوم الجمعة الماضية، استمعت واستمتعت بالفنان الكبير هانى شاكر، شاديًا بعضًا من أجمل أغانيه التى قدمها على مدى ربع القرن الأخير، مطلا من على مسرح دار الأوبرا المصرية، التى ترسخ دورها الطبيعى تحت قيادة الفنانة إيناس عبد الدايم، باعتبارها قلعة رئيسية فى صون التراث الفنى المصرى، وفى ترسيخ قيمه الحديثة.

وذلك فى وقت تكاد تضرب فيه العشوائية كل مجالات الحياة المصرية، وفى قلبها الفن الذى فقد بريقه حتى لم يعد الإنسان قادرًا على الذهاب إلى السينما أو المسرح، بفعل اختفاء كل الأعمال العاطفية الهادفة، والوطنية الجادة، ولم يعد أمامنا سوى تلك القبلة الفنية لنتذكر مصر التى كانت، خصوصًا حفلات سيدة الغناء العربى أم كلثوم، وكيف كان حضورها يستمعون فى نشوة صامتة وكأنهم فى طقس تعبدى مقدس مشحون بالإيمان، أو موسيقى عبد الوهاب عندما كانت تهامس آذان مستمعيه بجندوله، وكليوباتراه، فى شبه صخب ملحمى مستوعب لأفق تاريخى يشعر به الفنان وينفعل به الملتقى، أو أنّات المبدع فريد الأطرش صاحب أشجى ألحان العربية وأطرب أصواتها التى كانت دقات عوده تكاد تخلع القلوب من مواضعها إلى حيث تتحرك الأوتار.

وبالذات صورة الفنان عبد الحليم حافظ واقفًا على المسرح فى حالة «صوفية» فاقدًا الشعور بالوجود المادى من حوله، مندمجًا إلى حد التماهى فى الكلمة التى ينطقها، ومنتشيًا إلى درجة التوهج باللحن الذى يصاحبه، فيأتى صوته بالصدق اللا نهائى. أو صورة فيروز، تلك الروح النبيلة، وهى تناجى مدينتنا السليبة زهرة مدائن التاريخ والأديان رمزًا لشرف الأمة الضائع فى همس صاخب كأنه صوت الضمير الذى لا يعلوه صوت آخر، تلتاع معه الأرواح وتتحرك القلوب.

ذكرنا هانى شاكر بحضور الواثق على مسرح الأوبرا، حيث الصوت الأنيق، والصدق الكبير، بهؤلاء الرواد الكبار، حيث صدح بأكثر من عشر أغانٍ من بينها أربع جديدة من تلحين أحد كبار الفنانين السعوديين، مما كشف عن تماذج جديد بين الفن المصرى ونظيره العربى، وأعاد ذكرى الشعراء العرب الكبار الذين غنت لهم أم كلثوم وأيضًا عبد الحليم حافظ، خصوصًا الأمير عبد الله الفيصل، وجورج غرداق، فضلًا عن نزار قبانى، وهو الأمر الذى انعكس فى حضور عربى لافت، سواء فى الفرقة الموسيقية التى وقفت خلف الفنان الكبير، أو فى الحضور الجماهيرى الذى شارك فى الاستمتاع بهذا الطقس الفنى، والذى تبدى حماسه الواضح عندما ختم هانى شاكر بأغنيتين وطنيتين، أولاهما له، وثانيتهما للفنان عبد الحليم حافظ ترجع إلى زمن المجد العربى «أحلف بسماها وبترابها»، التى أثارت حماس الجميع من مصريين وعرب، فوقفوا جميعًا مصفقين بحماس بالغ ونشوة فائقة، تعبيرًا عن حال من الحنين والشوق إلى ذلك الزمن الجميل ليس فقط فى الفن، حيث العذوبة والأصالة فى الكلمات والألحان والأصوات، بل وأيضًا فى السياسة والثقافة، حينما كانت مصر تعيش يقظتها وتقود أمتها، وكان جل العرب يلتفون حولها، ويسيرون خلفها واثقين مطمئنين، وطائعين مختارين، معجبين بحداثتها الفنية وصلابتها السياسية، وإخلاصها القومى.. فشكرًا للدكتورة إيناس عبد الدايم، وفريق العمل المحيط بها، والمتحمس لها، على جهدها الكبير فى حراسة هذه القلعة الفنية، وتذكيرنا بهذا الزمن الجميل.