بيوت الأزياء الكبيرة تتسابق على "الصناعات اليدوية "

الفجر الطبي

أرشيفية
أرشيفية


أصبحت الحرفية، بكل ما تتضمنه من معان فنية وجمالية، عملة لا تقدر بثمن في عالم الموضة المترفة، مما يفسر كيف أن كثيرا من بيوت الأزياء، من «لويس فويتون»، و«شانيل»، و«ديور» إلى «هيرميس»، و«بوتيغا فينيتا»، تركز وتتغنى بخبراتها أو أناملها الناعمة كلما سنحت لها الفرصة. فهذه الأخيرة تبدع لنا أجمل الأزياء أو الإكسسوارات، وهو ما سلط عليه الفيلم الوثائقي «ديور وأنا» الضوء أخيرا بتتبعه كل خطوة قام بها المصمم راف سيمونز خلال تصميمه أول تشكيلة «هوت كوتير» للدار، مبرزا علاقته بالأنامل الناعمة والخياطات اللواتي تجاوز بعضهن الخمسين بعد أن دخلن المهنة، وهنا صبايا، ومدى عشقهن لعملهن وتفانين فيه إلى حد السهر إلى الفجر لإنهاء فستان من دون تذمر. بل تغلبهن العاطفة ويجهشن في البكاء وهن يتابعن ثمرة جهودهن على منصة العرض. «ديور» ليست وحدها التي تعرف قيمة هذه الأنامل وأهمية خبرتهن في الدفع بها إلى الأمام بمنحها ثقلا يوزن بالذهب، فـ«هيرميس»، و«بوتيغا فينتيا»، و«لويس فويتون»، و«شانيل» أيضا، تدرك مدى هذه الأهمية وتطبقها على أرض الواقع باستراتيجيات بعيدة المدى.

السبب بالنسبة لبعض المراقبين، ستار ذكي للبيع، أو على الأصح لتبرير الأسعار الباهظة، وبالنسبة للبعض الآخر هو أسلوب لكي تنأى هذه البيوت بنفسها واسمها عن الموضة السريعة والرخيصة، التي باتت تثير كثيرا من الجدل السلبي، نظرا للطرق غير الإنسانية التي تتعامل بها مع العاملين، بدءا من تشغيل الأطفال إلى الأجور الزهيدة التي يخجل الغرب من ذكرها، فضلا عن أماكن العمل غير الآمنة والأوقات الطويلة. ولأن المطلوب من هؤلاء إنتاج أكبر قدر من المنتجات في وقت قصير لتحقيق الربح السريع، فإن المرء لا يتوقع منتجات بجودة عالية وحرفية دقيقة. وهذا تحديدا ما تحاول بيوت الأزياء الكبيرة أن تتصدى له وتكون بمثابة مضاد له بالتركيز على مفهوم «صنع باليد» والعودة إلى التقاليد العريقة والمتوارثة. وربما هذا هو القاسم المشترك بين كل بيوت الأزياء، على اختلاف الأساليب التي تتبعها، إلى حد أننا لاحظنا في العقد الأخير، شبه تسابق على توقيع عقد طويل المدى مع هذه التقاليد، سواء بافتتاح معامل متطورة تراعي الجوانب الإنسانية إلى حد يجعلها تشبه فنادق 5 نجوم بمساحاتها وتسهيلاتها المتنوعة التي تأخذ بعين الاعتبار احتياجات العاملين فيها، أو بالاحتفال بالحرفيين في كل المناسبات وتحويلهم إلى أبطال. فهم أولا وأخيرا، جزء لا يتجزأ من صناعة الموضة المترفة، ولا اختلاف بأن عملهم هو الأداة التي تفرق بين الراقي والمتميز، وبين ما تطرحه محلات الموضة المترامية في شوارع الموضة بأسعار منخفضة تخاطب العامة.

أما السبب الذي تعلنه هذه البيوت، فهو الرغبة في التفرد تلبية لطلبات زبون يحب التميز. كما أنك لو سألت أيا من كبار المسؤولين فيها، لجاءك رده بأن لهفته على كل ما هو تقليدي وعريق، نابعة من خوفه على مصير الحرف القديمة والتقاليد المتوارثة، كونها باتت معرضة للانقراض في حال لم يتم إسعافها سريعا. وهذا يعني إما بضخها بالمال، والأمر هنا يتعلق بدعم أو احتضان ورشات صغيرة وعائلية، قد تكون في أماكن نائية لا يعرف عنها الناس شيئا، أو ضخ بعضها بدماء شابة تتعلم من الجيل القديم أصول المهنة، وتشجعهم على حب المهنة وتقديرها، في ظل عدم ميل الجيل الصاعد إلى الصناعات اليدوية وتفضيله وظائف أكثر بريقا. هذه كلها عوامل ساعدت على عزوف البعض عن امتهان حرف يدوية، وعلى انتشار الموضة السريعة على حساب الجودة العالية.

طبعا، تعطش الأسواق النامية لموضة سريعة كانت له نتائج مدمرة على بعض الحرف في صناعة الموضة الراقية تحديدا. ففي غالب الأحيان، تكون أولى الضحايا، الورشات الصغيرة التي تديرها عائلات لا تتمتع بإمكانيات عالية للدخول في مواجهة تحديات العصر أو أي منافسة مع المجموعات الكبيرة، التي أصبح بعضها مثل سمك القرش يلتهم كل ما في طريقه، نظرا لقدراتها المادية العالية. وربما هذا سبب آخر يجعل بعضها يحتضن الحرف اليدوية ويبرز أهميتها ودوره في إنعاشها، يتمثل في تلميع صورتها وإضفاء جانب إنساني عليها. فحتى الورشات أو الشركات العائلية الصغيرة، التي استطاعت أن تتجاوز العاصفة لم تكن لتستمر لولا دعم مادي خارجي من بعض هذه المجموعات أو بيوت الأزياء، مثل «لويس فويتون» أو «هيرميس» أو «شانيل». هذه الأخيرة مثلا، يعود لها الفضل في إنقاذ ما لا يقل عن 11 ورشة، هي: «ماسارو» المتخصصة في الأحذية، و«ليماري» في تصميم الزهور والريش، و«ميشيل» في تصميم وصناعة القبعات، و«ديسرو» لصناعة الأزرار، و«غوسن» لصناعة الذهب والفضة، و«لوساج» و«مونتيكس» للتطريز، و«غييه» لصنع الورد، و«كوس» لصناعة القفازات، وأخيرا وليس آخرا «باري» لصنع الصوف والكشمير الاسكوتلندي. ولا شك أن البقية ستأتي، فـ«شانيل» أكدت طوال العقد الأخير أنها تقدر الصناعات اليدوية والحرفية، وطالما تحقق النجاح والأرباح، فهي لا تبخل أن تتقاسم هذه النجاحات مع آخرين. بدأت «شانيل» هذه العملية في عام 2002 حين كانت كثير من الشركات العائلية الصغيرة تمر بظروف اقتصادية صعبة أودت بمصير كثير منها إلى الإفلاس. فباريس كانت تحتضن في بداية القرن الماضي المئات من الورش الحرفية المتخصصة في كل مجالات الموضة، لكنها بدأت تختفي بعد الأربعينات والخمسينات أو تتقلص. دار «ليساج» مثلا اضطرت إلى تخفيض عدد العاملين بها من 120 إلى نحو 50 فقط في الثمانينات. كارل لاغرفيلد انتبه إلى هذا الأمر وتدخل بمساعدة الدار لاحتوائهم ومدهم بطوق نجاة. وكانت النتيجة أن لاغرفيلد لم يساهم في إنقاذهم فحسب، بل أيضا في تسليط الضوء عليهم بعد أن كانوا جنودا مجهولين، بتصريحه دائما بأنهم من يصنع الموضة ومن دونهم لا تكتمل بالصورة التي نراها عليها الآن. الجميل فيما قامت به «شانيل» أنها لا تتملك هذه الورش بطريقة أنانية بل تفتح لها الباب للتعامل مع بيوت أزياء أخرى، لأن فكرتها من احتضانها، كانت دائما إنقاذها من الانقراض وليس تملكها. فشركة «باري» الواقعة في منطقة «هاويك» بين تلال وهضاب اسكوتلندا، مثلا، لم يشفع لها تاريخها، الذي يعود إلى أكثر من 140 عاما، من الوقوع في الإفلاس، وكانت على وشك إغلاق أبوابها، عندما تدخلت الدار الفرنسية لإنقاذ ما لا يقل عن 176 عاملا توارثوا المهنة أبا عن جد. نفس الشيء ينطبق على بقية الورش.

بدورها، تعتز دار «بوتيغا فينيتا» الإيطالية بثقافة متجذرة في مفهوم «صنع باليد» أو «صنع في إيطاليا»، من دون أن تتجاهل الجانب الإنساني والبيئي في هذه العملية. الجانب الإنساني يتمثل في احترامها للحرفيين الذين توارثوا تقنيات قديمة في جدل حقائب يدها، ومن باب الخوف على هذه الأساليب من الانقراض، افتتحت منذ سنوات مدرسة، لتعليم أجيال جديدة فن صناعة المستقبل بالتركيز على التقاليد القديمة. وأخيرا كثفت مدرستها «La Scuola dei Maestri Pellettieri de Bottega Veneta» الجهود مع جامعة «IUAV» في البندقية، لخلق دورة جديدة تتخصص في مجالي تصميم الحقائب وتنمية المنتجات المرفهة. بموجب هذا الاتفاق، يتم قبول 12 طالبا فقط، يتلقون دروسا في كل ما يتعلق بالجلود الطبيعية، من العناية بها إلى طرق اختيارها وتقطيعها ودبغها وتصميمها. كل هذا يتم على يد حرفيين في معملها بـ«مونتيبيلو» من خلال التفاعل المباشر معهم، والتعلم منهم كل الخطوات التي يمر بها الجلد قبل أن يتحول إلى حقائب تقدر بآلاف الدولارات. وإذا كان المعمل يقدم لهم تجربة فعلية وتطبيقية، فإن الجامعة توفر لهم دروسا نظرية تُركز على تاريخ تصميم الحقائب.

وكانت الدار الإيطالية، تحت قيادة مصممها الفني توماس ماير، قد افتتحت المدرسة في عام 2006، بهدف تدريب جيل شاب من الحرفيين، قد يلتحقون بها في معملها العصري «مونتيبيلو فيشانتينو»، علما أن معملها هذا إنجاز آخر تفتخر به، لأنه أقرب إلى قصر أو فيلا ضخمة مبنية بأسلوب عصري منه إلى معمل بالمفهوم التقليدي. فهو يراعي البيئة ونالت عليه جائزة القيادة في الطاقة والتصميم البيئي في العام الماضي، لتكون أول دار أزياء تحصل على الجائزة، خصوصا وأنها أخذت في عين الاعتبار عند تصميمه متطلبات وراحة العاملين فيها، من منطلق أن احترامهم جزء من احترام الدار. استغرقت عملية تصميمه وبنائه 7 سنوات وهو الآن يحتضن أكثر من مائة حرفي متميز ومائتي مساعد لهم. وربما هذا ما شجع على فكرة أن يحتضن الجيل القديم جيلا جديدا من الشباب يقدرون الموضة المترفة، والأهم من هذا، يفهمون ما يجعلها مترفة.

يقول المصمم توماس ماير: «رغم نمو (بوتيغا فينتا) وتوسعها لم ننس أبدا أننا نحتاج إلى حرفيين يتمتعون بمواهب وقدرات عالية لإنتاج منتجات جلدية تتمتع بجودة وتتميز عن غيرها، فهدفنا لا يقتصر على ضمان استمرارية الدار ونجاحها من خلال مدرسة متخصصة في تعليم وتوريث الخبرات لأجيال قادمة، بل القيام بهذا الأمر بطريقة ملهمة تحفز على معانقة هذه التقاليد للإبداع فيها أكثر».

الحديث عن الحرفية لا بد وأن يجرنا إلى «هيرميس». فهذه الدار تحقق المليارات بفضل استراتيجية اتبعتها منذ سنوات تركز فيها على الحرفية وعلى مفهوم «صنع باليد» إلى حد أنها كانت أول من ابتدع فكرة لائحة الانتظار لحقائبها الأيقونية. مع الوقت أثبتت أن استراتيجياتها ناجحة بكل المقاييس. وبما أن أغلب أسهمها لا تزال ملكا عائليا، وهو ما تستميت في الحفاظ عليه، فهي تقدر الشركات العائلية الصغيرة وتعمل على دعمها بأي شكل. أخيرا تدخلت لدعم «شانغ زيا» (Shang Xia) وهي شركة صينية صغيرة، يوجد لها فرع في باريس وشنغهاي وبجين، وتوفر أزياء وإكسسوارات وأدوات منزلية لا مثيل لها، كونها نتاج خبرات طويلة وتقنيات قد تمتد إلى عدة قرون. صحونها البيضاوية الشكل، مثلا، تعود طريقة صنعها إلى سلالة مينغ. فهي من نوع نادر من البورسلين، لا يتقن فنونه ويعرف أسراره سوى 72 عاملا في منطقة جبلية نائية في الصين. كل واحد من هؤلاء الحرفيين يتخصص في جانب معين من صناعة هذه الصحون التي تأتي بسمك رفيع لا يتعدى الملمتر الواحد، بدرجة تجعلك ترى الضوء بداخلها. المعلم الكبير في هذا المعمل اسمه لو، ويُقال إنه الوحيد في العالم بأسره، من يعرف النسبة الدقيقة لخلط الطين والماء لصنع هذه التحف الصغيرة. شركة «تشانغ زيا»، التي تأسست في عام 2008 تحاول أن تكون الجسر بين الماضي، وما يمثله من حرفية، والحاضر من خلال منتجات مترفة، بدعم من «هيرميس» التي دخلت بكل ثقلها في هذه المغامرة باستحواذها على 90 في المائة من أسهمها وصرف نحو 10 مليون يورو في السنة لكي تكون بنفس مستوى منتجاتها الرفيعة. وفي الوقت ذاته، لكي تدعم جهودها في الحفاظ على إرث صيني عريق متمثل في حرف قديمة لا يعرف عنها كثير منا شيئا، وللأسف بدأت تندثر في عصر العولمة والجري وراء الربح السريع. ما تقوم به هذه الشركة الصغيرة، حجما وعمرا، أنها تجول كل أرجاء الصين بحثا عن هذه الحرف وتعمل على تحديثها بشكل يواكب متطلبات الزبون التواق إلى كل ما هو فريد. ونجحت في تحقيق الهدف، بدليل أن دار كريستيز، عرضت كثيرا من منتجاتها الصينية المعاصرة في مزاد خاص في شهر سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، فاق كل التوقعات، في إشارة واضحة إلى أن العالم انقسم إلى قسمين: الأول يريد أن يستمتع بالموضة بأقل التكاليف غير مهتم بما يجري وراء دهاليزها، والثاني لا تهمه الأسعار ما دام سيحصل على قطع فريدة من نوعها، وهذا يعني كثيرا من الحرفية والخبرة المتوارثة التي لا تُعوض عن الأيادي البشرية والعاطفة التي يصبونها في كل منتج.