الصوم عبادة

إسلاميات

بوابة الفجر


تعددت الأبحاث الطبية التي تناولت الدور الهام الذي يقوم به الصوم في صحة الأبدان، فالصوم يريح الجهاز الهضمي من عناء العمل طوال عام كامل، فيرتاح تبعًا له القلب والكلى والرئتين والغدد الصماء والجملة العصبية، ويقل الوزن الذي يشكل مأساة لمرضى السمنة وآلام المفاصل والركبة وضعف الخصوبة، ويعد قلة مستوى الماء بالجسم -وخاصة الجلد-، من أهم العوامل التي تقهر العديد من الأمراض الجلدية كحب الشباب، وإكزيما الجلد، ومشاكل البشرة الدهنية، وقشور الشعر.

الطيب لا يأتي منه إلا الخير، والنبع الصافي لا تشرب منه إلا ماءً عذبًا زلالاً، والحديقة الغناء لا يجنى من شجرها إلا أطايب الثمر، تلك قاعدة جليلة قام عليها الكون ونشأ، والله سبحانه وتعالى طيب، تقدست أسماؤه، له صفات الجلال، ونعوت الكمال، لا يكون منه إلا كل خير، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «..والشر ليس إليك..» ، فهو أرحم الراحمين، تتجلى رحمته في كل شيء من حولنا، ومن أعظم مظاهر رحمته تعالى ما شرعه للناس من منهج فيه صلاح دنياهم وآخرتهم.

وفي هذا الشهر الجليل تدعونا الفكرة لكي نتأمل ما في الصوم من خير لديننا ولأبداننا ولآخرتنا، فالنظرة السطحية تقف عند مظهر ألم الجوع والعطش، ولكن المتأمل يجد نواحي الخير في كل أبعاد هذه العبادة الجليلة.

الصوم تحقيق للعبودية لله عز وجل:
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات من الآية:56]، والعبودية الحقيقية لا تكون إلا بكمال الخضوع والذل لله تعالى مع كمال المحبة، والصوم تجتمع فيه تلك المعاني كلها:

- فالصوم أحد الأركان الخمسة التي يقوم عليها الدين، وبكمال أدائها تكتمل العبودية لله رب العالمين.
- والصوم من أحب العبادات لله تعالى، لذلك فرضها على العالمين، فيقول جل شأنه في الحديث القدسي الصحيح: «وما تقرب إلىّ عبدي بشيء أحب إلىّ مما افترضت عليه» ، ولعظم شأن الصوم نسبه العلي القدير إلى نفسه، دون سائر العبادات، فقال في الحديث القدسي أيضًا: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، قال الله عز و جل: إلا الصوم فإنه لي و أنا أجزي به..» .

- والصوم من أفضل العبادات التي يعبد الله تعالى بها، فعن أبى أمامه رضي الله عنه قال: "أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا، فأتيته فقلت: يا رسول الله، ادع لى بالشهادة، فقال: «اللهم سلمهم وغنمهم» فغزونا فسلمنا وغنمنا، حتى ذكر ذلك ثلاث مرات، قال: ثم أتيته، فقلت: يا رسول الله، إني أتيتك تترى ثلاث مرات، أسألك أن تدعو لي بالشهادة، فقلت: «اللهم سلمهم وغنمهم» فسلمنا وغنمنا، يا رسول الله فمرني بعمل أدخل به الجنة؟ فقال: «عليك بالصوم فإنه لا مثل له» فكان أبو أمامه لا يرى في بيته الدخان نهارًا إلا إذا نزل بهم ضيف، فإذا رأوا الدخان عرفوا أنه قد اعتراهم ضيف" .

إن العبد المؤمن الذي ترك طعامه وشرابه وشهوته لله لا مطّلع ولا رقيب عليه إلا الله قد حقق بالصيام العبودية لله رب العالمين بأسمى صورها ودرجاتها، فنال بسببها محبه الله ونصره وتأيده ومعونته، وماذا يفقد من عاش في كنف الله تعالى ونال محبته؟!

الصوم مكفر للخطيئات رافع للدرجات يوم القيامة:
قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «فتنه الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» ، ويقول الله عز وجل في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به».

قال القرطبي: "معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس، وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإنه الله يثيب عليه بغير تقدير"، ويقول ابن رجب الحنبلي: "يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة، فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله عز وجل أضعافًا بغير حصر عدد".

- ومن مظاهر تكريم الله تعالى للصائمين يوم القيامة دخولهم الجنة من باب الريان، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة بابا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أي الصائمون؟ فيقومون، فيدخلون منه، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد» ، ولقد وقعت المناسبة بين لفظه ومعناه، لأنه مشتق من الري، وهو مناسب لحال الصائمين، وأما تخصيص دخولهم الجنة بباب الريان، فإنهم ميزوا بذلك الباب لتميز عبادتهم وشرفها.

الصوم جُنه من النار و طريق إلى الجنة:
قال صلى الله عليه وسلم: «الصوم جنه يستجن بها العبد من النار» ، وقال: «الصيام جنه وحصن حصين من النار» ، وقال: «من صام يومًا في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا».

قال القرطبي: "سبيل الله طاعة الله، فالمراد من صام قاصدًا وجه الله". فأي فضل بعد هذا تركه الصيام، والله تعالى يقول: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران من الآية:185] فما بالك بمن بعد عن النار مسيرة سبعين خريفًا.

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: أسندت النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدري، فقال: «من قال لا إله إلا الله، ختم له بها، دخل الجنة، ومن صام يومًا ابتغاء وجه الله، ختم له بها، دخل الجنة، ومن تصدق بصدقه ابتغاء وجه الله، ختم له بها، دخل الجنة» ، وعن ابن مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة غرفًا، يرى ظاهرها من باطـنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام» .

ويقول الحسن البصري: "تقول الحوراء لولي الله، وهو متكئ معها على نهر العسل، تعاطيه الكأس: إن الله نظر إليك في يوم صائف، بعيد ما بين الطرفين، وأنت في ظمأ هاجرة من جهد العطش، فباهى بك الملائكة، وقال: «انظروا إلى عبدي، ترك زوجته وشهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي، رغبه فيما عندي، اشهدوا أني قد غفرت له» فغُفر لك يومئـذ وزوجنيك".

الصوم الطريق إلى صحة الأبدان:
تعددت الأبحاث الطبية التي تناولت الدور الهام الذي يقوم به الصوم في صحة الأبدان، فالصوم يريح الجهاز الهضمي من عناء العمل طوال عام كامل، فيرتاح تبعًا له القلب والكلى والرئتين والغدد الصماء والجملة العصبية، ويقل الوزن الذي يشكل مأساة لمرضى السمنة وآلام المفاصل والركبة وضعف الخصوبة، ويعد قلة مستوى الماء بالجسم -وخاصة الجلد-، من أهم العوامل التي تقهر العديد من الأمراض الجلدية كحب الشباب، وإكزيما الجلد، ومشاكل البشرة الدهنية، وقشور الشعر.

إلا أن أحدث الدراسات تناولت علاقة الصوم بهرمون (الميلاتونين)، فالصوم له علاقة هامة بتكوين هذا الهرمون الحيوي بالنسبة للصحة العامة للجسم، فالميلاتونين هو حجر الزاوية الرئيسي في انتظام الإيقاع الأساسي للحياة، وكل عضو وكل نسيج وكل خليه في الجسم.

والمصدر الأساسي لإنتاج هذا الهرمون هو (الغدة الصنوبرية) التي تقع في منتصف المخ، ويتأثر إنتاجها لهذا الهرمون بالضوء والظلام، حيث يتم إفراز الهرمون وفق نظام دوري محدد يتبع الليل والنهار، وهناك مصدر آخر لإنتاج الميلاتونين يتمثل في القناة الهضمية، وهذا النوع المعوي من الهرمون يختلف عن النوع الصنوبري، حيث أنه ينتج بشكل ثابت نسبيًا، ويشكل قاعدة أساسيه لمستوى الهرمون في الدم على مدار اليوم، ولا يتأثر إنتاجه بالنور والظلام.

وإنتاج هذا النوع المعوي يتحسن كثيرًا مع الصيام، ومع الحد من السعرات الحرارية في الغذاء، والوظيفة الأساسية لهذا النوع المعوي من الميلاتونين بالدرجة الأولى هو منع التأكسد كوسيلة للوقاية من الشوارد الحرة، فوفرة الطعام الدسم تعطل هذه الوظيفة الحيوية ولذا يصاحبها دومًا انطلاق كميات كبيرة من تلك الشوارد المشاغبة التي تجر الدمار على الخلايا مما يعجل بشيخوختها وموتها، لكن الصوم يقوم بالدور العكسي حينما يحفز إفراز الميلاتونين مضاد الشوارد الحرة الأعظم، ومن ثم يساهم بدور وافر في حيوية الخلايا، ويزيد متوسط أعمارها.

والميلاتونين المفرز بفعل الصوم يؤدى دورًا كبيرًا في الوقاية من الأورام السرطانية، ومكافحة الأورام المتكونة، كما أنه يزيد من كفاءة الجهاز المناعي، ويجعل الصائمين يتمتعون بمناعة قويه عن غيرهم، وله دورًا أيضًا في انخفاض معدل الكولسترول في الدم، وعلاج ضغط الدم المرتفع، وتقليل سرعة نبضات القلب، ومن ثم راحته من عناء المجهود الزائد إلى حد كبير.
 
الصوم في عيون الأطباء:
يقول الطبيب العالمي (الكسيس كاريل) -الحائز على جائزة نوبل في الطب والجراحة- في كتابه (الإنسان ذلك المجهول)، وهذا الكتاب حجة عند الأطباء، يقول: "إن الأديان كافة لا تفتأ تدعو الناس إلى وجوب الصوم والحرمان من الطعام، إذ يحدث أول الأمر الشعور بالجوع، ويحدث أحيانًا التهيج العصبي، ثم يعقب ذلك شعور بالضعف، بيد أنه يحدث إلى جانب ذلك ظواهر خفية أهم بكثير منه، فإن سكر الكبد سيتحرك، ويتحرك معه أيضًا الدهن المخزون تحت الجلد وبروتينات العضل والغدد وخلايا الكبد، وتضحى جميع الأعضاء بمادتها الخاصة للإبقاء على كمال الوسط الداخلي وسلامة القلب، إن الصوم لينظف ويبدل أنسجتنا".

ويقول (د. ماك فادون) وهو أحد جهابذة علماء الطب في أمريكا، في كتابه الذي ألفه عن الصيام: "إن كل إنسان يحتاج إلى الصيام وإن لم يكن مريضًا، لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم، فتجعله كالمريض، وتثقله ويقل نشاطه، فإذا صام خف وزنه، وتحللت هذه السموم من جسمه، بعد أن كانت مجتمعة، فتذهب عنه حتى يصفو صفاءً تامًا، ويستطيع أن يسترد وزنه ويجدد جسمه في مدة لا تزيد على العشرين يومًا بعد الإفطار، ولكنه يحس بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل".

ويقول العالم (آيتون سنكلير): "إن أكبر شيء يعطينا إياه الصوم هو مستوى جديد من الصحة، وهذا التجدد في الصحة ينعم به الكبار في السن والشباب على السواء، وبالنسبة ذاتها، وذلك أن البنية تتجدد بكاملها فتتحسن وظائفها العديدة وتنشط، زد على ذلك أن الصوم يمنح الجسم الفرص المثلى للتخلص من السموم والفضلات المتراكمة بين ثناياه في صميم نسيجه العضوي، كما أنه بالإضافة إلى ذلك يعمل على طرد جميع العوامل المؤدية إلى الهرم والشيخوخة والاستحالة العضوية، وبذلك لن تكون نتيجة الصوم إلا صحة وفيرة وبأعلى مستوى".

إن كل هذه الفضائل الإيمانية والتربوية والصحية التي تجتمع في الصوم لتجعل من هذا الشهر الكريم -شهر الصوم-، روضة من رياض الصالحين تهفوا أنفسهم إليه طيلة العام وتلهج ألسنتهم بالدعاء: "اللهم سلمنا إلى رمضان، وسلم لنا رمضان، وتسلمه منا متقبلًا".