طارق الشناوى يكتب: شذوذ وعجز وإفراط

الفجر الفني

بوابة الفجر


أول من أمس وسط ضجة إعلامية ضخمة تابعناها قبل بداية المهرجان، عرض خارج التسابق الرسمى الفيلم الفرنسى «حب» للمخرج جاسبر نوى، والفيلم ناطق بالإنجليزية حيث بات كثير من الأفلام غير الأمريكية أو البريطانية تنطق أيضا بالإنجليزية، حتى توفر لنفسها فرصًا أوسع للتوزيع فى دول العالم، إلا أن الفيلم الذى يعرض مجسما وبالأبعاد الثلاثة هو أقرب ما يكون إلى أفلام «البورنو» الطويلة، التى فى العادة تنطوى على حبكة درامية هامشية، لتصبح مبررًا لمشاهد جنسية صريحة ومباشرة، وهذا هو بالضبط حال الفيلم الفرنسى.


تزاحم الصحفيون والنقاد على طابور الدخول للقاعة، واستمروا صامتين حتى نهاية العرض ساعتين وربع الساعة، وبعد كلمة النهاية تردد بقوة الصوت الغاضب معلنا الاستهجان، لا شىء غير مشاهد من الجنس، البطل يعيش فى سعادة مع زوجته وطفله الذى لم يتعد العامين، والمشهد الأول علاقة بين الزوجين، ثم يتلقى رسالة من أم عشيقة سابقة، تُصبح هى المحرك لكل مشاهد الجنس التالية، والسيناريو ينتقل من مشهد إلى آخر وبلا هوادة، فهو يحمل كل مواصفات فيلم «البورنو»، ولا يترك أى إمكانية ولو عابرة من الممكن أن تمر من دون أن يستثمرها فى مشهد طويل، وكأنه يستعرض قدرته على خلق تنويعات جنسية متعددة.


الفيلم عُرض رسميًّا خارج التسابق الرسمى، لا يوجد أدنى ضرورة إلى استخدام تقنية التجسيم فى صياغة هذا الفيلم، فكل اللقطات كان من الممكن التعامل معها من خلال الصورة ذات البعدين، ورغم ذلك فهو الفيلم الوحيد حتى كتابة هذه السطور الذى لجأ إلى تلك التقنية، كأن المخرج لم يكتف بأن يقدم جنسا صريحا فأضاف إليه الأبعاد الثلاثة.


إنه فى رأيى هو الفيلم الأسوأ بين الأفلام التى عُرضت خارج التسابق الرسمى، بينما الفيلم الذى يحتل بين أفلام المسابقة لقب الأسوأ من خلال تقييم المجلات السينمائية، التى تُصدر أعدادًا يومية موازية مثل «سكرين» و«فيلم فرانسيز» و«فاريتى» و«هولييود» وغيرها، سوف تكتشف أيضا الفيلم الفرنسى «مارجريت وجوليان» الذى حقق المركز الأخير منفردا، لأنه وصل إلى ذروة الجنس بتلك العلاقة التى جمعت بين أخ وأخته، وما أراده المخرج فاليرى دونزيل، إنه يبحث عن تنويعة متجاوزة كل ثنائيات الحب التقليدية التى خلدتها الروايات والحكايات الشعبية عبر الزمن، ولكن يظل أن إضافة عنصر الأطفال فى أثناء السرد السينمائى بلا ضرورة ولا منطق أفسدت الكثير، كما أنها كثيرًا ما كانت تصيب هذه المشاهد بالنفور، ناهيك بالإسراف فى التناول.


ونأتى إلى تنويعة جنسية أخرى، إنها أفلام السحاق التى تتناول العلاقة بين امرأتين، قبل عامين فاز بالسعفة الذهبية الفيلم الفرنسى «الأزرق الأكثر دفئا» للمخرج التونسى عبد اللطيف كشيش، شاهدنا العلاقات السحاقية بين بطلتى الفيلم.


وقد احتلت المساحة الأكبر بإسراف، هذا العام بين أكثر الأفلام المرشحة لنيل السعفة الذهبية التى تعلن مساء غد الفيلم الأمريكى «كارول» إخراج تود هاينس، وبطلة الفيلم كيت بلانشيت، تؤدى دور امرأة ثرية متزوجة، ولكنها تقيم علاقة جنسية مع بائعة شابة فقيرة فى أحد المتاجر.


وكانت قد طالت بلانشيت قبل عرض الفيلم شائعة نسبت إليها فى تصريح باعترافها بإقامة علاقات سحاقية فى حياتها الواقعية، ولكنها نفت تماما ذلك فى المؤتمر الصحفى، الذى أعقب عرض الفيلم رسميًّا فى المهرجان، مؤكدة أن من كتب الحوار حذف جملة فى نهايته، تؤكد فيها أنها لم تمارس تلك العلاقات، إلا أنها أضافت فى الحوار أن هذه العلاقات لم تعد تثير اهتمام أحد.


فى كل الأحوال بلانشيت الحاصلة على الأوسكار مرشحة هى أيضا لجائزة أحسن ممثلة.


لم يكن المخرج مسرفًا فى تلك المشاهد السحاقية.


وتبقى تنويعة جنسية أخرى التى تعبر هذه المرة عن العجز، نتوقف أمام السينما التى من الممكن أن تلمحها، وهى سينما المشاعر، لا يعنيها من الجنس مشاهده بقدر ما يصبح السؤال عن الضرورة والمنطق والهدف، الفيلم عُرض داخل المسابقة الرسمية ومرشح بقوة للجائزة وعنوانه «شباب» للمخرج الإيطالى بلولو سورنتينو، يقدم عجوزين فى الثمانين من عمرهما الأول، واضع موسيقى ومايسترو معتزل يؤدى دوره مايكل كين، والثانى مخرج سينمائى هارفى كيتل، المايسترو اعتزل، والمخرج لا يزال بداخله جذوة الإبداع، المخرج والموسيقى يذهبان معا إلى فندق صحى يقع فى جبال الألب بسويسرا، وهناك نرى الحلم والواقع يتجسدان أمامنا، نشاهد الرغبة المستحيلة ويقابلها فورا العجز برؤية سينمائية، تضفى على الفيلم جماله الذى تميز به سورنتينو عبر مشواره بأفلامه التى لم تتجاوز العشرة.


وكان المخرج قبل عامين قد نال جائزة الأوسكار وقبلها الجائزة الكبرى فى «كان» عن فيلمه «الجمال العظيم». والجائزة الكبرى هى التى تلى فى الأهمية جائزة السعفة الذهبية. الفيلم يبدو إبداعيًّا، كأنه يكرر قول الشاعر أبو العتاهية «ألا ليت الشباب يعود يوما لأخبره بما فعل المشيب»، لا يزال الصديقان تحركهما رغبات جنسية، ولكن يجمعهما العجز المشترك، وكل منهما صار يشكو إلى الآخر مشكلاته التى صارت مزمنة مع تضخم البروستاتا، التى هى واحدة من أشهر مظاهر الشيخوخة، ولكن هذا لا يمنع من أن يعبرا بين الحين والآخر عن رغبات مدفونة تحت الرماد.


المخرج باقتدار يلعب فى مساحة رائعة وفيلمه مرشح بقوة للسعفة، وهو مرشح لجائزة الإخراج، وكيتون من حقه التطلع لأفضل ممثل، كل شىء مسخر من أجل أن تتجلى فيه تقنيات السينما وآفاقها فى السرد العصرى الذى تتميز به كادرات المخرج، وهى تتطلع إلى لغة إبداعية خاصة، لأن اللا شعور الكامن والخيال الجامح فى تلك المنطقة العمرية كثيرًا ما يفتح شهية السينمائى على التعبير.


إنه ليس فيلما عن عجز الشيخوخة ورغبتها فى الانسحاب والتقاعد، كما يمثلها مايكل كين، لأن أمامنا أيضا مخرجا، هارفى كيتل، يعلم أنه يعد فيلمه الأخير ورغم ذلك لا يتوقف، المايسترو أيضا وفى مشهد يستدعى «جادليو» الذى أدى دوره حسين رياض فى «شارع الحب» يعود ليس لإنقاذ موقف، ولكنه لأنه تلقى دعوة من ملكة بريطانيا لقيادة الأوركسترا، وكان قبلها يحلم بقطعة موسيقية تشارك الأبقار فى ترديدها، وفى هذا المشهد الختامى تلتقى أصوات من الماضى والحاضر ونستمتع إلى نبض الشباب والمايسترو يُمسك بالعصا، الهاجس الجنسى لكلا البطلين لم يتوقف، ولكنه يلتقى مع هواجس أخرى أبدع المخرج الإيطالى فى استدعائها من الذاكرة، لنرى التاريخ متداخلًا مع الزمن الحالى، هتلر وبوذا وستالين فى مشاهد متتابعة تضفى على الفيلم زخما إبداعيا خاصا، لا عجز ولا خوف، ولكن إقبال على الحياة حتى لو ظلت تلك النظرة، التى شاهدناها على الأفيش لعجوزين يتطلعان بحسرة على امرأة تفيض أنوثة!!