إشارة الأخرس تعد اقراراً!

إسلاميات

بوابة الفجر


هل تنزل إشارة الأخرس بالقرآن منزلة النطق باللسان في التعبد وحرمة القراءة للحائض والجنب؟
تجيب لجنة الفتوى بدار الإفتاء المصرية:
 
اتفق الفقهاء على أن قراءة القرآن ينبغي أن تكون بحركة اللسان وأن القراءة بالنظر والقلب هي تدبر وتفكر لا قراءة، واقتصر المالكية -والكرخي من الحنفية وابن تيمية من الحنابلة- على حركة اللسان وإن لم يسمع نفسه، وقال المالكية إن الأولى أن يسمع نفسه، وزاد الحنفية والشافعية والحنابلة أنه لا بد للقارئ أن يسمع نفسه؛ لأن مجرد حركة اللسان لا يسمى قراءة إن كانت بلا صوت؛ لأن الكلام اسم لمسموع مفهوم.
 
قال الحلبي من الحنفية: «والقراءة تصحيح الحروف بلسانه بحيث يسمع نفسه، فإن صحح الحروف من غير أن يسمع نفسه لا يكون ذلك قراءة في اختيار الهندواني والفضلي، وقيل: إذا صحح الحروف تجوز وإن لم يسمع نفسه، وهو اختيار الكرخي، وفي المحيط: الأصح قول الشيخين، وفي الكافي قال شمس الأئمة الحلواني: الأصح أنه لا يجزيه ما لم تسمع أذناه ويسمع من يقربه» اهـ. (غنية المتملي شرح منية المصلي ص136، ط. دار سعادات).
 
وقال ابن الهمام الحنفي صاحب «فتح القدير»: «واعلم أن القراءة وإن كانت فعل اللسان لكن فعله الذي هو كلام، والكلام بالحروف، والحرف كيفية تعرض للصوت، وهو أخص من النفَس، فإنه النفس المعروض بالقرع، فالحرف عارض للصوت لا للنفَس، فمجرد تصحيحها بلا صوت إيماء إلى الحروف بعضلات المخارج لا حروف، فلا كلام، بقي أن هذا لا يقتضي أن يلزم في مفهوم القراءة أن يصل إلى السمع، بل كونه بحيث يسمع وهو قول بشر المريسي، ولعله المراد بقول الهندواني بناء على أن ظاهر سماعه بعد وجود الصوت إذا لم يكن مانع». (شرح فتح القدير على الهداية 1/233، ط. الأميرية).

وقال الآبي الأزهري المالكي: «والقراءة بحركة اللسان، فلا يكفي إجراؤها على القلب، وتكفي إن أسمع بها نفسه، بل وإن لم يسمع بها نفسه، فيكفي في أداء الواجب». (جواهر الإكليل شرح مختصر خليل 1/47، ط. دار الفكر).
والأخرس العاجز عن النطق فليس عليه تحريك لسانه، وإن كان يستطيع تحريك لسانه، فعند المالكية والحنابلة -وهو الصحيح عند الحنفية- لا يجب على الأخرس تحريك لسانه، وإنما يُحرِم للصلاة بقلبه؛ لأن تحريك اللسان عبث، ولم يرد الشرع به.

قال الحصكفي الحنفي صاحب «الدر المختار»: «(ولا يلزم العاجز عن النطق) كأخرس وأمي (تحريك لسانه) وكذا في حق القراءة هو الصحيح؛ لتعذر الواجب، فلا يلزم غيره إلا بدليل)». (الدر المختار 1/324، ط. دار إحياء التراث العربي).

وقال البهوتي الحنبلي: «والأخرس ومقطوع اللسان يُحرِم بقلبه؛ لعجزه عنه بلسانه، ولا يحرك لسانه؛ كمن سقط عنه القيام يسقط عنه النهوض إليه، وإن قدر عليه؛ لأنه عبث، ولم يَرد الشرع به، كالعبث بسائر جوارحه، وإنما لزم القادر ضرورة، وكذا حكم القراءة والتسبيح وغيره، كالتحميد والتسميع والتشهد والسلام: يأتي به الأخرس ونحوه بقلبه، ولا يحرك لسانه؛ لما تقدم». (كشاف القناع 1/331، ط. دار الفكر).

وقال الحطاب المالكي: «قال ابن عرفة: ويكفي الأخرسَ نيته، انتهى، وقال ابن ناجي: لا خلاف فيه». (مواهب الجليل شرح مختصر خليل 1/519، ط. دار الفكر).

وإن أشار الأخرس تعبيرًا عن القراءة فإن إشارته تقوم مقام نطقه، لأنها تبين المراد كالنطق، قال الإمام الزركشي: «وكان السبب فيه أن الإشارة فيها بيان ولكن الشارع تعبَّد الناطقين بالعبارة فإذا عجز الأخرس –بخرسه- عن العبارة أقامت الشريعة إشارته مقام عبارته». (المنثور في القواعد 1/164، ط. وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية- الكويت).
 
وقال الجصاص الحنفي: «قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ}.. [مريم:11] قيل فيه: إنه أشار إليهم وأومأ بيده، فقامت الإشارة في هذا الموضع مقام القول؛ لأنها أفادت ما يفيده القول، وهذا يدل على أن إشارة الأخرس معول عليها قائمة -فيما يلزمه- مقام القول، ولم يختلف الفقهاء أن إشارة الصحيح لا تقوم مقام قوله، وإنما كان في الأخرس كذلك؛ لأنه -بالعادة والمران والضرورة الداعية إليها- قد علم بها ما يعلم بالقول، وليس للصحيح في ذلك عادة معروفة فيعمل عليها، ولذلك قال أصحابنا فيمن اعتقل لسانه فأومأ وأشار بوصية أو غيرها: إنه لا يعمل على ذلك؛ لأنه ليس له عادة جارية بذلك حتى يكون في معنى الأخرس». (أحكام القرآن للجصاص 3/321، ط. دار الفكر).
 
وقال العز بن عبد السلام: «وأما إشارة الأخرس المفهمة فهي كصريح المقال إن فهمها جميع الناس، كما لو قيل له: كم طلقت امرأتك؟ فأشار بأصابعه الثلاث، وكم أخذت من الدراهم؟ فأشار بأصابعه الخمس». (قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/135، ط دار الكتب العلمية).

وقال ابن مفلح الحنبلي: «وإشارة الأخرس المفهومة كلام». (الفروع لابن مفلح 2/127، ط. عالم الكتب).
وقال ابن نجيم الحنفي في «البحر الرائق»: «قال الحافظ النسفي رحمه الله: إيماء الأخرس وكتابته كالبيان، لأن الإشارة إنما تقوم مقام العبارة إذا صارت معهودة، وإذا كان إيماء الأخرس وكتابته كالبيان -وهو النطق باللسان- تلزمه الأحكام بالإشارة والكتابة، حتى يجوز نكاحه وطلاقه وعتقه وبيعه وشراؤه، إلى غير ذلك من الأحكام؛ لأن الإشارة تكون بيانا من القادر على النطق، فالعاجز أولى؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم بين الشهر بالإشارة حيث قال: «الشهر هكذا وأشار بأصابعه». (شرح كنز الدقائق 2/54، ط. دار الكتاب الإسلامي).

فكل هذه النقول السابقة تبين أن الإشارة المفهمة من الأخرس تقوم مقام كلامه، وإذا ثبت أن إشارة الأخرس ككلامه، فرع المالكية على هذا -وهو الصحيح عند الشافعية- أنه لو أشار الأخرس بكلام فإن صلاته تبطل.
قال الحطاب: «قال ابن العربي: نزلت نازلة ببغداد في أبكم أشار في صلاته فقال بعض شيوخنا: بطلت صلاته؛ لأن إشارة الأبكم ككلامه». (مواهب الجليل للحطاب 2/32، ط. دار الفكر).

وفرَّع العلماء على هذا أيضا حرمة الإشارة بالقرآن للجنب والحائض، قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري: «وللجنب إجراءُ القرآن على قلبه ونظر في المصحف، وقراءة ما نسخت تلاوته، وتحريك لسانه وهمسه بحيث لا يسمع نفسه؛ لأنها ليست بقراءة قرآن، بخلاف إشارة الأخرس». (أسنى المطالب شرح روض الطالب 1/67، ط. دار الكتاب الإسلامي).

وقال السيوطي في «الأشباه والنظائر»: «فرع قال الإسنوي: إشارة الأخرس بالقراءة -وهو جنب- كالنطق، صرح به القاضي حسين في فتاويه». (الأشباه والنظائر ص314، ط. دار الكتب العلمية).
 
ويحرم قراءة القرآن على الجنب والحائض عند جمهور الفقهاء، ذكر الجلال المحلي في «شرح المنهاج» للنووي مما يحرم على الجنب: قراءة القرآن، وقال: «ويحرم قراءة القرآن على الجنب، ولو بعض آية؛ لحديث الترمذي وغيره: «لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن»، و(يقرأ) روي بكسر الهمز على النهي، وبضمها على الخبر المراد به النهي، ذكر في شرح المهذب، وتحل أذكاره لا بقصد قرآن، كقوله عند الركوب: ﴿سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين﴾، وعند المصيبة: ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ فإن قصد القرآن وحده، أو مع الذكر حرم». (شرح المحلي على المنهاج بحاشية قليوبي وعميرة 1/74، ط. دار الفكر).
 
وقال قليوبي في حاشيته على شرح المحلي: «وإشارة الأخرس كالنطق، وقيدها شيخنا بلسانه، وهو غير بعيد، لكن الأول هو الموافق لقولهم: إشارة الأخرس كالنطق، إلا في ثلاثة: الشهادة والحنث وبطلان الصلاة». (حاشيتا قليوبي وعميرة 1/74، ط. دار إحياء الكتب العربية).

وجاء في «قرة عيون الأخيار تكملة حاشية ابن عابدين»: «وإشارة الأخرس قائمة مقام عبارته في كل شيء من بيع وإجارة وهبة ورهن ونكاح وطلاق وعتاق وإبراء وإقرار وقصاص على المعتمد فيه، إلا الحدود -ولو حد قذف- والشهادة، وتعمل إشارته -ولو قادرا على الكتابة- على المعتمد، وقد اقتصر في الأشباه وغيرها على استثناء الحدود، وزاد في التهذيب: ولا تقبل شهادته أيضا، وأما يمينه في الدعاوى فقدمناه، وظاهر اقتصار المشايخ على استثناء الحدود فقط صحة إسلامه بالإشارة، ولم أره الآن نقلا صريحا، ولو أشار الأخرس بالقراءة وهو جنب ينبغي أن يحرم أخذا من قولهم: يجب على الأخرس تحريك لسانه، فجعلوا التحريك قراءة، ولو علق رجل الطلاق بمشيئة أخرس فأشار بالمشيئة ينبغي الوقوع؛ لوجود الشرط، ولو علق بمشيئة رجل ناطق فخرس فأشار بالمشيئة ينبغي الوقوع أيضا». (2/82، ط. دار إحياء التراث العربي).

ولا فرق في ذلك بين الجنب والحائض والنفساء، وهو مذهب الجمهور، وأجاز الحنابلة قراءة بعض الآية؛ لأنه لا إعجاز فيه، قال الزيلعي الحنفي: يمنع الحيضُ قراءةَ القرآن، وكذا الجنابة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن»، رواه الترمذي وأحمد في مسنده والبيهقي عن عبد الله بن عمر (تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 1/57، ط. دار الكتاب الإسلامي).

قال الإمام النووي الشافعي في «المجموع»: «مذهبنا أنه يحرم على الجنب والحائض قراءة القرآن، قليلها وكثيرها حتى بعض آية». (المجموع شرح المهذب 2/182، ط. المنيرية).

وقال البهوتي الحنبلي: «ويُمنَع مَنْ وجب عليه غسل -لجنابة أو غيرها- من قراءة آية فأكثر؛ لحديث عليٍّ: ((كان صلى الله عليه وسلم لا يحجبه -وربما قال لا يحجزه- عن القرآن شيء، ليس الجنابة))، رواه ابن خزيمة والحاكم والدارقطني وصححاه، ولا يُمنَع من وجب عليه غسل من بعض آية؛ لأنه لا إعجاز فيه. وله قول ما وافق قرآنا من الأذكار ولم يقصد القرآن؛ كالبسملة، والحمد لله رب العالمين، وآيات الاسترجاع والركوب، فإن قصد حرم». (دقائق أولي النهى لشرح المنتهى 1/81، ط. عالم الكتب).

وأجاز المالكية قراءة القرآن للحائض، مع حرمة القراءة للجنب، قال الشيخ الدردير في «الشرح الكبير»: «(وتمنع الجنابة موانع) أي ممنوعات الحدث (الأصغر) وهي الثلاثة المتقدمة في قوله ومنع حدث صلاة وطوافا ومس مصحف (و) تزيد بمنعها (القراءة) بحركة لسان إلا لحائض كما يأتي» (1/138، ط. دار إحياء التراث العربي).

ثم قال بعد هذا الموضع: «ومَنَعَ –أي: الحيضُ- (مس مصحف)، (لا) يمنع (قراءة) القرآن حال نزوله ولو متلبسة بجنابة قبله، وكذا بعد انقطاعه إلا أن تكون متلبسة بجنابة قبله، فلا يجوز؛ نظرًا للجنابة مع القدرة على رفعها». (الشرح الكبير 1/174، ط. دار إحياء الكتب العربية).

وعليه: فإن إشارة الأخرس كنطقه في التعبد، ويحرم عليه الإشارة بالقرآن وهو جنب، وتحرم على الخرساء الإشارة بالقرآن وهي حائض على مذهب الجمهور، وتجوز عند المالكية.