جهاد التابعي تكتب: حرية وسط البلد

مقالات الرأي

بوابة الفجر


لم يذهب أحد إلى وسط البلد إلا ورآه، جالسا على كرسي خشبي في قهوة مزدحمة وأمامه مشروب ساخن يبطئ في تناوله كي يصمد معه الخمس ساعات القادمة بينما يتحدث في انهماك لفتاة يبدو عليها التردد والقلق، تستمع إلى كلماته في اهتمام وتتظاهر بالموافقة على كل حرف، لأن تعبيرات وجهة تقول لها طوال الوقت أنها لو لم تكن مثله تماما فهي جاهلة ورجعية.

يدعم كلامه بعناوين براقة لكتب معقدة قرأ عناوينها وحفظها مع صفحاتها الأولي عندما مر على إحدى مكتبات وسط البلد العتيقة في طريقة للقهوة.

 يحاول إقناع الفتاة بأن طريق الحرية يبدأ من غرفة نومه، وليس أي مكان آخر، ولا أي غرفة نوم أخري حتى، غرفة نومه هو في الشقة العتيقة المشتركة مع مجموعة من أصدقائه على الكراسي المجاورة بالقهوة.

لابد أنك لمحته يوما ما جالسا هناك، في الواقع هو يجلس هناك كل يوم، والحقيقة أنه ليس واحدا، لكني لا أستطيع أن أشير له " بهم" فهو مجرد نسخة مكررة لشاب لم يحصل على أي شيء يريده في الحياة، ووجد في ادعاء الحرية وسيلة ليحصل من حين لآخر على علاقة جسدية، أو مشروب، أو ثمن وجبة نظيفة في حالة إقناع فتاة ميسورة بأن الحرية تبدأ بدفع المرأة الحساب لأن المرأة والرجل متساويان
متساويان؟ إذن الدفع إنجليزي؟ كل واحد يدفع حسابه، لكنه يتدارك الأمر بأن المرأة من وجهة نظرة أفضل من الرجل كثيرا ولا حرج إن تشاركا محفظتها.

دعونا نسترق السمع لمحادثتهم قبل أن تغلق القهوة أبوابها ويصحبها للشقة أو مكان السهر الشهير.
- مش تخلعي الحجاب بقي يا ساره؟
- مش عايزه أعمل كده، أنا حرة صح؟ كنت هخلعه فورا لو أنا لابساه غصب عني أو لأي سبب بيضغط عليا بس أنت عارف إني مقتنعة بيه أنا حره اختار أحط ايه أو محطش ايه على راسي، أنا اتدخلت في الكاب بتاعك ولا الحظاظة؟ متتدخلش في لبسي.
- هتفضلي قفل كده شكلك، يابنتي الحياة قصيرة عيشي يمكن مفيش تاني
- أنت شايف في اعتقادك إنه يمكن مفيش تاني وأنا بحترم اعتقادك لأني بحترم حرية العقيدة واختيار الدين بس أنا عندي في تاني ومرتاحة كده، مرتاحة وأنا عندي دين، عندي عقيدة تهون عليا الأفكار اللي عمري ما هقدر أفسرها بعقلي، عندي سبب ممكن يديني أمل لو جالي مرض نادر، أو كان عندي ابن بيموت علي ايدي، هبقي مطمنه والناس بتقولي " ربنا هيقومهولك بالسلامه" مش هقدر أسمع ساعتها مثلا إن الطبيعة اتخلت عننا زي ما بتقول، المهم يعني أنا بحترم حرية عقيدتك، احترم أنت حرية عقيدتي، ولا هي حرية العقيدة عندك إن الناس تبقي لا أدرية وبس؟ متعملش زي ما المجتمع اللي بره بيعمل فيك بس بطريقة عكسية، متجبرش الآخر يبقي نسخة منك.

وعلى الكرسي المجاور تجلس إحدى تلميذاته القدامى التي صارت تهب الفتنة والجسد للجميع بلا مقابل لأنه علمها أن العطاء بمقابل عبودية، وأن الاختيار تكبر، وأن المثل " إن سرقت اسرق جمل وإن عشقت أعشق قمر" مثل عقيم ومادي، سيحرمها من الحرية كما يعرفها هو.

تجلس ريتاج بجسدها المرمري وشعرها الأشقر الطويل وبلوزتها المفتوحة المكرمشة قليلا، أمام على الذي سرح فيها وتسأله تحت تأثير السحر
-بتشرب ياعلي؟
-لا مبحبش أشرب
- بس أنت لاديني يا علي ازاي مش بتشرب
- أنا حر، مشروبي المفضل عصير برتقان ايه علاقة ده بعقيدتي؟
- آه. طيب، طب ادفع الحساب وقوم نسهر ياعلي.

مجتمع كراسي وسط البلد الذي يبدو متحررا لأنه يفعل كل شيء" يفعل مثل ما يفعل المجتمع الخارجي الذي يحجر على كل شيء لكن بصوره معكوسة، فالحرية لدي نسبة لا يستهان بها " باكيدج على بعضها" تشمل السهر والشرب ومنح الجسد لكل مريد، وخلع الحجاب، والهرب من منزل الأهل بلا سبب حقيقي أو معاناة تستدعي ذلك من عنف أسري مثلا أو سوء معاملة، ولكنه مجرد "تبطر علي النعمة"، للاستقلال الصوري في شقة تكتظ بفتيات كثيرات يدخنَ الحشيش بدلا من الهواء، وأيامهن مقلوبة دائما، ويستلفن مبالغ زهيدة متكررة طوال الوقت من كل من ساقة حظة السيء لأن يكون من معارفهن لتغطية نفقات السهر والدخان.

لن تنتهي حكايات كراسي وسط البلد، فمنذ القدم وهي حافلة بالحكايات، خرتية، وحرية، وأشياء أخري، لا تغضب مني إذا كنت أحد من تحدثت عن كراسيهم، فقط تمسك بحريتك الحقيقية، التي تريدها فعلا، تمسك بمفهومك أنت عن الحرية، وليس مفهوم الآخرين، الحرية ليست حزمة أو طبق معد مسبقا، يمكنك اختيار ما تريد في طبقك، لأنك وحدك ستحمله، ووحدك ستأكله، فاختار ما تستطعم به جيدا.