تعرف على حرب القرم بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية

تقارير وحوارات

أرشيفية
أرشيفية


تحل اليوم، حرب القرم التى قامت بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية، تزامنًا مع وجود خلاف بين الطرفين بسبب إسقاط تركيا لإحدى الطائرات الروسية، الأمر الذى ينذر ببوادر حرب البلدين، إلا أن خريطة التحالفات فى هذه الحرب كان مختلفاً تماماً، حيث استمرت الحرب حتى 1856م، ودخلت مصر و تونس وبريطانيا وفرنسا الحرب إلى جانب الدولة العثمانية في 1854م، والتي كان قد أصابها الضعف، ثم لحقتها مملكة سردينيا التي أصبحت فيما بعد (1861م) مملكة إيطاليا.

كان سبب قيام الحرب، الأطماع الإقليمية لروسيا على حساب الدولة العثمانية وخاصة في شبه جزيرة القرم التي كانت مسرح المعارك والمواجهات، وانتهت حرب القرم في 30 مارس 1856م بتوقيع اتفاقية باريس وهزيمة الروس.
 
" أطماع روسيا القيصرية"

اتسمت العلاقات بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية بقدر كبير من العداء والدموية، فمنذ سيطرة القياصرة على الحكم في روسيا، وامتلك الروس حزمة من الأطماع التوسعية في أن تكون روسيا دولة كبرى على مسرح السياسة الأوربية والدولية، واختلطت هذه الأطماع في بعض الأحيان بايدولوجية دينية متعصبة، متمثلة في حماية الأرثوذكس في العالم، والسيطرة على القسطنطينية التي فتحها السلطان محمد الفاتح، وكذلك السيطرة على الأماكن المقدسة المسيحية في فلسطين.

وأدرك الروس أن تحقيق هذه الأطماع المتشابكة لن يتم إلا بالقضاء على الدولة العثمانية، خاصة في منطقتي آسيا الوسطى والبلقان، والسعي إلى تقسيم الأملاك العثمانية بين الدول الكبرى، تمهيداً لوصول روسيا إلى المياه الدافئة، وهو الحلم الذي ظل يراود الروس فترة طويلة من الزمن، وأدرك الروس أن ذلك لن يتحقق إلا بوجود قدر من التوافق بين روسيا والدول الأوربية الكبرى، وبسبب هذه الأطماع الروسية فضلاً عن حالة الضعف العثمانية التي كانت تغري الدول الكبرى بالتدخل في شؤونها، وقعت عشرات الحروب بين العثمانيين والروس، استغرقت أكثر من ثلاث قرون.
 
"الأطراف المتصارعة"
كان القيصر الروسي نيقولا الأول متعصباً دينياً، ويدرك أن حركة التجديدات والإصلاحات داخل الدولة العثمانية سوف تنعكس بصورة أو بأخرى الأطماع والنفوذ الروسي خاصة في منطقة البلقان، لأن تقوية الدولة العثمانية تعني ألا تصل روسيا إلى المياه الدافئة.
 
 ورأى نيقولا أن نجاح العثمانيين في توطيد علاقتهم ببريطانيا سياسة شريرة تتبعها الدولة العثمانية للإضرار بالمصالح الروسية، ولذا قرر أن يختم حياته بتأديب الدولة العثمانية، لكنه أدرك أن قيامه بهذا السلوك المعادي ضد العثمانيين لن يتم بدون موافقة بريطانيا، ولذا عقد القيصر لقاء مع السفير البريطاني في مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، وتناول اللقاء عرضاً روسياً بإقتسام الدولة العثمانية أو على الأقل تقليم أطرافها.
 
أرادت بريطانيا أن تنصب مصيدة بعناية لإيقاع روسيا في حرب ضد الدولة العثمانية لاستغلال هذه الحرب في توجيه ضربة عنيفة لروسيا تدفعها للإرتداد خلف حدودها مرة أخرى، وتحجبها عن الظهور على مسرح السياسة الأوروبية ولذا أطلعت بريطانيا العثمانيين على حقيقة النوايا الروسية السرية.
 
"التمهيد للحرب"
حين رأت الدولة العثمانية التنافس بين الدول الكبرى على إدارة الأماكن المقدسة للمسيحيين في فلسطين عملت على حفظ التوازن بين هذه الدول، لكن ضغوط بعض الدول الكبرى، جعلت العثمانيين يمنحون بعض الدول امتيازات خاصة، فقام السلطان العثماني بمنح امتيازات جديدة عام (1268هـ 1852م) للكاثوليك (الذين كانت فرنسا تمثلهم)، وهو مايعني أنه خضع للضغوط الفرنسية.
 
وتسبب هذا الموقف في استياء روسي من السلطان العثماني، ووجدت روسيا فيه ذريعة ومبرراً يتيح لها حرب الدولة العثمانية، معتمدة على البعد الديني وحماية المسيحيين الأرثوذكس.
 
وأرسل القيصر الروسي بعثة دبلوماسية إلى اسطانبول ترأسها السفير الروسي فوق العادة "منشكوف" الذي كان يشغل منصب وزير البحرية، للتفاوض مع السلطان العثماني في قضية الأماكن المقدسة، والحصول على إمتيازات للرعايا الأرثوذكس في الدولة العثمانية، إلا أن مسعى هذه السفارة الحقيقي كان السعي إلى إيجاد المبرر لحرب الدولة العثمانية.
 
أدركت بريطانيا أن تجاوب الباب العالي مع المطالب الروسية معناه زيادة النفوذ الروسي على حسابها، ولذا استدعت بريطانيا أبرز دبلوماسيها وهو السير ستراتفورد لإحباط هذه المساعي الروسية، كما أرسلت فرنسا بعض وحدات من أسطولها إلى المياه العثمانية، وبدأت باريس ولندن تعملان على تحويل مهمة منشكوف من كونها خلافا مذهبيا بين الكاثوليك والأرثوذكس إلى كونها خلافا سياسياً بين العثمانيين والروس.
 
نجحت الدبلوماسية البريطانية في إقناع السلطان العثماني باستصدار فرمان للتجاوب مع المطالب الروسية فيما يتعلق بالأماكن المقدسة في القدس، وبذلك ضيعت بريطانيا على روسيا حجة الخلاف المذهبي لتصعيد لهجة العداء مع الدولة العثمانية، ورفض السلطان العثمانى مطالب منشكوف، مما أثار غضب منشكوف، وأرسل بدوره رسالة تحمل صفة الإنذار إلى حكومة الآستانة، طلب فيها أن يعترف السلطان العثماني لروسيا بحق حماية الأرثوذكس حماية مطلقة.

"بداية الحرب"
بدأت الحرب العثمانية الروسية في 3 يوليو 1853م، وكان مسرحها الأول بمنطقة البلقان، حيث قام حوالي 35 ألف جندي روسي بإحتلال رومانيا التي كانت تابعة آنذاك للدولة العثمانية، وأبلغت روسيا الدول الأوروبية أنها لن تدخل في حرب شاملة ضد الدولة العثمانية، وأن مافعلته إجراء وقائي لحين إعتراف السلطان العثماني بحقوق الأرثوذكس في كنيسة القيامة في القدس، وأنها سوف تنسحب فور هذا الاعتراف، وقامت الدولة العثمانية وروسيا بحشد قوات ضخمة على جبهات القتال، وعلى جبهتي الدانوب والقوقاز، واستطاع القائد العثماني عمر باشا أن يلحق هزيمة كبيرة بالروس على نهر الدانوب، وأن يدخل رومانيا.

أرادت الدولة العثمانية دفع بريطانيا وفرنسا إلى دخول الحرب إلى جوارها، ودبرت إرسال مجموعة من قطع الأسطول البحري العثماني القديمة إلى ميناء سينوب على البحر الأسود، وهي تدرك أن هذه السفن لابد أن يهاجمهما الروس، وبالفعل هاجم الروس هذه السفن وتم إغراقها جميعا، واستشهد حوالي ألفي جندي عثماني، وأثارت هذه المعركة قلقا في الأوساط في لندن وباريس، وحذرت الصحافة في العاصمتين من الخطر الروسي، وعرض الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث الوساطة لإنهاء القتال بين العثمانيين وروسيا، إلا أن القيصر الروسي رفض ذلك، خاصة بعد انتصارات عمر باشا في رومانيا.

بادر نابليون الثالث بالاتفاق مع بريطانيا ضد القيصر، وقبلت لندن العرض الفرنسي بحماسة شديدة، وغادر سفيراً لندن وباريس مدينة سانت بطرسبرغ الروسية في 6 فبراير 1854 م، وتم عقد معاهدة إسطانبول في  12 مارس 1854 م، بين الدولة العثمانية وبريطانيا وفرنسا، ونصت على ألا تعقد أي دولة من هذه الدول صلحاً منفرداً مع روسيا، وأن يتفاهم قواد الدول الثلاث في الحرب ضد روسيا، وأن تكون الوحدات الإنجليزية والفرنسية والسفن التابعة لهما في إسطانبول خاضعة للقوانين العثمانية.
 
أعلنت فرنسا وبريطانيا الحرب على روسيا في 27 مارس 1854 م، ونشبت معارك ضخمة في عدة جبهات أثناء حرب القرم، إلا أن أهم هذه المعارك كانت معركة سيفاستوبول التي خاضتها الدول الثلاث للقضاء على القوة البحرية الروسية في البحر الأسود، وانتهى الأمر بسيطرة الدول الثلاث على الميناء في 9 مايو 1855م.

في هذه الأثناء توفي القيصر الروسي نيقولا الأول، وخلفه في الحكم ابنه ألكسندر الثاني الذي شعر بعدم قدرة بلاده على مواصلة الحرب، فقرر التفاوض للسلام، خاصة بعد المذكرة التي تقدمت بها النمسا لروسيا وحذرتها فيها من أن دولا أوروبية أخرى قد تدخل الحرب ضدها.

 "معاهدة باريس 1856"
بعد توقف حرب القرم نشر السلطان العثماني عبدالمجيد في 18 فبراير 1856 م، فرمانا عُرف باسم المرسوم الهمايوني للإصلاحات، والذي اعترف بمجموعة من الحقوق للأقليات الدينية في الدولة العثمانية، وكان هدفه الحقيقي محاولة الدولة العثمانية كسب الرأي العام الأوروبي إلى جانبها أثناء المفاوضات لتوقيع معاهدة باريس.
 
اعترف الفرمان بالمساواة بين جميع رعايا الدولة العثمانية من مسلمين ومسيحيين، وجرّم استخدام تعبيرات تحقر المسيحيين، ونصّ على تجنيد المسيحيين في الجيش العثماني، وإلغاء الجزية، على أن يدفع المسيحيون غير الراغبين في الخدمة العسكرية بدلاً نقدياً، وأن يمثل المسيحيون في الولايات والأقضية تبعاً لأعدادهم في تلك المناطق، وافتتح مؤتمر باريس في 25 فبراير 1856 وتم توقيع معاهدة باريس وتضمنت عدة نقاط مهمة، منها: "حرية الملاحة في نهر الدانوب، وتشكيل لجنة دولية للإشراف على ذلك، وإعلان حياد البحر الأسود".