عادل حمودة يكتب: أنا ومرشد الرئيس 4

مقالات الرأي



حدد الرئيس الأمريكى جيمى كارتر يوم 28 مارس 1978 ليوقع هو وأنور السادات ومناحم بيجن على معاهدة الصلح بين مصر وإسرائيل فى حفل يقيمه البيت الأبيض.. يلقى فيه كل رئيس خطابا لا يزيد على ربع ساعة.

طلب السادات من أسامة الباز كتابة الخطاب ولكن ليس بالشدة التى كتب بها الخطاب الذى ألقاه فى الكنيست عند زيارته المباغتة للقدس فى 19 نوفمبر 1977.. واشترط السادات أن يكون الخطاب الأخير مكوناً من خمس فقرات.. كل فقرة مكتوبة بحروف كبيرة.. فى صفحة مستقلة.


أسامة الباز فى عام 2005: الديمقراطية فى مصر لن تبدأ قبل عام 2015

■ سمعت تصريحه فاتهمته بالتسويف ومحاباة النظام ووقعت بيننا أول قطعية شخصية!

■ رفضت دعوته لعشاء على شرف صهر الملك فهد وقبلت دعوته لوداع سفير أمريكى يهودى

نفذ الباز تعليمات رئيسه.. وخصص فقرتين من الخمس للقضية الفلسطينية.. وبرر ذلك بأن سكرتيره الخاص فوزى عبد الحافظ نسى كتابتهما.. لكن.. التبرير سرعان ما تغير بعد نحو الشهر فى استراحة القناطر حيث قال السادات للباز: «السبب يا أسامة إن الفلسطينيين هددوا باغتيالى فلم أقبل بالحديث عن توفير الحياة لهم وهم يسعون لموتى».. وأضاف مستطردا: «لو فعلت ذلك لتصوروا أننى أنافقهم وأخاف منهم».

سبق توقيع معاهدة السلام توقيع معاهدة أخرى فى منتجع كامب ديفيد بعد 18 سبتمبر 1978 بعد مفاوضات شاقة استمرت 13 يوما.. لم يتوقع لها كارتر أكثر من ثلاثة أيام.. وشارك فيها من الجانب المصرى وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل الذى تركها مستقيلا والدكتور بطرس بطرس غالى وزير الدولة للشئون الخارجية وحسن التهامى نائب رئيس الوزراء وأحد رجال المخابرات السابقين ونبيل العربى المدير القانونى لوزارة الخارجية وأسامة الباز الذى حمل لقب وكيل وزارة الخارجية.. اللقب الذى لم يغيره حتى رحيله عن الحياة.

فى تلك القمة لمع اسم الباز بدرجة تجاوزت الحدود الوظيفية إلى الحدود الوطنية والدولية.. فقد كان أشد المفاوضين براعة وشراسة فى الوقت نفسه.. لدرجة تصور معها كارتر أنه قد قتل السادات.. فتسلل بهدوء إلى كوخه ليطمئن عليه.. ونشرت الأهرام فى الصفحة الأولى صورة للباز وكارتر معا يراجعان وحدهما الاتفاق النهائى.. فتعرف المصريون على الباز لأول مرة وسط تلك الهالة السياسية التى أحاطت به.. خاصة بعد أن قال كارتر لمعاونيه كما نشر فيما بعد «إن السادات أرحم من أسامة الباز» فى التفاوض.

لقد اعتبر كارتر أن الباز أكثر أعضاء الوفد تطرفا.. خرج بذلك الرأى بعد أن اجتمع معه هو وأهارون باراك المستشار القانونى لمناحم بيجن 11 ساعة لصياغة مسودة الاتفاقية.. وعرف كارتر وقتها أن الباز كان رئيسا لاتحاد الطلبة العرب أثناء دراسته الدكتوراه فى هارفارد.. وخلال المفاوضات بدا واضحا أن السادات يثق فيه.. وكانت بينهما شفرة خاصة وإشارات سرية متفقين عليها.. لو تضمن النقاش أمرا لا يقبله الباز كان يرفع رأسه عن الورق الذى يكتب فيه ملاحظاته ثم يعود إليه.. فيفهم السادات أنه يدخل منطقة خطرة.

وسمعت من الباز أن السادات كان يحافظ على هدوء أعصابه بمشاهدة أفلام فريد الأطرش التى حملها معه من القاهرة.. كما كان يحرص على تدخين البايب كلما تأزمت المفاوضات.. بجانب ممارسة رياضة المشى.

ولم يكن السادات ليتردد فى السخرية من مساعديه لإخراج ما فى صدره من ضغوط.. فعندما طلب منه نبيل العربى ألا يوقع على الاتفاق راح يستمع إليه طويلا ثم قال: «ما سمعت دخل من هذه الأذن وخرج من الأخرى هل تعرف ليه؟ أنتم سباكون وأنا رجل دولة أعرف هدفى جيدا.. تحرير الأرض حتى لا يحارب أحفادك فى سيناء».. وفى مواجهة أخرى مع محمد إبراهيم كامل قال السادات تعليقا على ما سمع: «وزير خارجيتى يعتقد أننى مغفل» والتفت إليه مضيفا: «ما الذى جرى لك يا محمد؟ ألا تعلم ما أمر به؟ إذا لم تحتملنى فمن يحتملنى؟».

ومنذ ذلك الوقت والباز يمتلك ملفات العلاقات المصرية -الإسرائيلية والقضية- الفلسطينية بجانب العلاقات المصرية الأمريكية.. وفى الوقت نفسه وضعت ملفات السعودية والخليج وليبيا فى يد صفوت الشريف.. واحتفظت المخابرات العامة بملف السودان.. بما يشير إلى حقيقة خاصة فى صياغة السياسة الخارجية المصرية أن أول من يرسمها رئيس الجمهورية وآخر من ينفذها وزير الخارجية.. وفيما بعد.. عندما اختفى الباز من السلطة انتقلت ملفاته إلى المخابرات العامة.. وقفز إلى سطح الاهتمام مديرها عمر سليمان لدرجة أننا تصورنا أنه سيعين وزيرا للخارجية خلفا لعمرو موسى بعد اختياره أمينا عاما للجامعة العربية فى عام 2001.

وكان اهتمام الباز بالقضية الفسطينية لافتا للانتباه ويناسب طبيعته البسيطة.. فما أن ينتهى ياسر عرفات من مباحثاته مع مبارك حتى يدعوه لتناول العشاء فى مطعم الكبابجى المطل على النيل والملحق بفندق شيراتون الجزيرة «سوفتيل فيما بعد».. وكثيرا ما دعيت لحضور نقاش الصحفيين والسياسيين مع الرئيس الفلسطينى الذى كان يكتفى رغم الرائحة المغرية للحم المشوى بعسل النحل.. يتناوله طوال اليوم.

بتزكية من الباز حاورت أبو عمار فى فندق الأندلس.. مقر إقامته الذى أصبح فيما بعد مقر اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية واختارته زوجة محمد مرسى مقرا لسكنهما.. ولاحظت ونحن نتناول طعام الإفطار اكتفاء أبو عمار بعسل النحل الذى كان يحمله معه مساعدوه ويأتون به من اليمن.. ولاحظت أيضا أنه يطعم بيده كل رجاله الذين يرافقونه.. فهل كان نوعا من الكرم الأبوى؟.. أم كان خوفا من وضع السم فى الطعام؟

وفى «الكبابجى» أيضا تناولت طعام الغداء مع بريماكوف بدعوة من الباز.. كان بريماكوف المراسل السابق لصحيفة البرافدا فى القاهرة قد أصبح مديرا للمخابرات الروسية بعد تفكك الاتحاد السوفيتى.. وما أن تركها حتى تولى رئاسة الوزارة.. وبصفته الأخيرة جاء إلى القاهرة.

تحدث جورباتشوف عن تجربة الخصخصة قائلا: لم يكن أحد فى بلادى يمتلك شيئا.. وما أن بدأت الخصخصة حتى تكونت عصابات فاسدة استولت على كل ما كان يملكه الشعب ملكية عامة.. ووجدنا أن من الأفضل الانتهاء من الخصخصة فى أسرع وقت حتى يتحول زعماء عصابات المافيا إلى رجال أعمال يعملون فى النور ويمكن محاسبتهم.

وكانت نصيحته لنا: أن نستفيد من تجربتهم ونسارع بالانتهاء من الخصخصة حتى يتوقف الفساد فى القطاع العام.

ولم أعرف هل كانت تلك النصيحة مناسبة لنا أم أنها تعكس تجربة مجتمع آخر بظروفه المختلفة.

وسمعنا منه اعترافا مثيرا: «إن جورباتشوف جاء إلى لندن فى غواصة ليتناول عشاء مع رئيسة الحكومة مارجريت تاتشر ورصد الغواصة ضباط فى البحرية البريطانية دعوا مصورى البارتزى لتصويرها.. ولكن.. «السيدة الحديدية» أوقفت ذلك.. ووصفت ما جرى بالمهزلة.. ففى تلك الليلة اعترفت تاتشر بأن رجل أمريكا فى الاتحاد السوفيتى وافق على تأدية المهمة.. فما أن عاد جورباتشوف إلى موسكو حتى أعلن سياسة البروستريكا والجلاسنوست.. وراحت الدوائر تدور وتدور حتى تفككت الإمبراطورية الحمراء لتترك الساحة الدولية لقوة واحدة وحيدة.. الولايات المتحدة.

وقد التقيت جورباتشوف فيما بعد فى بيروت وكان هناك يلقى محاضرة مقابل 50 ألف دولار فى جمعية خاصة تحمل اسم الأميرة انستازيرا.. صغرى أميرات عائلة رومانوف التى أسقطها الشيوعيون بعد الثورة البلشيفية وألقوا بها بعيدا عن حكم روسيا.. وكانت تلك الجمعية قد تكونت لتطالب إنجلترا بصناديق الذهب التى وضعتها عائلة رومانوف وديعة فى بنكها المركزى.

سألنى الباز: هل اقتنعت بجورباتشوف؟.. هل وثقت فيه؟.

أجبت: وجدته رجلا خفيفا.. يتصرف مثل نجوم السينما.. لا يكف عن البحلقة فى النساء ونحن فى مصعد فندق فينسيا الذى كان ينزل فيه.. لدرجة أنه كان مستعداً أن يسهر فى كباريه درجة ثالثة ليشاهد راقصة شرقية مجهولة.

هنا.. راح الباز يتحدث عن خطأ التسرع فى تطبيق الديمقراطية فى التجربة السوفيتية.. مؤكدا.. أن التدرج فى التحول الديمقراطى سيأخذ وقتا.. إننا الآن فى عام 2005.. سنحتاج عشر سنوات لنصل إلى مستوى مناسب من الديمقراطية يسمح لنا بانتخابات رئاسية متعددة المرشحين وانتخابات برلمانية تأتى بمجلس شعب يعكس ثقل الجماعات والتيارات السياسية والاجتماعية المختلفة.

أعترف أننى ساعتها اعتبرت الباز مسوفا.. يواجه دعوات التغيير التى زادت حدتها وقتها بكلمات تستخدم للتنويم المغناطيسى.. وهاجمت ما قال سواء على صفحات «روز اليوسف» أو فى ندوة عقدت ضمن البرنامج السياسى لمعرض الكتاب.

ولم تكن تلك هى المرة الوحيدة التى اختلفنا فيها أنا والباز.. كانت هناك مرة أخرى بسبب «فضيحة على النيل».

كانت المحكمة الإدارية العليا قد أدانت مسئول ماسبيرو الكبير فى التهم التى وجهت إليه وفى الوقت نفسه تزوج الثرى السعودى من الفنانة التى شاركت فى بطولة الفضيحة واختفت عن الأنظار سنوات لتعود بعدها إلى بلادها وفنها.

بعد الحكم بعدة أيام طلب الباز منى أن أحضر عشاء على شرف الثرى السعودى إكراما لنسيبه الملك فهد قائلا: «القضية انتهت لصالحك ورجل الأعمال السعودى مستثمر لا ذنب له فيما جرى وحضورك يحل مشاكل كثيرة بين البلدين».

أصررت على الرفض شارحا: «إنك تعلم يا دكتور أن القضية كانت حديث الناس بما لم تفجره من قبل قضية صحفية.. وحاولت شخصيات متعددة منها المتهم نفسه التشهير بى ومحاولة تشويه صورتى واغتيالى معنويا.. وحضورى العشاء على مائدة واحدة مع رجل لجأ مساعدوه إلى تهديد عائلتى وسبها والسعى لحرقها.. أنت لا ترضى لى ذلك.. كما أن هذا العشاء سيكون خبرا مثيرا فى كل الصحف التى تابعت القضية من قبل.. آسف يا دكتور.. لن أحضر العشاء مهما كان سوء النتائج».

قال الباز: «ولو قلت لك إن الرئيس هو الذى طلب منى توجيه الدعوة إليك»؟.

قلت: موقفى لن يتغير.. وربما.. كان حضور محمود التهامى رئيس مجلس إدارة «روزاليوسف» يكفى رمزا لتواجد المجلة التى فجرت الفضيحة.

وأغلب الظن أن الباز كان بمحاولة ترضية صهر الملك فهد أن يقلل من حدة الهوة التى تسبب فيها ما كتبت.. ولكن.. السعوديين لم يسكتوا عما جرى.. فقد وجهت صحيفة تابعة لهم تصدر فى لندن ما وصف بثروات علاء وجمال مبارك.. ووضع الصحفى المصرى المعارض الذى نشر التقرير تحت ضغوط جهات التحقيق وبعد إحالة التهمة إلى القضاء بدأت مفاوضات جانبية انتهت بالتسوية السلمية.. وواحدة بواحدة.

وتكرر الموقف بتفاصيل مختلفة مع السفير الأمريكى دانيال كيرتز.

جاء كيرتز إلى القاهرة فى خريف عام 1997 وعرفت من شخصية قريبة من السفارة الأمريكية أن السفير الجديد طلب تغيير أدوات مطبخ بيته ليضمن طهى الطعام بالقواعد التى تفرضها ديانته اليهودية.. وحسب المعلومات التى جمعتها «روز اليوسف» فإنه يجيد اللغة العربية.. وما أن نشرت المجلة ما جمعت من معلومات حتى اتهمت بمعاداة السامية.. لكن.. صحفا أمريكية شهيرة مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز نفت عنا التهمة واصفة «روزاليوسف» بأنها الأكثر جرأة.. وأكثر مهنية.. وأن خصومها من داخل مهنة الصحافة أكثر منهم خارجها.

وسبق أن نشرت واشنطن بوست مقالا لمراسلها فى القاهرة يوسف إبراهيم عن «روزاليوسف» وصفتها بأنها «مجلة لها أشواك فى الشرق الأوسط» تسبب فى إثارة الغيرة داخل صدر كثير من رؤساء تحرير صحف حكومية تصرفوا بغطرسة تجاه تجربة «روزاليوسف» التى تخرج فيها نجوم الإعلام الذين يسيطرون على الصحف والفضائيات الآن.

وما أن انتهت مدة كيرتز فى القاهرة متجها إلى تل أبيب سفيرا لبلاده هناك أقام الباز حفل وداع له فى النادى الدبلوماسى فى وسط العاصمة قبيل ساعات من سفره.. وطلب منى حضوره.. فوافقت على الفور.. ودون تردد.. واعترف بأن كيرتز كان ودودا معى قائلا: «لو كنت صحفياً مثلك لم ترددت فى نشر ما نشرت».. وكان تعليقى: «إننى جئت لوداعك لتتأكد أننا لسنا متعصبين أو متطرفين ونفصل بين اليهودية والصهيونية السياسية».

على أن ما نشرت «روزاليوسف» عن كيرتز بجانب أسباب متعددة أخرى جعلت مبارك يصدق ما سمع من رئيس حكومته كمال الجنزورى ويخرجنى من بيتى وصحيفتى ومدرستى وهنا نقل الباز رسالة منه.. ماذا كان نصها؟.. كما اصر على أن يحتفل بى علنا ليؤكد أن نقلى كاتبا متفرغا فى الأهرام ليس عقابا وإنما إضافة.. التفاصيل العدد القادم.