عادل حمودة يكتب: شاهد على الساعات الأخيرة فى حياة النائب العام

مقالات الرأي



■ فريق من الأطباء العسكريين حضر إلى مستشفى النزهة ولم تتح له متابعة الحالة إلا قبل الوفاة بدقائق

■ مدير المستشفى الدكتور عصام عمار أكد أن النزيف توقف والحالة مستقرة وأنه يمكن نقله خلال 48 ساعة وبعد 45 دقيقة حدث الانهيار

■ خلخلة الهواء التى سببها الانفجار أصابت المستشار هشام بركات بتهتك فى الكبد والحجاب الحاجز والأمعاء الدقيقة وكسر فى الأنف وعظام الصدر ونزيف فى تجويف الجمجمة

■ نقل الدم بأكثر من 6 لترات تسبب فى إضعاف عضلة القلب المتعبة أصلاً بسبب تدخين 80 سيجارة يومياً

■ اللواء مصطفى أبوحطب مدير الخدمات الطبية يأمر بإرسال سيارة دم مجهزة إلى المستشفى بعد أن عجز عن الحصول على فصيلة الدم من الأطباء

■ خرج أحمد الزند من غرفة العمليات وهو يبكى وانصرف الوزراء وحراساتهم قبل إعلان الوفاة

■ عقب الإفطار مع الرئيس فى «الماسة» يوم الأحد الماضى قال بركات لمساعديه: «معقول النائب العام يمضغ لبان فيه نيكوتين عشان يبطل السجائر؟»

■ دخل المستشفى على قدميه وهو فى وعيه وحقنوه بمنشطات للدورة الدموية هى التى أبقت على حياته آخر خمس ساعات

■ الحادث تكرار لمحاولة اغتيال وزير الداخلية السابق اللواء محمد إبراهيم.. نقطة حاكمة يجبر فيها موكب الحراسة على تهدئة السيارات مما يتيح فرصة للتفجير خاصة فى غياب سيارات الإعاقة الإلكترونية

■ وضع تمثال ماعت إلهة العدالة فى مدخل مكتبه الجديد وعلق لوحة لحور محب أول حاكم عسكرى فى مصر وأول من سن القوانين وانتظر الرئيس ليفتتح المبنى بعد عيد الفطر

■ نقل مهدى عاكف إلى مستشفى خاص خارج السجن بعد تدهور صحته 

■ طلب من سائقه التوجه إلى مستشفى المركز الطبى العالمى فقال له: مستشفى النزهة أقرب

الخطة وضعها جهاز مخابرات محترف:
1- حصل على تلك الكمية من المتفجرات واحتفظ بها صالحة للاستعمال

2- غسل مخ المنفذين حتى آخر خمس دقائق قبل التنفيذ 

3- شحن السيارة بالمتفجرات واختار مكانها وركنها فى انتظار اللحظة المناسبة 

4- تقرر التنفيذ قبل 30 يونيو بيوم لتوقع ألا يكون فيه شدة أمنية!

■ سأله الرئيس عن التحقيقات فى قضية شيماء الصباغ فاعتذر بركات قائلاً: لا أحد سينزل معى القبر ويقف معى وقت الحساب 

■ اختير منذ خمسة أيام رئيساً للجنة القومية لاسترداد الأموال

■ تعرض إلى محاولتى اغتيال قبل الحادث الأخير وكُشفت محاولة لاغتيال ابنه وسُرقت سيارته

■ أنشأ صندوقاً لتعويض رجال النيابة عن الأضرار التى تصيبهم بسبب الإرهاب ورفض الإعلان عنه

شهدت الساعات الأخيرة فى حياة النائب العام المستشار هشام بركات.

جلست فى حجرة مجاورة على بعد ربع متر من غرفة «العمليات» التى نقل إليها فور إصابته فى الحادث.

دخلت مستشفى النزهة فى الساعة الثانية عشرة إلا الربع.. لم تكن قوات مكافحة الإرهاب بملابس أفرادها المميزة وأجسامهم القوية وأسلحتهم الحادة قد وصلت إلى الموقع.. وازدحم المدخل برجال ونساء هم فى الغالب أهالى مرضى منعوا من زيارتهم دون معرفة السبب.. ووضعت ثلاث سيارات إسعاف تحت الطلب.. بدت ظاهرة للعين.. بجانب سيارة أمن كانت تحرس بيت النائب العام.. ولم تكن ضمن موكبه.

فى المساحة المحدودة لمنطقة الاستقبال، وعلى درجات السلالم الضيقة المؤدية إلى الدور الأول حيث غرفة العمليات، وقف عدد من شباب النيابة العامة فى حالة وجوم.. وتوتر مكتوم.. وقد جمدت الصدمة ملامحهم.. وشلت تفكيرهم.

وفى غرفة ملاصقة لغرفة العمليات تواجد المحامون العموم.. جلسوا فى صمت.. إلا من كلمات عابرة.. مبهمة.. وإن استجابوا لمكالمات الهواتف المحمولة فى أياديهم أحيانا.. وكانت كل المكالمات بلا استثناء تحمل سؤالا عن حالة النائب العام.. وتراوحت الإجابات بين جملة «الحمد لله» والتأكيد على أنه «لا يزال فى غرفة العمليات».. وراح بعضهم يقرأ فى سره ما يحفظ من آيات القرآن.. وجرت حبات المسابح بين أصابع البعض الآخر لعلها تأتى بالفرج.

بعد نصف ساعة (الثانية عشرة والربع) وصل فريق من أطباء القوات المسلحة يحملون رتبة اللواء، منهم مدير الخدمات الطبية الدكتور مصطفى أبوحطب.. وجراح القلب والصدر الدكتور يوسف عبدالمسيح.. وجراح المخ والأعصاب عزت عبدالخالق.. وانضم إليهم مدير مستشفى الجلاء ومدير مستشفى القوات الجوية.. وعدد من مساعديهم يرتدون ملابسهم العسكرية أيضا.. وإن حملوا رتبا أقل.. دخلوا الغرفة فلم يجدوا مكانا ينتظرون فيه.. فخرجوا منها.. ليجدوا الطرقات أشد ازدحاما.

لم تمر سوى خمس دقائق أخرى (الثانية عشرة والثلث) حتى وجدنا وزير العدل المستشار أحمد الزند يدخل علينا (ومعه المستشار عادل السعيد مدير المكتب الفنى) مستأذنا من فى الحجرة بالخروج منها لمنح فريق الأطباء العسكريين فرصة الانتظار ليكونوا جاهزين تحت الطلب فى لحظة استدعائهم.. واستجاب السادة المستشارون.. وانسحبوا فى هدوء.

مر وقت طويل بمقياس تلك الحالات الحرجة حيث الثانية مؤثرة والدقيقة فارقة دون أن يجد طبيب واحد من الأطباء العسكريين أحدا يطلب منه مشورة أو يسأله استشارة أو من يسأله نصيحة أو يعرض عليه الحالة.

وكان النائب العام فور إصابته قد طلب من سائقه- عباس رفعت- التوجه بعد الحادث إلى المركز الطبى العالمى.. واستجاب السائق.. لكنه وجد أن حالة النائب العام الذى تغطى وجهه وصدره الدماء لا تحتمل طول المسافة إلى المركز العالمى (45 كيلومتراً فى طريق القاهرة- الإسماعيلية) فاقترح عليه مستشفى النزهة فلم يجد منه اعتراضا.. فجاء إلى قسم الطوارئ.. ومنه إلى غرفة العمليات لعلاج النزيف الداخلى.. الأشد خطورة.

لم تمر خمس دقائق أخرى على وصول المستشار أحمد الزند حتى توافد مسئولون كبار على الغرفة نفسها التى بقيت فيها بترحيب منه.

جاء وزير الداخلية الأسبق، المستشار الأمنى للرئيس، اللواء أحمد جمال الدين وانفرد بحديث هامس مع وزير العدل.

وجاء وزير الداخلية اللواء مجدى عبدالغفار الذى مكث نحو ثلث ساعة.. تحدث إلى اللواء أحمد جمال طويلا.. قبل أن يغادر المستشفى متجها إلى موقع الحادث لتفقده.

وجاء وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة الذى وصف النائب العام بـ «الطود الشامخ» مؤكدا أن العزاء لن يكون إلا بـ «القصاص العادل».

وجاء وزراء الاستثمار (أشرف سالمان) والعدالة الانتقالية (إبراهيم الهنيدى) والصحة (الدكتور عادل العدوى) والنقل (هانى ضاحى) ولحق بهم رئيس الحكومة (إبراهيم محلب) الذى جاء من توشكى مباشرة.

وكان هناك عدد كبير من نواب ومساعدى الوزراء.. سبقوهم إلى المكان.. حسب تراثنا البيروقراطى الشهير.

وكان محافظ القاهرة الدكتور جلال السعيد أول مسئول يغادر المستشفى.. وقد رفض التحدث للصحفيين والمراسلين الذين وقفوا على الرصيف المقابل للمستشفى محاصرين من الأمن فى انتظار كلمة «تبل ريقهم».

غادر محافظ القاهرة المستشفى فى الساعة الثانية تقريبا.. فى ذلك الوقت كان كل الأخبار التى سمعناها من مدير المستشفى الدكتور عصام عمار مطمئنة جدا.

دخل علينا ليقول مرتديا البالطو الأبيض قائلا:

إنه «تابع ما يجرى فى غرفة العمليات عبر جهاز «المونيتور» فى مكتبه».

واضاف: «وأستطيع القول إن النائب العام لم يصب بشظايا.. وكل ما تعرض إليه تهتك فى الكبد انتهى بنزيف ثلاثى فيه.. وتهتك فى الجانب الأيمن من الحجاب الحاجز.. تسبب فى نزيف رابع.. وتهتك فى جزء من الأمعاء الدقيقة تسبب فى نزيف خامس.. وقد نقل إليه فى البداية نحو 6 لترات من الدم».

واستطرد: لقد نجحنا فى إيقاف النزيف وسيطرنا على الحالة التى أصبحت مستقرة.

وهدأت الأنفاس المتوترة.. واسترخت الأعصاب المشدودة.. وأضفت الأخبار الطيبة شعورا بالراحة جعلتنا نتبادل الحديث دون شعور بالحرج فى موضوعات أخرى وإن لامست ما جرى.. مثل تأمين الشخصيات العامة.. والقصور الأمنى.. والحوادث المتوقعة فى اليوم التالى الذى يوافق الذكرى الثانية لثورة 30 يونيو.

لكن.. لم تمر سوى عشرين دقيقة حتى وجدنا طبيبا من أطباء المستشفى يسأل فريق الأطباء العسكريين إمكانية الحصول على مزيد من أكياس الدم.. فسمع من أحدهم: «ما قلنا لكم هاتوا فصيلة الدم وانتم سكتوا.. لم تردوا علينا.. اختفيتوا».. فتراجع الرجل قائلا: «الحمد لله لسه عندنا عشرة لترات احتياطية جاهزة تحت الأمر».. واختفى وسط دهشة الجميع.. فلا أحد فهم ما يقصد.. ولا أحد فهم لما تراجع.

من جانبه طلب الدكتور مصطفى أبوحطب مرة ثانية تحديد فصيلة الدم المطلوبة.. وطلب من طبيب مساعد له يحمل رتبة عقيد أن يحضر سيارة دم جاهزة بكل الاحتياجات والتجهيزات لتوضع فى خدمة المستشفى.. وراح يجرى الاتصالات اللازمة.

على أن الملاحظة التى لفتت نظرنا أن أطباء المستشفى بدوا فجأة فى حالة ارتباك.. ولاحظت أنهم لم يطلبوا من فريق الأطباء العسكريين أن يدخلوا غرفة العمليات ليقيموا الحالة أو على الأقل يتابعوها عبر أجهزة المونيتور فى غرفة المدير.

أكثر من ذلك.. دخل علينا الغرفة فى الساعة الثانية والربع شخص فارع الطول.. يرتدى بدلة سوداء.. ليقول موجها حديثه إلى الأطباء العسكريين:

«الحالة استقرت والحمد لله.. وليس هناك مبرر لبقائكم هنا.. لن يكون هناك جديد طوال الأربع والعشرين ساعة القادمة.. بعدها يمكن نقل الحالة إلى المستشفى الذى تشاءون».

تدخل الدكتور عزت عبدالخالق قائلا:

«نحن هنا فى مهمة محددة.. أن نطمئن بأنفسنا على الحالة.. ونتأكد أن لا أحد فى حاجة إلينا.. لم نأت للمجاملة».

انسحب ممثل المستشفى فى هدوء قائلا:

«أردت أن أريحكم»!

وما إن خرج الرجل حتى بدأ حوار بين الأطباء العسكريين حول أفضل مستشفى يمكن نقل النائب العام إليه بعد 24 أو 48 ساعة.. وكانت المفاضلة بين مستشفى القوات الجوية فى التجمع الخامس أو مستشفى الجلاء فى طريق المطار.

إلى هذا الحد كنا مطمئنين بأن النائب العام نجا من الحادث.. لم يخطر ببال أحد ممن كانوا فى الغرفة أو تخيل أن يسمع خبرا سيئا عنه بعد دقائق معدودة.. لذلك.. ما جرى بعد قليل ضاعف من شدة الصدمة وقسوتها.

فى الساعة الثالثة إلا الربع أصر الأطباء العسكريون على أن يروا الحالة بأنفسهم قبل أن يغادروا المستشفى.. وما إن دخلوا غرفة العمليات حتى اكتشفوا أن وصف إدارة المستشفى للحالة لم يكن دقيقا.. على خلاف ما سمعوا.. وجدوا كسرا فى عظمة الأنف.. وكسرا فى عظام الصدر.. وكدمة فى الرئة.. وكدمة فى القلب.. بجانب احتمال نزيف فى تجويف الجمجمة.

توصيف لم يسمعوه فى الوقت المناسب.. بل.. سمعوه بعد فوات الأوان.. سمعوه بعد أن اقترب النائب العام من النهاية.. قبل ربع ساعة فقط من لفظه أنفاسه الأخيرة.. فهل كان يمكن إنقاذه لو قدم الأطباء تشخيصاً واقعيا غير الذى قدموه إلى كبار المسئولين وفريق الطب العسكرى؟

وقد صحبهم المستشار أحمد الزند إلى غرفة العمليات وخرج منها وهو يبكى.

وما زاد من صعوبة الحالة أن المستشار هشام بركات كان يدخن أكثر من ثمانين سيجارة فى اليوم أدت إلى متاعب فى عضلة القلب وسدت الشرايين بنسبة مؤثرة وكان مقررا أن يجرى قسطرة فى القلب الأسبوع القادم بعد أن تجاهل حالته كثيرا ورفض الاعتراف بها.. بل.. وتجاهلها.

وفى إفطار يوم الأحد الماضى فى «الماسة» بدعوة من الرئيس تحدث مع بعض مساعديه عن إصرار الأطباء على حرمانه من التدخين.. قائلا: «سمعت أن هناك لبانا بالنيكوتين يعوض عن السيجارة.. صعب النائب العام يمضغ اللبان ولو كان للعلاج».

وحسب ما تأكدت وأنا فى المستشفى أن النائب العام دخل الطوارئ على قدميه محتفظا بوعيه وفور تعرضه للجراحة حقنوه بأدوية منشطة للدورة الدموية كانت السبب المباشر للإبقاء على حياته من الساعة العاشرة صباحا حتى الثالثة عصرا.

وحسب ما سمعت من أطباء كانوا على علم بالحالة.. أن الانفجار الشديد الذى تعرض له النائب العام وهو فى سيارته المصفحة تسبب فى خلخلة الهواء.. ما رفع من ضغط الدم.. وسبب تهتكا فى أكثر من جهاز من أجهزة الجسم كان أخطرها تهتكا فى الكبد انفجر بنزيف حاد.

ولتعويض النزيف يجرى نقل دم.. بشرط ألا يزيد حجمه عن ثلاثة ليترات.. فدخول دم خارجى يضاعف من المجهود الذى تبذله عضلة القلب.. وفى حالة النائب العام نقل إليه ستة ليترات.. ضعف الكمية.. ما يعنى ضعف المتاعب التى تتعرض لها عضلة القلب.. بجانب أن عضلة القلب أصلا كانت متعبة.. فكانت المشكلة فى الحالات العادية أربع مشاكل فى حالة النائب العام.. ما صعب من فرص النجاة.

وحقن النائب العام بأدوية تساعد على تجلط الدم لوقف النزيف مثل «كرايو بريسبتات».. و«نوفو سيفن».. ولكن.. تضاعفت الخطورة بسبب كسور عظام الصدر (الربس) التى تحولت أطرافها إلى سنون مدببة اخترقت الرئتين والكبد مسببا مزيدا من النزيف.

ولا شك أن الجسم لا يتحمل نقل دم يزيد على ما فيه أصلا.. الجسم فى هذه الحالة يجد دما غريبا عليه تماما.. فيحذر جهاز المناعة من ذلك الدخيل.. فتكف عن العمل.. وتجبر كرات الدم الحمراء على التحلل.. فيصبح الدم مجرد سائل أحمر (فى لون الشربات حسب تشبيه الأطباء) لا فائدة منه.. يجد منافذا للخروج من أقرب فتحات الجسم إليه.

فى الساعة الثالثة همس أحد الوزراء الواقفين إلى جوارى قائلا:

«البقية فى حياتك».

وشاهدت حرس الوزراء وهم ينسحبون من حولنا.. وتبعهم ضباط مكافحة الإرهاب أمام المستشفى.. وبعد ساعة وصل أطباء الطب الشرعى ليبدأوا عملهم.

والنائب العام هشام محمد زكى بركات ولد فى 21 نوفمبر 1950.. تخرج فى كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1973.. بدأ حياته المهنية فى نيابة شرق القاهرة.. ومنها رئيسا لنيابات مصر الجديدة.. وانتقل بعدها للعمل فى القضاء مسئولا فى مكتب شئون أمن الدولة.. وأعير إلى السعودية والإمارات.. واختير عضوا فى دائرة جنايات بالجيزة.. ومنها إلى محكمة استئناف الإسماعيلية قبل اختياره نائبا عاما فى يوم الأربعاء 10 يوليو 2013 خلفا للنائب العام الإخوانى طلعت عبدالله.

ووقع النائب العام الراحل اتفاقيات لمكافحة الإرهاب مع فرنسا وإيطاليا وجدد اتفاقيات استرداد الأموال المهربة مع سويسرا.. وعين منذ خمسة أيام رئيسا للجنة القومية لاسترداد الأموال.

ويمكن القول بأنه تمتع باستقلال مؤكد عن السلطة التنفيذية.. والدليل على ذلك جاء من الرئيس نفسه.. فقد طلبه تليفونيا ليسأله عن التحقيقات فى قضية اغتيال الناشطة شيماء الصباغ التى اتهم فيها ضابط الأمن المركزى ياسين محمد حاتم قبل إحالته للجنايات والحكم عليه بالسجن المشدد 15 سنة.. لم يتردد المستشار هشام بركات بأن يرد على الرئيس معتذرا:

«إن لا أحد سينزل معى القبر ويساندنى وقت الحساب».

وأعجب الرئيس بما سمع.. وأعلنه بنفسه فخورا.. مؤكدا استقلال القضاء.

وسمعت من علاء عبدالمنعم المحامى عضو مجلس الشعب الأسبق أنه كان ضابط مباحث الدرب الأحمر وقت أن كان هشام بركات رئيسا لنيابتها.. وعندما قبض على تاجر مخدرات وعرضه عليه أفرج عنه قائلا: «لقد تجاوزت فى الإجراءات».

ولم يتردد فى اتخاذ قرار بنقل مهدى عاكف إلى مستشفى خاص خارج السجن بعد أن تدهورت حالته الصحية.. فالعدالة بالنسبة إليه معصوبة العينين.. لا تفرق بين إخوانى ويسارى.

شهدت بنفسى وقائع تدلل على استقلاله أيضا.. فعندما طلبت النيابة العامة دفعة جديدة للعمل بها تكاثر عدد يصعب حصره من رجال القضاء على مكتب النائب العام وهم يحملون فى أياديهم أوراقاً بها معلومات عن أبنائهم المتقدمين للاختبار.. طلبا لتوصية.. وبكل الود والهدوء كان النائب العام يأخذ منهم الأوراق.. وما إن يغادروا مكتبه حتى يضعها دون قراءتها فى المفرمة.

وحسب ما عرفت منه فإنه كان يتابع قضايا الفساد التى فجرتها منذ سنوات بعيدة.. ومنحنى ذلك تقديرا خاصا منه.. عكس نفسه فى ميزة لم يمنحها لكثير من المقربين منه.. لم تزد على دعوة إلى فنجان قهوة فرنسى بالحليب مع فرصة التدخين فى مكتبه.. ليس أكثر.

وقد ذهبت إلى المستشفى لكى أكون قريبا منه بصفة الصداقة لا بحكم مهنة الصحافة.. وعجزت عن التنفس عدة دقائق فور أن عرفت بخبر وفاته.. ومازالت صورته بملامحه الهادئة أمام عينى.. وصوته الهادئ المتقطع يرن فى أذنى.

وعرفت منه أنه كوَّن صندوقا لتعويض رجال النيابة عن سياراتهم التى تحترق.. أو حياتهم التى تتهدد.. لكنه.. رفض نشر الخبر.

كما كان حريصا على أن يكون مبنى النيابة العامة فى القاهرة الجديدة مزودا بشبكات إنترنت متطورة وسريعة وتربط بينها وبين نيابات المحافظات المختلفة ليسهل نقل ملفات القضايا وحفظها بجانب سهولة التصرف فيها.

وكان مهتمًا بأن يثبت أن العدالة فى مصر سبقت البشرية بأكملها.. فوضع بجانب ماكيت المبنى فى مدخله تمثالا كبيرا لماعت إلهة العدالة فى مصر الفرعونية.. وخلفها لوحة المحاكمة فى العالم الاخر.. حيث ميزان الحسنات والسيئات.. كما وضع لوحة للملك حور محب.. أول حاكم عسكرى مصرى وأول من سن القوانين فيها.. بجانب طريق للكباش.. مكون من تماثيل أبى الهول.. رمز الاستقرار.

واختار بالاتفاق مع وزارة الثقافة لوحات لفنانين تشكيليين متميزين وضعها على جدران الطرقات.. وفى مكان مميز وضع صور كل النواب العموم.. وبالاتفاق مع المركز القومى للسينما أشرف على فيلم عن تاريخ النيابة العامة.

وكان متوقعًا أن يفتتح الرئيس المبنى بعد عيد الفطر مباشرة.

وحسب الدستور فإن رئيس الجمهورية يختار النائب العام من بين ثلاثة اسماء يرشحها له المجلس الأعلى للقضاء.. وغالبا ما يختار المجلس مرشحا من أقدم رجال النيابة العامة.. ومرشحا من نواب محكمة النقض.. ومرشحا من رؤساء محاكم الاستئناف.. ولا يتضمن الترشيح تزكية لأحد.. وتترك للرئيس حرية الاختيار.. ولا يجدد للنائب العام مدة أخرى بعد أن يظل فى منصبه أربع سنوات.. يعود بعدها إلى سلك القضاء لو كان فى السن قبل التقاعد بقية.

وبقوة القانون يتولى أقدم مساعدى النائب العام منصبه إذا ما جرى له مكروه كما حدث للمستشار هشام بركات.. وأقدم المساعدين الآن هم: المستشار على محمد عمران (النائب العام المساعد مدير التفتيش القضائى للنيابة العامة) والمستشار زكريا عبدالعزيز (النائب العام المساعد رئيس نيابة استئناف القاهرة) والمستشار مصطفى سليمان (محامى عام النيابات المتخصصة).

وتشير بعض التوقعات إلى أن النائب العام الجديد لن يختار قبل شهر.. وربما أكثر.. أما السبب فهو أن المجلس الأعلى للقضاء سيتغير أعضاؤه بحكم الخروج إلى المعاش.. والأفضل أن يعين النائب العام الجديد بأسرع وقت ممكن.. فأهمية المنصب وحساسيته تفرض ألا يكون شاغرا.. كما أن سرعة التعيين تعنى سرعة تجاوز الضربة الإرهابية التى أوجعتنا جميعا.. يصعب على مصر فى ظروفها الحالية أن تبقى دون نائب عام أكثر من أسبوع.. ولا مبرر فى الحقيقة للانتظار.

وتتكون أسرة المستشار هشام بركات من زوجته وابنه محمد وهو وكيل نيابة فى نيابة أمن الدولة.. وقد كشفت منذ أسابيع محاولة لاغتياله وتكتم عليها.. كما سرقت سيارته.. وقد نجح والده فى تدبير شقة بصعوبة له.. حصل عليها بالتقسيط من إسكان القضاة.

وله ايضا ابنتان.. إحداهما قاضية.. والأخرى محاسبة فى شركة بترول ومتزوجة من رئيس نيابة.. وقد عبرت ابنته الأخيرة مروة عن أحزانها على شبكات التواصل الاجتماعى قائلة: «أنا كنت بنت النائب العام أنا دلوقت بنت البطل».. ونشرت صورته وهو يضع يده على كتفها.. فى حالة إنسانية يتسامى فيها الحزن إلى حد إصابة القلب بالوجع.

وربما لا يصدق أحد أن المستشار هشام بركات لا يزال يسكن فى الشقة التى تزوج فيها ومساحتها لا تزيد على غرفتين وصالة.. كما أنه قبل وفاته بأسابيع قليلة طلب من صديق مقرب منه أن يبحث له عن شاليه فى قرية صيفية.. لكن.. بشرط ألا يزيد ثمنه على 200 ألف جنيه.. متصورا أنه مبلغ سيأتى له بما لا يتوقع أحد.. غير مدرك أن ما يملك لا يوفر سوى غرفة فى سطح منطقة عشوائية هذه الأيام.. ما يعنى أنه لم يكن ليعرف حقيقة اسعار العقارات فى مصر.. بل.. ولم يكن يهتم بها.. وكانت ملامح وجهه تتجمد عندما يعرف أن فى مصر فيللا بأربعين وخمسين وتسعين مليون جنيه.. مكتفيا بصمت ينطق بالكثير من الدهشة والتعجب.

وقد كان كل دخله من راتبه الذى لم يزد على 40 ألف جنيه.. وأكثر ما يراه ترفا.. سيجارة لا تفارق فمه.. ورابطة عنق يختارها بعناية وأناقة.

وعندما سافر هو والسيدة حرمه إلى سويسرا وفرنسا وجد من ينصحه باستخراج بطاقة ائتمان يستخدمها خشية سرقة نقوده السائلة.. ولم يكن يعرف كيف يستخرجها.. ولا كيف يستعملها.. وعندما استعملها فى باريس وطلب منه توقيعا على إيصال الشراء رفض.. متصورا أن هناك من سيستخدم توقيعه وهو نائب عام مصر فى أمر مضر.. وفضل أن تتولى هذه المهمة نيابة عنه السيدة حرمه.. وعندما عاد إلى القاهرة سارع بسداد فواتيرها وكانت لا تزيد على 740 جنيها.. اقل من مائة دولار.. وكأنه لم يشتر شيئا.

وقد تعرض المستشار هشام بركات إلى محاولتى اغتيال قبل الحادث الأخير.. منها محاولة بالقرب من مكتبه فى دار القضاء العالى.. ومحاولة أخرى وهو فى طريقه إلى مكتبه فى التجمع الخامس.. حدث فيها إطلاق رصاص.

وتكاد خطة اغتياله تشبه خطة اغتيال وزير الداخلية السابق محمد إبراهيم فى 5 سبتمبر 2013.. حيث جرى التفجير فى نقطة مرور حاكمة.. فى منحنى.. فرض على سيارة النائب العام المصفحة والثقيلة أن تبطئ.. وفى هذه اللحظة جرى التفجير.. وثبت فيما بعد.. أن موكب الحراسة كان خاليا من سيارات الإعاقة الإكترونية التى تشل حركة تليفونات وأجهزة التفجير.

كان النائب العام قد خرج من بيته (8 شارع ابن رشد وهو شارع جانبى) فى التاسعة والنصف إلى شارع عمار بن ياسر ليسلك طريق المطار متجها إلى مكتبه فى القاهرة الجديدة.. عند المنحى.. أو النقطة الحاكمة التى تجبر السيارات على تخفيف سرعتها إلى ما يشبه التوقف.. حدث الانفجار.. ما يعنى أن هناك شخصا ما كان ينتظره حاملا معه جهاز التفجير عن بعد.. وكان ما كان.

وطرح الحادث سؤالا فرض نفسه.. هل كان لابد من ترك النائب العام يسكن منطقة مزدحمة بالبشر وتسد شوارعها بالسيارات بجانب الأرصفة؟ ولم يكن السؤال الذى طرحته أجهزة الإعلام جديدا.. فقد سبق أن نوقش فى أجهزة أمنية.. ووجدت أن انتقال النائب العام إلى مكان مثل التجمع الخامس قد يعرض موكبه إلى اعتداء ثقيل بقطع الطريق عليه.

ويصعب بالقطع أن يغير الشخصيات المستهدفة (من سياسيين وعسكريين وإعلاميين ومستشارين وفنانين) مساكنهم.. أو وضعهم فى تجمعات خاصة.. مسألة مستحيلة وغير مقبولة.. كما أن الخطر هنا لا يختلف كثيرا عن الخطر هناك.

وليس هناك من حل سوى اقتلاع الإرهاب من جذوره.. وهى مهمة أمة بأكملها.. وإن لا تزال تنحصر فى قوات الشرطة والجيش وغضب الإعلام.. دون وجود يذكر من الأحزاب السياسية والجماعات الثقافية.. كما حدث من قبل فى موجة الإرهاب التى ضربت البلاد فى تسعينيات القرن الماضى.. وكانت أخف وطأة.. ولم تكن مدعومة من دول خارجية وأجهزة مخابرات قوية.

والمؤكد.. أن الحادث الأخير من تدبير أحد هذه الأجهزة.. وحسب الخبراء فإن التخطيط لمثل هذه العملية لابد أن يأخذ وقتا يصل إلى عدة أسابيع.. يجرى خلالها تدبير المتفجرات وتخزينها بطريقة سليمة.. لا تطولها رطوبة زائدة تبطلها.. أو حرارة زائدة تفجرها.. وخلال هذه الفترة أيضا يجرى اختيار منفذ العملية وغسل مخه بصفة دائمة والسيطرة عليه حتى قبل التنفيذ بدقائق خشية أن يهرب منها.. وخلال هذه الفترة كذلك تسرق سيارة وتشحن بالمتفجرات ويحدد مكان ركنها ومكان من سيضغط على زر التفجير.

لقد كان الحادث صيدا ثمينا للإرهاب.. انتقاما من الشعب المصرى الذى ثار فى 30 يونيو على الإخوان.. وبدأ يوم الحادث بإشارة سوداء.. وضع تسجيل اغتيال قضاة العريش على يوتيوب.. لحقت به إشارة سوداء أخرى.. علامة من محمد مرسى بالذبح أرسلها إلى مدير مكتبه أحمد عبدالعاطى.. لكن.. مهما كان طول الظلام فإن نور النهار غلاب.. ولو كان سهلا قتل أفراد.. فإن مستحيلا قتل أمة بأكملها.. ارجعوا إلى كتب التاريخ.. ستجدون أنها لا تكذب.