عادل حمودة يكتب: خبايا «مذبحة القلعة» فى الداخلية

مقالات الرأي



لم يعد الرئيس والوزراء والجنرالات باشوات.. كلهم على «كف عفريت».. «الفاشل يرحل»

■ إحالة 45 قيادة عليا فى الأمن إلى التقاعد يفتح الشرايين المسدودة ويمنح الرتب الوسطية أملا فى الصعود دون مسح جوخ

■ بقى حبيب العادلى فى منصبه 14 سنة وفى آخر خمس سنوات جلس على كرسيه خمسة وزراء وبقى مبارك فى منصبه 30 سنة وفى آخر خمس سنوات سيطر على الرئاسة ثلاثة حكام وسبع حكومات.. مصر تغيرت

■ محمد إبراهيم أنقذ نفسه ومنصبه ومؤسسته بالانحياز لثورة يونيو لكنه لم يكن الوزير الوحيد للداخلية!

■ مجدى عبدالغفار أطاح بوزراء الظل ولكن جسوره مع الإعلام مقطوعة والسلطة الفجائية للرتب الصغيرة دون خبرة إنسانية تفجر أزمات حادة مثلما حدث مع المحامين والصحفيين والقضاة

قبل ثورة يونيو وجد وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم زائرا مهما فى انتظاره.. وما إن اطمأن الزائر إلى نظافة المكان من أجهزة التنصت حتى نصح الوزير بأن يسلم نفسه للمشير عبد الفتاح السيسى وينفذ ما يطلب منه.

فى الوقت نفسه كانت الغالبية العظمى من ضباط الشرطة فى حالة غضب مكتوم من وجود الإخوان فى الحكم وهددوا بالانقلاب على الوزير واعتقاله لو لم ينضم إلى الثورة.

لم يتردد الوزير فى وضع نفسه ورجاله وسلاحه تحت تصرف شعب أصر على التغيير.. وإن كانت الخسارة فادحة لو خسر الرهان.. حياته قبل منصبه.. سمعته قبل تاريخه.

والحقيقة أن الخطر ظل يطارده ويتربص به.. فقد كاد يقتل فى تفجير موكبه يوم 5 سبتمبر 2015 وهو خارج من بيته فى مدينة نصر إلى مكتبة فى لاظوغلى.. وربما أثر الحادث على أجهزته النفسية والعصبية.. فالنجاة من الموت لا تعنى العودة إلى الحياة بنفس الطبيعة البشرية.

ويسهل القول إنه كان وزيرا «طيبا».. متواضعا.. متسامحا.. يرد على مكالمات تليفونه المحمول بنفسه.. ويميز الإعلام عن غيره.. ولا يتردد فى مشاركات حوارية مع برامج «التوك شو» الليلية بما يمنحه صفات محببة من أهل الكلمة والصورة.

وربما شعر فى أعماقه بقليل من الانكسار بسبب سابق تعيينه فى حكومة إخوانية.. وإن تمرد عليها.. ولعل ذلك كان السبب وراء ترك الكثير من سلطاته وصلاحياته إلى رجاله.. ليصبحوا وزراء داخلية فى الظل.. ولعل بعضهم كان أقوى منه.. والدليل المباشر على ذلك بقاء عدد من الضباط المتعاطفين مع الإخوان فى أماكن مؤثرة داخل قيادة الوزارة.. منها مكتبه.. ما استدعى جهات أخرى للتدخل لكى يتخلص منهم.

ولو كان محمد إبراهيم ترك منصب وزير الداخلية فى 5 مارس الماضى فإن وزراء الظل لم يتركوها إلا فيما بعد.. مؤخرا.. بالتحديد فى 11 يوليو الجارى عندما صدرت «حركة» الشرطة الأخيرة التى أطاحت بـ 21 مساعد وزير و24 مدير أمن.. بجملة 45 لواء.. فيما لم يحدث من قبل عند تلك المستويات العليا ولو فى وقت اشتدت الحملات التى طالبت بتطهير الشرطة وإعادة هيكلة الداخلية بعد ثورة يناير.

وحسب ما عرفت فإن الحركة الأخيرة تابعها خطوة بخطوة الوزير الحالى اللواء مجدى عبدالغفار وحرص على تفجيرها مرة واحدة.. وكان نصف مساعديه تقريبا سيخرجون تباعا خلال الشهور الستة القادمة.. بالتقسيط.. أو التنقيط.. فتقرر خروجه دفعة واحدة بعد إضافة النصف الآخر إليه.

واللواء مجدى عبد الغفار تولى مناصب قيادية فى جهاز الأمن الوطنى بعد ثورة يناير وقبل خروجه إلى المعاش منذ عامين.. وهناك اعترف بتجاوزات نظام مبارك.. واستغنى عن إدارات التحقيق والاستجواب تاركا مهامها للنيابة العامة.. وأخرج عددا كبيرا من الضباط جعلهم ضده.. وسجل على نفسه وقتها عدم التنصت على التليفونات إلا بأمر قضائى.. كما سجل على نفسه أيضا «إعدام الشرائط القديمة دون احتفاظ أحد بنسخة منها».

والمؤكد أن ما فعل مع قيادات الأمن الوطنى تكرر مع قيادات الأمن العام عندما أصبح وزيرا للداخلية.. فقد أحال للتقاعد رقما قياسيا لم يحدث من قبل.. كان أولهم مدير أمن القاهرة اللواء أسامة بدير الذى أخرجه من منصبه علنا وهو فى الشارع.

كان هذا القرار متوقعا فور اغتيال النائب العام.. وقد وجدت الوزير الجالس على بعد خطوات منى فى إحدى غرف مستشفى الزهراء قبل وفاة المستشار هشام بركات صامتا أغلب الوقت.. يفكر فى تصرف يناسب فداحة الحادث.. مثل عقاب المسئول عن أمن العاصمة.. ودعم القرار حادث تفجير القنصلية الإيطالية وسط القاهرة.. وأكده انفجار قنبلة داخل عمارة «العبودى» فى ميدان روكسى.

إن مجدى عبد الغفار يدرك تماما أن المناصب تغيرت فى مصر بتغير ثلاثة نظم سياسية فى ثلاث سنوات.. استبعد خلالها مبارك وطنطاوى ومرسى.. وتغيرت ست حكومات فى أربع سنوات.. استبعد خلالها أحمد نظيف وأحمد شفيق وعصام شرف وهشام قنديل وحازم الببلاوى قبل أن يستقر فيها إبراهيم محلب.. لم يعد المسئول يجلس فى مكتب مغلق.. محاطاً بحراسة.. يكتفى بقراءة التقارير.. ويعلق وجوده برضاء الحاكم.. وبالهدايا الثمينة لعائلته.. لم يعد أحد يهنأ فى مكانه.. «الكبير بشغله».. من لا يتحرك يتجمد.. ومن لا يتطور يموت بالسكتة الوظيفية.

وربما.. تعلم وزير الداخلية من حكمة الكبار فى المنوفية.. «اضرب المربوط يخاف السايب».. لقد سارع مدير أمن الجيزة بالذهاب إلى مدينة الإنتاج الإعلامى فور علمه بوجود قنبلة عند البوابة الثانية.... قبل أن يكتشف أن البلاغ وهمى.

وربما.. استوعب الوزير الدرس ممن سبقوه.. الخطأ يعنى الرحيل.. التقصير يعنى التدمير.. لا فرق بين وزير ووزير إلا بالكفاءة.

لم يعد المسئول فى مصر يسكن منصبا مفتوح المدة.. لن يتكرر وجود مدير أو مسئول أو وزير أو رئيس حتى آخر نفس فى صدره.. الأرقام العليا التى ضربها حبيب العادلى وزكريا عزمى وصفوت الشريف وجمال عبد العزيز وفتحى سرور لن تتكرر.

لقد ظل حبيب العادلى على سبيل المثال وزيرا للداخلية نحو 14 سنة (نوفمبر 1997 يناير 2011) بينما عرفت مصر ستة وزراء للداخلية بعده فى أقل من ست سنوات.. محمود وجدى.. منصور العيسوى.. محمد إبراهيم.. أحمد جمال الدين.. محمد إبراهيم آخر.. ومجدى عبد الغفار.. ترى كم وزيرا للداخلية سنتعامل معهم لو وصلت المدة إلى 14 سنة؟.

لقد خلق طول المدة من حبيب العادلى وزيرا متسلطا.. متعسفا.. مغرورا.. باستهتار اعترف بالتسجيلات قائلا: «إللى خايف ما يتكلمش».. متناسيا حرية التعبير.. وأن التنصت بلا مبرر قضائى جريمة يحاسب من يرتكبها بالسجن.. وبعناد أبقى على رجاله رغم تجاوزاتهم دون تغيير.. ففقدوا أصول مهنتهم قبل أن يفقدوا انتماءهم لشعبهم.. فكانت الدولة البوليسية التى أسسوها ودعموها وفرضوها سببا فى الثورة على السلطة القائمة.

ولو كان بقاء رجال الوزير فى مناصبهم أطول من اللازم كبتا للحريات فإنه كان أيضا ضربا للكفاءات.. فقد تجمد غالبية الضباط فى رتبهم دون وجود فرص طبيعية للصعود.. فالطريق إلى أعلى مسدود بمن أصابهم العفن قبل أن تدركهم الشيخوخة.

لقد اتسعت القاعدة وضاقت القمة.. ودب اليأس فى الرتب الوسطية.. ففرصة التقاعد أكبر من فرصة الترقى.. وحظها فى الدخل النحيف أكبر من حظ غيرها فى الدخل السمين.. قلة تلتهم الخير وأغلبية تأكل الزلط.

لكن.. الحركة الأخيرة التى فتحت الشرايين المسدودة وضاعفت من مساحة الأوكسجين أعادت الأمل إلى تلك الرتب المربوطة.. وأصلحت من سلم النمو المكسور بعد إخراجه من مخازن الكراكيب والكهنة.

وما جرى فى الداخلية يجب أن يتكرر فى مؤسسات أخرى.. فتحت الجلد طابور خامس يعترض.. وخلايا نائمة تعطل.. وبيروقراطية متزمتة توقف المراكب السائرة.

وحسب ما عرفت فإن غربال الأمن جرى شده من جديد بعد تجديده.. فلا أحد من الجنرالات الجدد ترك مكانه طوال إجازة العيد.. اكتفوا بتهنئة عائلاتهم بمكالمات تليفونية.. ولم يزد ما تناوله بعضهم عن سندويتشات الفول والطعمية.. وأطفأ أحدهم تورتة عيد ميلاده مع أسرته فجرا وعاد إلى مكتبه بعد أقل من نصف ساعة.

لكن.. تظل هناك جسور غير ممدودة مع الإعلام.. ومهما كانت الخلافات بين الطرفين فلابد من إزالتها.. بجانب إعادة تأهيل الرتب الصغيرة.. تلك الرتب التى تمنح سلطة فجائية فور خروجها إلى الحياة المدنية دون خبرة إنسانية.. مما يتسبب -فى ظل التوتر المكتوم المسيطر على جميع القطاعات والفئات- فى أزمات حادة بينها وبين الشرطة.. مثلما حدث فيما قبل مع نقابة المحامين والنيابة العامة.. فى وقت يحتاج فيه الأمن مواجها لتنظيمات إرهابية شرسة إلى دعم من الجميع بلا استثناء.

وربما منحت الضوابط القانونية حصانات للمتهمين فى قضايا الإرهاب تجبر محقق النيابة على الإفراج عنهم وهو ما يزعج ضابط الشرطة الذى قبض عليه بعد طول معاناة.. وليس هناك عاقل يطالب بإلغاء تلك الضوابط.. لكن.. المطلوب توفير المزيد من التدريب فى بعثات خارجية لجهات متخصصة لتلافى شعور الضباط بالإحباط.. وعائلات الشهداء منهم.

لقد تألمت وأنا أستمع لعتاب زوجة شهيد شرطة ونحن فى إفطار العائلة الذى دعت إليه رئاسة الجمهورية: «أطفالى يعيشون فى حالة يتم بينما قتلة أبيهم يأكلون ما يشاءون فى السجون تحت حمايتنا.. لم نأخذ بثأر أحد من الضباط والجنود حتى الآن بما يشفى الغليل».

ونحن مع هيبة وزير الداخلية وابتعاده عن التصريحات اليومية ولكن لابد أن يسمعه الناس بين فترة وأخرى.. طبقا للمبدأ الشهير «تكلم حتى أراك».. ليتكلم الوزير حتى نراه.. خاصة نحن فى زمن يلعب فيه الإعلام دورا مؤثرا سلبا أو إيجابا.. حسب موهبتنا فى التعامل معه.. كما أن الرئيس نفسه يتحدث للناس.. حرصا منه على التواصل.. ولو مرة فى الشهر.

لابد أن يأخذ وزير الداخلية تلك الملاحظات فى اعتباره لكى تزيد من تأثير ما فعل فى وزارته.. ولو كان جراحة تغيير الشرايين المسدودة توصف بـ «مذبحة قلعة» بيضاء (خالية من العنف) فإن الوصف لا يخيف.. ولا يستحق النفى.. بل.. يجب أن يفرض نفسه فى مؤسسات أخرى شاخت وتجعدت وتلوثت بالإخوان والفساد والتسيب والإهمال وغالبا ما تخلف وراءها ضحايا أكثر عدداً من ضحايا الإرهاب.. وآخر مثال ما جرى فى بحر «الوراق».