عادل حمودة يكتب: أنا ومرشد الرئيس 3

مقالات الرأي



أغرب تبرير للسادات لعدم اختيار أسامة الباز وزيرا للخارجية: جسمه نحيف

■ لم يقل للأسد أن منصب الوزير لم يعرض عليه مضيفا: أردت أن أكون بجوار الرئيس
■ قدراته العقلية الهائلة سمحت له بفعل أكثر من شىء فى وقت واحد: يكتب ويتكلم معا 
■ تحدث نيابة عن جمال مبارك فى لقاء مع بوش وتشينى فتقرر إبعاده عن مجموعة ابن الرئيس
■ سيارته الرسمية كانت ريجاتا بيضاء.. ودعوات العشاء كانت تنتهى بتناول حمص الشام من عربة على كورنيش النيل بجانب مكتبه

وحسب رواية أنيس منصور التى سردها فى حضور زاهى حواس ومصطفى الفقى ومصطفى النجار وعمرو بدر فإنه سأل السادات وهما يفطران معا عن سبب عدم تعيين الباز وزيرا.. فلم يجب عن السؤال واكتفى بالقول: كل يا أنيس.. ولكن.. أنيس لم يأكل.. وكرر السؤال.. فقال السادات: اشرب القهوة يا أنيس.. على أنه لم يشرب القهوة.. وأمام الإلحاح الذى أحس به الرئيس من الكاتب المقرب منه أجاب: أسامة مش جسم وزير.

توقفت طويلا عند تلك الجملة.. وتساءلت: هل للوزير فى مصر مواصفات جسدية؟.. هل نقيس طوله وعرضه وقوة عضلاته قبل اختياره؟.. هل يخضع لشروط دخول الكليات العسكرية؟.. ألم يكن صفوت الشريف بنفس الطول وأصبح وزيرا للإعلام.. بل.. واستمر فى منصبه أكثر من ثلاثين سنة ولم يعترض أحد على قصر قامته؟

وما يزيد الحيرة أن الباز يمتلك قدرات عقلية هائلة.. يمكنه أن يفعل أكثر من شىء فى وقت واحد.. يكتب تقريرا للرئيس وهو يتحدث عن ثقافة الموالد الشعبية.. أو يتكلم فى التليفون ويحاور شخصا أمامه.. مثلا.

وربما.. كانت نحافته سببا مباشرا فى تقوية ملكاته العقلية.. وسرا من أسرار تواضعه.. وسببا مباشرا لتميزه.. وتفرده. هبط هو وبطرس غالى (وزير الدولة للشئون الخارجية) عاصمة إفريقية لحضور مؤتمر سياسى فيها.. وما إن خرجا من المطار حتى فوجئا بالسفير يقول لهما: عندى خبر سيئ.. حقائب الوفد سرقت.. وقبل أن يسقطا من طولهما أضاف السفير: لكن.. الخبر الجيد أن الحقائب ستباع فى سوق الحرامية وعلينا شراؤها قبل التفريط فى محتوياتها.

كانت حقيبة بطرس غالى تحتوى على ثلاث بدل فرنسية وستة قمصان وخمس كرفتات ونوعين من العطور وزوجين من الأحذية بجانب ملابس داخلية ومن ثم كان عليه أن يدفع لاستردادها مبلغا كبيرا تجاوز الألف دولار.. بينما كانت حقيبة الباز متواضعة.. فلم يدفع سوى مبلغ متواضع.. يقل عن المائة دولار.

وسافرت معه إلى الجزائر فى رحلة نصف يوم للمساعدة فى ترتيبات إعادة العلاقات مع مصر بعد قطعها بسبب معاهدة كامب ديفيد.. كنت صديقا لمسئولين مؤثرين فى حزب جبهة التحرير وعلى رأسهم أمين الحزب محمد الشريف مساعدية.. وجاءت الرحلة بعد مهرجان سياحى وثقافى أشرف عليه محمد نسيم وكان وقتها رئيسا لهيئة تنشيط السياحة وشارك فيه يوسف شاهين وآثار الحكيم وعزت العلايلى.. وجلسنا معه فى فندق إليتى المقر السابق لقيادة القوات الفرنسية المحتلة نسأله عن حقيقة قضية انحراف جهاز المخابرات التى فجرها جمال عبدالناصر بعد الهزيمة.. واستخدام الفنانات فى السيطرة الجنسية.. وهذه قضية أخرى.

فرضت علينا حبال المباحثات السياسية الطويلة ألا نعود أنا والباز إلى القاهرة فى اليوم نفسه كما كنا نأمل.. وكانت المشكلة أننا جئنا بالملابس التى علينا ويصعب علينا استكمال الرحلة بها.. فقررنا شراء ما يسترنا فى يوم آخر.. نزلنا إلى شارع ديدوش مراد.. اسم مفجر الثورة فى نوفمبر 1954.. وأشهر شارع تجارى فى العاصمة.. وقبل أن ندخل بوتيكا مميزا بثيابه الفرنسية أشار إلى المتاجر الشعبية الملاصقة قائلا: ندخل هناك أرخص.. قلت: فرق السعر ليس كبيرا.. الجزائر يا دكتور.. بلد رخيص فى كل شىء.. لكنه.. أصر على موقفه مضيفا: الناس هنا اشتراكيون سيتهموننا بالبرجوازية كفاية تهمة العمالة الأمريكية.

اشترينا كل ما يلزمنا ولم يدفع كل منا أكثر من عشرة دولارات.. وفيما بعد.. كان يشير إلى صدره وهو يقول: قميص المتاجر الجزائرية.. وبمرور الزمن تحولت الملاحظة إلى نكتة.. فبعد عشر سنوات سألته وأنا أشير إلى صدره: قميص الجزائر أيضا؟

ولاحظت فى دعوات العشاء أنه لايكاد يأكل.. ويكتفى بقزقزة اللب الأبيض.. أو التهام ما تيسر من الترمس.. وكان يمكن أن تضبطه وهو خارج من دعوة طعام وهو يقف على عربة حمص شام تقف على كورنيش النيل بالقرب من مكتبه.

والباز هو السفير الوحيد الذى لم يخدم فى سفارة خارجية.. وقد ترك عمله فى النيابة العامة لينضم إلى السلك الدبلوماسى من باب إدارة الأبحاث فى وزارة الخارجية وقت أن كان مسئولا عنها أحمد صبرى الذى تبناه وقربه وعهد إليه بالملفات القانونية الصعبة.

وظل لقب وكيل أول وزارة الخارجية اللقب الذى يحمله حتى آخر يوم فى حياته.. وكل ما منحه اللقب من مميزات سيارة ريجاتا بيضاء.. كان يصرف سائقها إذا ما سهر سهرة خاصة عند أصدقاء.. أو فى مسرح.. أو افتتاح معرض.. ليعود إلى بيته بسيارة تاكسى.. أو مترو الأنفاق بعد أن سكن فى المعادى الجديدة.

كانت شقة المعادى الجديدة ضيقة.. تزاحم فيها الأثاث بما يصعب الحركة فى طرقاتها.. وقد تناولت أنا وزوجتى العشاء معه آخر مرة عام 2008 فيها بدعوة منه بعد أن نجوت من حكم بالسجن فى قضية صعبة رفعها ضدى شيخ الأزهر السابق الدكتور سيد طنطاوى.. ولاحظت ضيق المسافة بين مقاعد الصالون ومائدة الطعام.. ولاحظت وهذا هو الأهم.. أنه بدأ يكرر الجمل التى يقولها أكثر من مرة فى وقت قصير لا يزيد عن دقائق.. منذرا بما أصابه فيما بعد.

وبتدخل من ابنه الوحيد باسل انتقل الباز إلى فيللا فى أحد تجمعات القاهرة الجديدة.. وجاء الانتقال فى وقت مناسب خانته وخذلته فيه ذاكرته.. أقوى ما فيه.. وعرفت من زوجته الأخيرة أميمة تمام فى ذلك الوقت أنه نسى أرقام خزانة مكتبه أكثر من مرة.. مما فرض تدخل خبراء من المخابرات العامة لفتحها.. لخطورة ما بها من وثائق ومستندات رسمية.. خاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.. أبرز الخبراء فيها.. وربما الوحيد الذى يعرف كل رموزها معرفة شخصية.. وحسب ما سمعت فإن علاقته بهم كانت تسمح له بأن يتحدث إليهم وهو مستلقٍ وهم جالسون حوله يستمعون ويتعلمون.. وربما.. ينفذون.

وربما ضاعف من سوء حالته الصحية جزاء سنمار الذى تلقاه من عائلة مبارك بعد كل ما قدمه إليها.. لقد جرى إبعاده عن مركز اتخاذ القرار بعد رحلة جمال مبارك التى وصفت بالسرية فى الأسبوع الأول من شهر مارس 2006.

كان الأمريكيون حذرين من توريث الحكم فى مصر.. لكن.. متانة العلاقات مع نظام مبارك فرضت عليهم استقبال ابنه فى البيت الأبيض.. ولكن.. بطريقة غير رسمية.. فى لقاء بدا غير مدبر.. وإن كان فى الحقيقة مدبرا.

لم يشأ الرئيس جورج بوش ولا نائبه ديك تشينى أن يستقبلاه استقبالا رسميا فعهدا إلى ستيف هاردلى مستشار الأمن القومى بدعوته إلى مكتبه للحوار.. ووضعه تحت مراقبة كاميرات يمكن بما تصوره قراءة شخصيته طبقا لقواعد علم لغة الجسد.. لكن.. الأهم أن يظهر تشينى مندهشا وكأنه فوجئ بوجوده.. ليطلب منه الانتقال إلى مكتبه.. وهناك.. تتكرر الدهشة المتعمدة من بوش هذه المرة.

فى تلك الزيارة كان الباز مرافقا للوريث.. وبحكم ثقافته وبراعته وخبرته استأثر بالحوار بينما ظل جمال مبارك صامتا متحفظا بحكم طبيعة شخصيته.. لكنه.. لم يحفظ للباز جميله بإنقاذه من صمته المزمن.. وعندما عاد إلى القاهرة اشتكاه إلى والده.. فكانت مؤشرات النهاية أسرع مما يمكن تصوره وتوقعه.

وسبقت هذه الزيارة زيارة أخرى جرت إلى واشنطن قبل عدة سنوات كان الهدف منها التمهيد لعملية التوريث وإقناع مراكز الأبحاث الاستراتيجية المؤثرة فى صنع القرار هناك بشخص جمال مبارك بعد تقديمه فى صورة الشاب الليبرالى.. المثقف.. المؤمن بالاقتصاد الحر.. المنفذ لقواعد التبعية الأمريكية.. ودبر برنامج الرحلة مركز الأهرام للدراسات السياسية وكان يرأسه الدكتور عبد المنعم سعيد ومركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية وعبر عنه جون التمان.. ورافق ابن الرئيس فى الرحلة أسامة الباز وأحمد عز وحسام بدراوى وأسامة الغزالى حرب ومنى ذو الفقار وقبل أن ينفذ برنامج واشنطن سبقت زيارة ليوم واحد إلى شيكاغو.

وفى هذه الزيارة تحدث جمال مبارك فى ندوة مفتوحة أدارها التمان داخل إحدى قاعات فندق ويلارد إنتركونتيننتال الفندق المفضل للوفد الرسمى المرافق لمبارك فى زياراته الرسمية للعاصمة الأمريكية.. وكان السؤال الصعب بالقطع عن التوريث.. ولم يسمع أحد إجابة قاطعة عنه.. وراح جمال مبارك يراوغ ويناور ويهرب دون أن ينفى أو يؤكد.. وكان ذلك تفسيرى لما جرى وقد عبرت عنه فى لقاء مع الجزيرة أجراه معى حافظ الميرازى.

ودبر لقاء مغلقا بين رموز من الجالية المصرية وجمال مبارك حضره الباز وحده دوناً عن باقى أعضاء الوفد.. وكان الهدف تشكيل تنظيم من المصريين المهاجرين لم أر هدفا له فى ذلك الوقت سوى دعم التوريث.

لكن.. تلك الرحلة كانت آخر تجمع لتلك المجموعة المميزة حول جمال مبارك.. فبعد العودة بدأ تفككها.. فخرج أسامة الغزالى حرب منها بتقديم استقالته من لجنة السياسات.. وانكمش دور منى ذو الفقار.. وخفت تأثير أسامة الباز تدريجيا حتى انتهى تماما عام 2006.. الوحيد الذى سيطر على كل شىء كان أحمد عز.. أزاح غالبية الآخرين وبقى هو مسيطرا على عقل وقلب وضمير الوريث.

وربما.. لم يقبل جمال مبارك أن يناديه الباز باسم التدليل جيمى كما كان يفعل منذ سنوات طويلة عندما بدأت علاقته بوالده وهو مجرد صبى صغير.. لكن.. المؤكد.. أن هناك من أقنعه بأن الباز دقة قديمة.. لم يعد يصلح مستشارا فى زمن الموبايل وسوشيال ميديا.

على أن السؤال الأهم.. من الذى زرع بذرة التوريث فى عقل مبارك؟.. غالبية الأصابع تشير إلى رجل الأعمال إبراهيم كامل.. وهو زميل دراسة للباز فى الولايات المتحدة.. ونسب إليه أنه قال لمبارك وهم يلعبان معا الطاولة: مش ذنب جمال أنه ابنك هو شاب ومواطن من حقه أن يكون رئيسا.. وربما بدت تصرفات الباز فى رحلتى واشنطن مع ولى العهد وكأنه موافق على التوريث.. كما أن هناك من تولى تعليم الوريث سياسيا بطلب من الباز.. مثل أسامة الغزالى حرب الذى تولى شرح وتفسير محطات وشخصيات التاريخ المصرى الحديث مستعينا فى الشرح بأفلام تسجيلية من جريدة مصر الناطقة.

كان إبراهيم كامل يحاول بتبنى دعوة التوريث أن يحمى نفسه من دعاوى قضائية ترفعها البنوك على شركاته المتعثرة.. والمؤكد أن الباز صديقه المقرب حاول مساعدته كثيرا.. لكنه.. لم يكن يتمتع بعقلية بارعة فى الاستثمار.. وكان الأفضل أن يظل محاضرا جامعيا.. معبرا عن أفضل موهبة يتمتع بها. وقد اختلفت مع الباز حوله.. ولكن.. ذلك لم يكن الخلاف الوحيد.. كانت هناك خلافات أشد.. وصلت إلى حد القطيعة شهورا بيننا.. إلى العدد القادم.



فى إحدى زيارات أسامة الباز إلى دمشق وجد الرئيس السورى يدعوه إلى مكتبه الذى يشغل بدروم بيته المكون من ثلاثة طوابق.. وما إن انتهت مباحثاتهما الرسمية حتى بدأت الدردشة الخاصة.. وبينما كان الباز مندمجا فى شرح وجهة نظره فى تطورات القضية الفلسطينية فوجئ بسؤال طارده كثيرا: لِمَ لم تعين وزيرا للخارجية؟

كان السؤال منطقيا.. فهو مستشار رئيس الجمهورية ومرشده وحامل رسائله.. يختار رؤساء الحكومات.. ويرشح شاغلى الوظائف الحساسة.. بجانب أنه أكثر الدبلوماسيين خبرة.. فما الذى يحرمه من منصب وزير الخارجية؟

قال الباز للأسد الأب: إننى أفضل أن أظل بجانب الرئيس.

لكن.. الحقيقة.. أن منصب وزير الخارجية لم يعرض عليه.. بل ولم يفكر السادات أو مبارك فى إسناده إليه.