الأزهر بين وسطية الإسلام

إسلاميات

بوابة الفجر


وسطية هذه الأمة جَعْلٌ إلهي.. وليست مجرد نزعة إنسانية أو اختيار بشري يرغبه البعض ويزور عنه آخرون؛ فالمعنى الإسلامي للوسطية هو التوازن الذي يجمع عناصر الحق والعدل من الأقطاب المتقابلة، مكونًا الموقف الثالث (الوسط) البريء من غلو الإفراط والتفريط.. ولقد عبر الحديث النبوي الشريف أدق التعبير عن هذا المعنى للوسطية الإسلامية.. عندما قال المعصوم صلى الله عليه وسلم: "الوسط العدل.. جعلناكم أمة وسطًا".

إن وسطية الإسلام تعظم الأصول التي يقوم عليها بناؤه، وتصونها عن أن تمتد لها يد التلاعب بتبديل وتحريف، أو محاولة إفراغها من معانيها ودلالات مضمونها، أو الانجرار إلى الغلو في الدين؛ لأن الغلو في الدين هو الطريق إلى التطرف الفكري والاعتقادي، والفهم الخاطئ للدين قد يدفع الإنسان إلى محاولة فرض ما يعتقده ويؤمن به بالقوة، وهذا ما أثبته الواقع المشاهد.

وعلينا أن نعلم أن الشريعةُ الإسلاميةُ قد نهت عن الغلو في الدين، وحذرت المسلمين منه حتى لا ينجرفوا وينحرفوا، فجعل الله هذه الأمة وسطًا؛ لأن دينهم كذلك، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.. [البقرة: 143].

فمثل هذا التوجيه جاء صريحًا لأهل الكتاب؛ لقول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾.. [المائدة: 77]. فالغلو خلاف الوسطية، فإذا كانت الوسطية تعني الاعتدال والتوازن في الأمور كلها، فإن الغلو يعني الشقة والتضييق على النفس باتباع طريق واحد بعيدًا عن الوسط.

ووسطية الإسلام توازن بين الأحكام، فلا غلو ولا تشدد، ولا تفلت ولا تسيب، فلا إفراط ولا تفريط في الإسلام، وقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل العملي في ذلك مع بعض الصحابة الذين شددوا على أنفسهم بحثًا عن المزيد من الطاعة، فقال أحدهم: أصوم الدهر كله ولا أفطر، وقال الآخر: أقوم الليل كله ولا أنام، وقال الثالث: لا أتزوج النساء.

ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا درسًا عميقًا في الوسطية والاعتدال، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"، حيث إن ذلك بعيد عن روح الإسلام ومبادئه التي بنيت على التيسير وعدم التنفير، وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن فيه إثم أو قطيعة رحم.

ومما سبق علينا أن نعرف أن وسطية الأزهر الشريف تنطلق من وسطية الإسلام التي هي تحصين للمجتمع من الإفرازات التي يمكن أن توجد بسبب التضييق من المتطرفين الذين يعتمدون على نظرة ضيقة للكون وللحياة، وينطلقون منها إلى تخطئة كل رأي مخالف لهم باسم الدين، ويدينون كل فكر مخالف لفكرهم باسم الدين، الأمر الذي ينتهي بهم إلى تكفير الناس، بل والنيل من أعراض العلماء، ووصمهم بصفات غير لائقة.

وعليه فالغلو في الدين باب إلى التطرف الذي يقود إلى العنف والسعي إلى إلزام المخالف رأيه بالقوة، وتبني الأزهر لمبدأ الاعتدال ووسطية الإسلام هو سر بقائه إلى الآن شامخًا لم تؤثر فيه حوادث الدهر، وهو سر التفاف الناس حوله، فهو الملاذ للجميع وهو الحصن والمدافع عن الدين.

ولقد رفع الأزهر الشريف راية الوسطية على مدار 1050 عامًا، ولم يثنه شيء عن أن يكون شعار الوسطية والاعتدال في الفكر وفي كل شيء هو شعاره الذي لم ولن يتغير أبدًا، وعزم على الحفاظ عليه من منطلق تأثيره المحلي والعربي والعالمي، ومن رسالته التي هي محاكية للدين الإسلامي في التوجه والأهداف والتي تتسم أيضًا بالعالمية.

ومن هذا فإن رسالته هي رسالة الإسلام، ألا وهي "الوسطية والاعتدال"، وقد هيأ الله تعالى الأزهر ليقوم على حفظ القرآن الكريم، وسيبقى على هذا بمشيئة الله تعالى، وبعلم علمائه، وبثقافة التجديد للفكر الإسلامي.

إن الأزهر الشريف على مدار تاريخه الحافل أدى ولا يزال يؤدي دورًا وطنيًّا وقوميًّا وإسلاميًّا، ولا يزال يحتل مقام الريادة والقيادة ولن يتخلى عن هذا الدور المهم داخليًّا أو خارجيًّا، لأنه كلما زادت قوة الأزهر وحضوره زادت قوة مصر والوطن العربي والعالم الإسلامي بالضرورة.

فالأزهر الشريف الجامع والجامعة وكذا علماؤه لهم مكانة عظيمة في نفوس مسلمي العالم، مما أهله ليكون قوة ناعمة ومؤثرة في كل الدول الإفريقية والعربية والإسلامية التي جاء أبناؤها للدراسة في الأزهر طلابًا للعلم، وعادوا إلى بلادهم مفتين وعلماء دين ووزراء ورؤساء حكومات لا تكاد تخلو منهم دولة.

كما أنه لم يأل جهدًا في رعايتهم من خلال مدينة البعوث الإسلامية بكل فروعها لتوفير الرعاية والمسكن الآمن للوافدين من الدارسين في الأزهر الشريف، ليعودوا بعد ذلك سفراء لمصر والأزهر في بلادهم، وأعتقد أن هذه قوة كبيرة لا ينبغي أن نتغافل عنها بل على العكس لا بد من استثمارها في هذه الظروف التي تمر بها البلاد، والاستفادة من هذه القوة الناعمة في حل المشكلات بيننا وبين الدول الأخرى.

وهذا يأخذنا إلى نقطة مهمة ألا وهي أن يكون للأزهر ممثلون في السفارات المصرية بالخارج في كافة الدول، وهو ما يسمى بالدبلوماسية الوسطية، ومن خلال مواقعهم يمكن الاستفادة بما للأزهر من رصيد لدى شعوب هذه الدول في التغلب عما يقابلنا من مشاكل وصعوبات.

كما أن الأزهر الشريف استطاع أن يحافظ على مكانته في نفوس الجميع حينما أعرض عن السياسة والتحزب والدخول في العملية السياسية بمفهومها السياسي، بل ظل ناصحًا للكل يحركه حبه للوطن وحقنه لدماء أبنائه وحفظه على وحدة الأمة.

ولم يستطع أحد النجاح في جره إلى آتون السياسة أو الزج به في المخاصمة مع أي من أبناء الأمة، وهذا هو جوهر رسالته التي تقوم على الوسطية والاعتدال، والتي تقبل التعدد والاختلاف من أجل البناء، وقد ظهر ذلك جليًّا في قدرته على استيعاب كل المذاهب الفقهية التي يدرسها أبناء الأزهر الشريف، هذا التعدد قد أثرى الساحة الدينية والفقهية وعاد على الأمة بالخير الكثير، ولم يلزم أبناءه بدراسة مذهب بعينه وترك بقية المذاهب مما يعبر عن فكر وعقلية تقبل التعدد والاختلاف من أجل البناء وصلاح الأمة، وترفض الخلاف والشقاق والغلو والتشدد.

لكن ثمة أمورًا لا بد أن تراعى في المستقبل القريب من أجل العودة بالأزهر إلى سابق عهده، أهمها تحقيق الاستقلال المالي والإداري للأزهر الشريف وسرعة رد الأوقاف الخاصة به؛ وتطوير الخطاب الديني بما يلائم المرحلة والظروف، وضرورة إعداد الداعية القادر على القيام بنشر الوعي والوسطية بين أبناء الأمة في الداخل والخارج.