منال لاشين تكتب: منتجع أم مدينة.. أزمات وأسرار العاصمة الإدارية الجديدة

مقالات الرأي



■ الحكومة تدرس منح الموظفين شققاً بإيجار رمزى فى العاصمة.. والإسكان الاجتماعى يقربها من قلوب المواطنين

■ منذ إطلاق المشروع هناك تضارب فى التصريحات بين الحكومة والعبار 

■ المشروع الجديد طويل الأجل قد يمتد لـ15 عاما وعلى خمس مراحل وبعشرات المستثمرين

■ حتى لا يتحول المشروع إلى منتجع سكنى يجب أن تتوفر مدارس وخدمات للطبقة المتوسطة


أذهب صباحا إلى مدينة 6 أكتوبر أو القطامية أو التجمع الخامس واشعر أننى على سفر، لا تؤثر فىّ جمال المدن والخضرة الممتدة أمام عينى، مثل ملايين المصريين اتدفى فى سكن فى العاصمة القديمة والمدن القديمة التى تجد البقال تحت منزلك والصيدلية على مرمى بصرك والفرن البلدى أو الافرنجى فى آخر الشارع. الخروج من هذه المدن قرار صعب لدى معظم المصريين، خاصة الفقراء لا يوجد مبرر لديهم للخروج من الحى أو الجو الذى يعيشون فيه إلا ندرة الرزق، ساعتها سيضطر آسفاً حزيناً عن بلده، ولذلك فإن بناء مدن جديدة وخلق امتداد عمرانى يحتاج إلى دراسة وتوفير عناصر جذب تضمن ألا تتحول هذه المدن إلى مدن أشباح أو منتجعات خمس أو سبع نجوم. منتجعات لا يستفاد منها سوى المستثمرين الكبار الذى بنوا هذه المدن، والأثرياء الذين سكنوا أو على الاقل اشتروا و«سقعوا» الأراضى أو الفيللات فى هذه المنتجعات.

وهذه التجارب المريرة دفعت فيها الدولة «دم قلبها»، وهذه التجارب يجب أن تدفع الحكومة أن تتحرك بحرص شديد فى ملف العاصمة الإدارية الجديدة، والتى بدأت بمشروع عملاق ومبشر فى المؤتمر الاقتصادى بشرم الشيخ وانتهت بصيغة مختلفة واتفاق آخر يؤدى إلى تغيير المشهد بالكامل.

1- بداية غامضة

فى المؤتمر الاقتصادى لم نر سوى ماكيتات لمدينة رائعة وواعدة، ولكن خلال المؤتمر كانت هناك نقاط غموض.فبعض المسئولين تبرعوا وأدلوا بتصريحات بأن العاصمة الجديدة ستحوى قصراً أو مقرا رئاسيا، ولكن مسئولين آخرين ومطور المشروع السابق رجل الأعمال الإماراتى محمد العبار نفوا حكاية القصر الرئاسى.

وقصة القصر الرئاسى هى مجرد مؤشر على الغموض أو علامات الاستفهام الرئيسية.هل نحن بصدد إنشاء عاصمة بديلة للقاهرة أم عاصمة تجارية ومركز للمال والأعمال على غرار بعض التجارب الدولية، أو مدينة لاستيعاب الزيادة السكانية المتزايدة كل يوم وكل ساعة.

ولكن المفاوضات المتعثرة بين الحكومة ورجل الأعمال الإماراتى «العبار» سرقت الاهتمام من هذه الاسئلة المهمة والحاسمة، واحتلت اسئلة أخرى مكان الصدارة ماهى نقاط الاختلاف بين العبار والحكومة وهل هو خلاف على نسب المشاركة فى المشروع والتزامات كل طرف.أم أننا أمام خلاف حول مدة تنفيذ المشروع.

ولكن المحصلة النهائية أنه بعد فشل المفاوضات تدخلت الدولة لتنفيذ المشروع بصيغة مختلفة تماما، ولعل أهم تغيير هو أننا بعد غياب التمويل الأجنبى نتحدث عن مشروع طويل الأجل ومقسم على مراحل. المشروع تلعب فيه الدولة دور المطور الذى تسيطر على المشروع تخطيطا وبنية أساسية وإعادة طرح لمطورين أو مستثمرين مصريين وعرب وأجانب.باختصار أصبح المشروع أقرب لإنشاء مدينة عملاقة تستوعب الزيادة السكنية ويتم انشاؤها على مراحل.

2- مدينة للجميع

ومنذ تغير قواعد العمل عادت الاسئلة الاولى وعلى رأسها سؤال: لمن نقيم العاصمة الإدارية للمواطن العادى أم ستتحول إلى منتجع جديد لأصحاب المال؟ فى محاولة من الحكومة لتقديم إجابة مرضية للمواطن عن هذا السؤال قدمت أكثر من سيناريو، وهذه السيناريوهات تهدف إلى إيجاد حلول لغلاء أسعار الوحدات والشقق التى ستطرح فى العاصمة الجديدة. من ضمن الحلول تدرس الحكومة تخصيص وحدات بإيجار رمزى للموظفين الذين سيتم نقل أعمالهم أو بالأحرى وزاراتهم فى العاصمة الجديدة، ومن ضمن الحلول تخصيص نسبة من أراضى المشروع للإسكان الاجتماعى حتى تستطيع فئة المستفيدين من مشروع الإسكان الاجتماعى إيجاد سكن بأقل تكلفة ماليا.

من ضمن الخطط ايضا إدخال وحدات الاستديو أو المساحات الصغيرة التى توفر أماكن للسكن بأقل فاتورة ايجار أو تمليك. ووحدات الاستديو نظام معمول به فى العالم كله ويحقق حلا للإسكان منخفض التكاليف، وفى الغالب يتضمن الاستديو بعض وسائل المعيشية تسهيلا على طالبى العمل فى هذه المدن، ومن المتوقع أن تشمل الدراسات تحمل الجهات والوزارات لجزء من تكلفة توفير سكن للموظفين، وخاصة أن الحكومة ستحتفظ بنسبة من المشروع فى كل تعاقداتها مع المستثمرين، ومن خلال هذه النسبة فإن توفير وحدات للموظفين سيكون أقل تكلفة.

3- أزمة الخدمات

ولكن هل مشكلة العاصمة الجديدة تنحصر فى السكن.أو بالأحرى توفير السكن بتكلفه معقولة. أم أن تجاربنا السابقه تكشف عن أن أزمة توفير الخدمات فى المدن الجديدة مستمرة. ففى العديد من المشروعات يؤدى غياب مدرسة عامة أو مستشفى أو مستوصف.أو بقال أو سوبر ماركت، وفى مصر ملايين الوحدات والشقق المغلقة فى المدن الجديدة، اشتراها مواطنون ولم يجدوا الخدمات الأساسية لمواصلة الحياة.

على العكس وفى الجانب الآخر فإن المنتجعات الفاخرة ونظرا للأرباح الكبرى التى يحققها المستثمرون والتجار فإن هذه المنتجعات كاملة الخدمات، ولعل أزمة المدارس فى 6 أكتوبر مؤشر للأزمة التى تواجه مستقبل العاصمة الإدارية الجديدة، فمدارس 6 أكتوبر تلبى حاجة الأثرياء فى مدارس بمستوى تعليمى عال ومصروفات أعلى، وهناك مدارس عامة حكومية، ولكن هناك ندرة شديدة فى مدارس الطبقة المتوسطة، وهى مدارس اللغات الخاصة بمصروفات معقولة.

وهذا النموذج يجب أن تأخذه الحكومة أو وزارة الإسكان فى تخطيطها للعاصمة الجديدة. سواء تم تنفيذ المشروع على خمس سنوات أو عشر، وسواء نفذه مستثمر واحد أو عشرة أو مائة. فإن الخروج من أزمة تحول العاصمة لمنتجع يكمن فى جملة واحدة.يكمن فى توفير خدمات للطبقة المتوسطة. مدارس قومية أو عامة، ومدارس عربى أو لغات، وليس مجرد إنشاء مدارس دولية، وأن يتضمن التخطيط تعليماً عالياً فى مستوى القدرة المالية للطبقة المتوسطة، وأن تتوفر الخدمات التموينية والغذائية لهذه الطبقة. من ضمن التخطيط الجيد أن يتضمن التخطيط نوادى أو مراكز شباب بمصروفات فى قدرة هذه الطبقة، وإلا سيلحق مشروع العاصمة الجديدة بمشروعات أخرى. مشروعات أصبحت محرمة على الطبقة المتوسطة، ليس بسبب ارتفاع أسعار الشقق فحسب، ولكن لارتفاع تكلفة الحياة فيها، وتحولت هذه المشروعات لمنتجعات للأثرياء فقط.

وقد كانت هناك فكرة بدأها واحد من أفضل وزراء الإسكان المهندس حسب الله الكفراوى، وهذه الفكرة أن الحكومة تبنى للاغنياء لتحقق مكاسب، ومن هذه المكاسب تستطيع أن تبنى للفقراء والطبقة المتوسطة، وقد طبق الكفراوى هذه الفكرة فى كل من مارقيا وماربيا بالساحل الشمالى ثم مارينا، ولكن بعد الكفراوى تحولت معظم الدولة إلى تاجر ينافس القطاع الخاص فى رفع سعر الأراضى، ومالت كفة الاستثمار العقارى إلى الإسكان الفاخر، وأصبح التقييم فى ملف الإسكان بمدى ما كسبته الدولة من بيع الأراضى وليس بمدى ما حققته الدولة من نجاح فى حل أزمة الإسكان.

ولكن تطبيق هذه الفكرة على العاصمة الإدارية الجديدة لم يكون مفيدا من الناحية السياسية. لأن فاتورة إنشاء العاصمة ضخمة جدا، وبالنسبة للمواطن العادى فإن المبرر الرئيسى لتحمل هذه الفاتورة هو أن يكون له ولأولاده وطبقته مكان أو بالأحرى مستقبل فيها، وأظن أن الدولة تعى هذه الإشكالية، وأن ما يجرى الآن هو ضمان أن تستوعب العاصمة الجديدة فى مراحلها المختلفة طوائف الشعب المصرى، وذلك حتى يشعر كل المصريين أن العاصمة الجديدة لا تستبعد أو تقصى أحدا. لأن العاصمة الجديدة تحولت إلى رمز لدخول المستقبل، ولا يجب أن يكون المستقبل حكرا على فئة، ولا يجب أن يتحول مشروع للمستقبل إلى كمبوند للأثرياء والقادرين. فألف باء المشروعات القومية العملاقة أنها مشروعات تفتح أبوابها للجميع وتستوعب كل طبقات الشعب، ويشعر كل مواطن أن هذه العاصمة تمثل مستقبلاً له أو لأولاده. لا أن تشعر الطبقة المتوسطة فضلا عن الفقراء أننا ننشئ أكبر منتجع فى تاريخ مصر.