عادل حمودة يكتب: سيادة الرئيس رد اعتبار كاتب مصرى تعرض للإهانة من سفير السودان

مقالات الرأي



يا الاعتذار.. يا الطرد

■ مارست حقى فى التعبير عما ارتكب البشير من جرائم تطارده بسببها المحكمة الجنائية الدولية فتعرضت لشتائم من السفير بصوته وفى رسالة من تليفونه المحمول 
■ قبلت بمبادرة من وزارة الخارجية بتصفية ما حدث وكان شرطى الوحيد اعتذار السفير وشكرنى الوزير على سعة صدرى

رحمة الله عليك يا نزار قبانى.

يوم الخميس الماضى تذكرت ما قرأت لك: الكلمة يمكنها إذا صممت أن تنقل الجبال من مكانها.. والبحار من شواطئها.. والحكومات من سلطاتها.. وتعيد كتابة التاريخ.. وترسم من جديد خريطة الكرة الأرضية.

لكن.. بعض الحكام يجد فيها منافسته.. وضرته.. وجاريته.. وشريكته فى الفراش لا فى الحياة.. فلا يتردد فى قص شعرها.. ولسانها.. ويلبسها حجابا.. بدعوى إثارة الناس وتحريضهم على الحرية.. والثورة.

على أنه برغم شبكات التنصت وبطاريات المدافع الثقيلة التى تغطى السماوات العربية فإن الكلمة ستظل مستمرة فى طيرانها رغم كثافة النيران المسلطة عليها.

لن تستطيع أى سلطة أن تمنع الكلمة من الهبوط فى أى مطار عربى تختاره.. لأن العصافير لا تطلب تأشيرة دخول.

تذكرت ذلك الدستور الذى صاغه قبل 34 سنة سيد الشعراء فى زماننا دون أن يتصور ما جرى ومدى اليتم الذى عاشته الكلمة من بعده.

كان يوم الخميس الماضى أول أيام رمضان.. ولطول ساعات الصيام وملل المسلسلات بدأت فى قراءة ما فاتنى من كتب سياسية وأدبية تاركا تليفونى المحمول صامتا.. وسجلت المكالمات المفقودة رقماً مميزاً اتصل ثلاث مرات دون أن أجيب.. وعندما أجبت فيما بعد سمعت من يقول:

أنا السفير السودانى.. عايز تعدم البشير يا عادل يا حمودة؟

كنت فى ذلك الصباح قد نشرت فى الفجر مقالا عددت فيه حيثيات اتهام الرئيس السودانى فى خمس تهم توصف بجرائم حرب وإبادة جماعية وضد الإنسانية ما دفع جهات قضائية فى جنوب إفريقيا لطلب توقيفه ومنعه من مغادرتها وهو يشارك فى قمة إفريقية أخيرة.

وتسلل البشير هاربا من مطار عسكرى يقع على أطراف جوهانسبرج بعد أن ادعى بشجاعة أنه سيواصل حضور اجتماعات القمة حتى آخرها.

وسجلت فى المقال توريطه السودان فى حرب أهلية استمرت سنوات وانتهت بفصل الجنوب عن الشمال.. وقتل 200 ألف مواطن فى دارفور.. وفتح أبواب البلاد لتنظيم القاعدة.. مما عرضها لغارات جوية دمرت الكثير.. كما خططت الجماعات الإرهابية المتحالف معها لاغتيال رئيس مصرى.. هو حسنى مبارك فى أديس أبابا.. مما أدى إلى توتر العلاقات بين مصر وإثيوبيا.

وآخر دليل على ذلك الوثيقة السعودية التى كشفها موقع ويكيليكس مؤخرا وفيها أن قطر ضخت مبالغ كبيرة من الدولارات لصالح الحكومة السودانية عبر بنك إعمار دارفور خلال قتالها فى منطقتى هيجلبج وغرب دارفور.. واستاء رئيس السلطة فى دارفور التيجانى السيسى من تلك التصرفات.

سجل طويل من الجرائم السياسية والطائفية والإرهابية ارتكبها نظامه خلال 26 سنة من الديكتاتورية انتهت بمسرحية انتخابية جددت من سلطته الرئاسية.

لم أكد أنطق بجملة واحدة مما كتبت شارحا ومفسرا حتى انفجرت ماسورة من السباب لم أصدق أنها يمكن أن تخرج من دبلوماسى مفروض أنه تربى على الحنكة والحكمة والكياسة.. بل.. لم أصدق أن تخرج من مواطن سودانى ولو كان يعيش على أطراف غابة منسية فى الغرب.. أو كوخ من الصفيح فى أم درمان.. أو على سطح مركب صيد فى المقرن.

هل وصل رجال البشير إلى هذا المستوى؟.. هل يمثلونه بحق؟.. هل يعبرون عنه بصدق؟.. هل يجسدونه فى مناصبهم ومهامهم؟

وما يلفت النظر ويثير الدهشة.. أن ذلك حدث فى أول أيام شهر رمضان.. و جناب السفير كان صائما بالقطع.. تعلم من رئيسه المعروف بتشدده ما يجب على المسلم تجاه المسلم.. فهل السباب من قواعد الدين الحنيف التى أمره بها الله ورسوله والبشير؟

وفى مواجهة ذلك الطوفان المتفجر بكل ما يجيد الرجل من ألفاظ منتقاة لابد أنها متأثرة بثقافته لم أجد سوى إسكات التليفون.. لكنه.. أصر على معاودة الاتصال أكثر من مرة.. وعندما يئس من الاستجابة ليواصل ما بدأ.. كتب رسالة طالبنى فيها بالرد على الهاتف دون أن يتردد فى وصفى بما لا يجوز.. مسجلا على نفسه دليلا على ما ارتكب.

إن ميزة البشير ومساعديه أنهم يرتكبون الجرائم دون تردد.. دون حسابات.. بل.. ويتركون الدليل ظاهرا ليسهل على جهات التحقيق الإدانة.. ولا يعكس ذلك شجاعة بقدر ما يعكس شعورا فى أعماقهم بأن ما ارتكبوا أمر طبيعى.. وترسب ذلك الشعور بعد تكرار ما فعلوا فى سنوات طوال.. أثروا فيها سلبا على ما يتمتع به الشعب السودانى من حضارة وثقافة ورحابة.. حسب تجربتى الصحفية معه.. خلال عملى مديرا لتحرير مجلة الوادى.. المجلة الوحيدة التى عبرت عن أحلام التكامل بين البلدين.

طلبت السفير بدر عبد العاطى المتحدث الرسمى لوزارة الخارجية شارحا له ما حدث.. وعندما ذكرت له رقم الموبايل الذى ارتكبت منه الجريمة سارع بالتأكيد أنه رقم السفير السودانى فى القاهرة (المحمود عبدالرحيم ولم أكن أعرف اسمه) وطلب مهلة ليتصل به ويعرف ما حدث من وجهة نظره.

بعد الإفطار عاد عبدالعاطى ليقول: إن السفير السودانى أراد أن يفتح حواراً معى حول ما كتبت عن البشير لكنه سرعان ما فقد أعصابه عندما أجبت بنعم على سؤاله هل تريد إعدام البشير؟ فى بداية المكالمة فخرج منه ما خرج.. معترفا بما فعل.. مسجلا على نفسه انفلاتا لا يجوز من سفير مهما تعرض له من ضغوط.. وإلا أفقد بلاده ما تريد قبل أن يفقد ما فيه.

إننا أمام سفير لا يعمل لمصلحة بلاده.. ولا يتمتع بخصائص مهنته.. ولا يجيد تنفيذ مهمته.. أراد أن يقنعنى بأن رئيسه كامل الأوصاف فإذا به يزيد من الاتهامات الموجهة إليه.. أراد أن يبرئ البشير فأدانه وورط نفسه.. جاء يكحلها فأعماها.

لجأت إلى وزارة الخارجية بحكم دورها فى حماية مصالح المصريين.. وتعاملها المباشر مع البعثات الدبلوماسية.. ولكى لا أجد من يعلق على شماعتى تراجع العلاقات بين القاهرة والخرطوم إذا ما لجأت إلى القضاء.. وأصبحت القضية حديث المدينة.

قبلت بمبادرة الخارجية التى اعتبرها وزيرها سامح شكرى فى مكالمة هاتفية سعة صدر منى.. ولم يكن الصبر على ما حدث نوعا من القبول باعتداء خارجى على حرية الصحافة قبل الاعتداء على شخصى وإنما حرصا على مصالح عليا لم يدرها السفير، رغم أنها مهمته الوحيدة فى القاهرة.

لكننى.. اشترطت قبل أن أجلس مع السفير فى وزارة الخارجية بناء على طلبه أن يبعث برسالة اعتذار تمحو بكلماتها رسالة السباب.. ويبدو أنه فى ظل فرحه بتعيينه سفيرا فى برلين بعد نجاحه فى مهمة المتحدث الرسمى نسى أن يذكرنى بالموعد الذى حدده مع سفير السودان دون الاتفاق معى.. فلم استجب إليه.. فالرجل لم ينفذ ما طلبت.. لكن.. عبد العاطى أخبرنى أنه أرسل كارتا إلى مكتبى مع مخصوص دون أن اعرف ما فيه.. وبالرجوع إلى مكتبى أنكروا ذلك.

أفتى أكثر من مستشار محترف بأن القانون يسمح لى بتقديم بلاغ ضد السفير السودانى إلى النيابة العامة التى يجب عليها التحقيق معه ولكن بطريقة مختلفة.. كما أن من حقى رفع دعوى مباشرة أمام المحاكم المختصة.. لكننى.. سأرجئ القرار أسبوعا حتى أعطى الخارجية والرئاسة وجهات معينة أخرى معنية فرصتها كاملة لرد اعتبار كاتب وصحفى مصرى مارس حقه فى التعبير فوجد ردا مؤلما.. لم يخطر ببال أشد الناس كراهية للقاهرة والخرطوم معا.