آية حنورة تكتب: ضحكات باكية

مقالات الرأي

بوابة الفجر


أصوات ضحكاتها تملأ أركان بيتها، وتبهج حياة كل من يرأها، تبدلت حياتها بين ليلة وضحاها بعد وفاة زوجها.. "ضحى" هي فتاة في العشرينيات من عمرها، تعيش مع والدتها، كانت مليئة بالحيوة والنشاط، لكنها تحولت من فتاة تشع حياة وجمالًا وأناقة إلى سيدة هزيلة مصدورة بمرض "الربو" بعد عام واحد من وفاة زوجها التي كانت تحبه حتى الجنون، بعدما أصيبت بصدمة نفسية وامتنعت عن الطعام والشراب، فضعُفت وهزُلت وعاشت منكمشة منعزلة عن الحياة، لا ترى فيها سوى ذكريات تطاردها ليلا ونهارا.

"ضحى" ضاقت بها الدنيا بما رحُبت، وتعسرت حالتها، بعدما أمضت شهورًا طويلة حزينة كئيبة لرحيل زوجها، إلى أن أتي يومًا وقررت أن تقف على رجيها، لتجدد دمائها وتعيش وتستكمل حياتها الطبيعية من جديد. في ذات يوم قررت أن تذهب إلى منزل أحد أصدقائها لحضور حفل، بدت جميلة مديدة القامة بيضاء الوجه ينعقد شعرها المموج حول جبينها، دخلت "ضحي" على المدعوين في بيت صديقتها ترتدى فستانا أسودا عاري الذراعين، ويزين صدرها عقد لؤلؤي يبرق بريقه ويخطف الأنظار، جمالها كاد أن يخطف أنظار الحضور والذي من بينهم الرسام المشهور "علي" الذي لا يشغله سوى عمله وفنه بعدما ترك المشاعر والحب جانبًا حتى راح شبابه على لوحاته ورسوماته الرائعة، ورغم أنه كهلًا في الخامسة والخمسين من عمره إلا أنه هالته وعيناه البنيتان وملاحه الجذابة وشعره الأسود المموج قادر على أن يخطف نظر أي امرأة. 

هدوء "الفتاة" ووسامتها لفتت انتباه "علي" رغم شحوب وجهها.. لمحها تسعل سعالًا جافًا متقطعًا فأشفق عليها وأصر أن يعرف قصتها فذهب الى صديقتها، وعرف منها سر جمالها المقترن بالرقة والأسى في ذات الوقت، فازداد اهتمامه وسعى للتقرب منها وتودد اليها وافتن في إطراء محاسنها دون أن يذكر إنها مريضة وإنها شابة وأنه يكبرها بثلاثين سنة .

وراقها منه حديثه الساحر وعطفه الغامر وأدبه الجم فأطمأنت إليه واجتذبها فتنه الأمن المنبعثة من كهولته ، فدعته لزيارتها ، وتألف كالعادة الفن والمرض ولأول مرة تناسى "علي" الرسام الرزين نفسه وانساق وراء أحاسيسه ومشاعره التي ظلت حبيسة طوال سنين عجاف، وراحت تفيض حبا ولوعا بـ"ضحى"، صارت ملهمته ومصدر سعادته، كأنها العشيقة التي لم يجدها طول سنوات حياته الماضية.. لم يتردد في طلب خطبها، وفوجئ بموافقتها دون اعتبار لفارق السن بينهما، خاصة بعدما منحها الحياة من جديد.. 
ظنت "ضحى" أن الحياة مدت إليها زراعيها وابتسمت لها من جديد بعدما تمت خطبتها، لم تعلم أن ما عاشته خلال أيام كان أشبه بالوهم أو الحُلم الذي سرعان ما أفاقت منه، راودها مرضها وازداد عليها، حتى سقط الدماء من فمها، وقتها جن "علي" وقرر أن يترك فنه ويكرس كل عمره من أجلها وخدمتها.. يبذل المستحيل حتى تتعافى.. ومضت الأيام ومرت الأسابيع وهو لا يفارقها حتى تماثلت للشفاء وردت إليها بهجة الصحة ونضرة الشباب. 

كانت "ضحى" تتردد على مرسم "علي"، وفي ذات يوم دخل عليهم أحد تلاميذه، هو الشاب "أمير" كان دائما التردد على المرسم يستشيره في لوحاته ويستفيد من خبراته.. يتميز "أمير بالرزانه والوسامة، فهو مفتول الساعدين عريض المنكبين، دقيق الأنف والفم، متزنًا إلى حد الشموخ، يلفت وجهه الخمري وعيناه المحدقتان بالسواد الانتباه.   

ظلت "ضحى" تنظر له وتحدق فيها حتى أصابتها رؤيته ضربة الصاعقة لبثت ساهمة حائرة، رأت زوجها المتوفى في هذا الشاب، بعث في روحها أطياف السعادة التي كانت تعيشها مع زوجها وهي بكامل صحتها ظلت مضطربة تحاول إخفاء اضطرابها عن "علي" والتماسك أمامه، ذهبت من المرسم في اتجاه منزلها وهي ترى في كل خطواتها صورة "أمير" الذي أعاد لها كل ذكريات زوجها، أصبحت تختلق الفرص لرؤية "أمير" وبدأت تتعلق به رويدا رويدا حتى أحبته إلى حد الجنون، وتناست تضحيات خطيبها "علي" الذي أقدم على خطبتها وهو يعلم بمرضها.

بدأت "ضحى" تتأرجح وتتخبط وتنساق وراء الشباب والحب في الوقت التي خافت فيه "مكاشفة" هذا الشاب بحبها خشية من أن يهزأ بها أو يصدها لأنها مريضة وهزيلة، في الوقت التي كانت تشفق فيه على "خطيبها" خوفا من أن تخدعه بأن تتزوجه وفي قلبها شخص آخر.

راحت تبتعد عن "خطيبها" وتنتهز كل الفرص للتحجج بعدم رؤيته لكى لا يتعلق بها أكثر في الوقت الذي كانت لا تري فيه سوى صورة "أمير" أمامها.

بدأ "علي" ينتبه وأدرك ببصيرته أن خطيبته تحاول قصدا الابتعاد عنه وتنتهز جميع الفرص لرؤية تلميذه "أمير"، وظل "علي" في صراع كبير بين حبه "لضحي" وبين كبريائه وكرامته التي تجعله لا يستطيع أن يتحمل أن الفتاة الوحيدة التي عشقها بجنون تهوى رجل آخر ويغزوها، بات صراع بداخله وبدأ يفكر في الابتعاد والانتقام من "ضحي" ولكن حبه كان أعمق وأكبر من أي انتقام وأنانية.
 
بدأ ينسحب من حياتها كي لا يكون عائقا لها، لكنّه اكتئب وتبلدت عبقريته وانطفأ لمعان عينه وانطوي على نفسه..  حتى لاحظت "ضحى" تغير حياة "علي" من رجل مليء بالحيوية والنشاط والحب إلى شخص منطوي مكتئب غير قادر على فعل أي شيئا، استفاق ضميرها وجاشت عواطف الرحمة الكامنة بها وسط صراع داخلي بين سحر الشباب وبين نبل وتضحيات خطيبها.

احتد الصراع وأرهقها وحولها من جديد إلى فتاة يائسة واستنفذ منها كل قوتها وصحتها إلى أن انتكست مرة أخرى وعاد السعال يقطع رئتها وكفت عن انتهاز الفرص لرؤية "أمير" ورؤية خطيبها "علي" وألزمت الفراش، ارتمت في عزلتها لمدة أسابيع وكأنه اختبار لنفسها لكي تثبت إذا كان البعد أثّر على مشاعرها تجاه هذا الشاب أم لا. 

 وذات يوم قررت أن تذهب إلى المرسم لكي تتأكد من مشاعرها تجاه "أمير" وحادثت نفسها: "ربما يكون الزمن غيرني وأضعف من سلطان العاطفة التي استبدت بي، وإذا شعرت أنني أقوى منه سأبادر في عقد قراني على "علي"، وإذا اكتشفت أنه أقوى مني لن أترجى الرحمة من شبابه ولن أصارحه بحبي لأنني لن أقبل نفوره من مرضي". 

قررت "الفتاة" أن تذهب إلى المرسم لترى "أمير" الذي اعتاد على الذهاب إلى هناك، واستجمعت قواها ودخلت المرسم ووقعت عيناها على "أمير" وأحست أن العزلة لم تبدلها بل بالعكس جعلتها تحبه أكثر إلى حد الجنون، ووقفت مذهولة تحدق إليه، ولم تلتفت لوجود خطيبها الذي كانت يتقطع حسرة لرؤية نظرتها المشعة بالاشتياق والحب والرغبة تجاه تلميذه "أمير".

توجه "علي" تجاه "ضحي" لكي يرحب بها فالتفتت إليه ولاطفت خده بأناملها ثم جذبها برفق ليحتضنها وكأنه اللقاء الأخير، خرجت مسرعة من المرسم وهي تحدق لأمير كأنها آخر مرة ستراه، وتنظر إلى خطيبها بنظرات تملئها الأسف كأنها تقول "سامحني".

اندفعت مسرعه إلى الشارع واتجهت نحو منزلها وهيا متحطمة الفؤاد ولا يوجد أمامها سوى صورة خطيبها المنكسرة أمام عينيها وصورة "أمير" التي سيطر على مشاعرها وقلبها وجعلها أسيرة له بحبه، وعادت إلى عزلتها وأصابها الهذيان، وظلت في غرفتها أيام وليالي لا ترى أمامها سوى صورة "أمير" ولا تشعر إلا بتأنيب الضمير تجاه خطيبها الذي ضحى بفنه وبكل شي من أجلها، إلا أن المرض سيطر عليها وأفقدها رونقها وبريقها، وبعد مرور أيام تدهورت حالتها، وتم نقلها إلى المستشفى بعد تأكيد كل الأطباء أن المسألة مسألة وقت ولا يوجد جدوى من العلاج.

وفي صباح يوم دق هاتف "علي" وكانت تحدثه أم "ضحي" بصوت مخنوق يملأه البكاء: "يا علي ضحي بتموت وعاوزه تشوفك"، ليرد صارخا "بتقولي أيه بتموت إزاي وهي فين دلوقت"، لترد الأم: "إحنا في المستشفى".
 
خرج  "علي"مسرعًا من مرسمه وهو يبكي  وتفاجئ بصوت ينادي عليه من بعيد: "يا أستاذ علي يا أستاذ علي"، ليقف متأرجح الخطوات ليراه تلميذه "أمير" تركه واقفا يسأله "أين ذاهب وأنت هكذا؟"، لم يرد وهرع نحو المستشفي، لحق به "أمير" بخطوات مسرعا.

دخل "علي"، غرفة "ضحي" وهى نائمة على السرير والأطباء حولها ووالدتها يودعونها الوداع الأخير نظرت "ضحى" إلى "علي"، وهمست بصوت خافت وهي لا تستطيع التحدث "سامحني.. كنت سبب تعاستك.. ولم أستطع منحك الحب كما منحتني لكنني لم أخنك".

ردّ عليّ "متقوليش كده إنتي مش هتموتي هتخفي وهتتجوزي اللي بتحبيه، أوعي تتخلى عن الحياة قدامك أيام كتير حلوة مستنياكى ولازم تعيشها"، نظرت إليه بابتسامة تملأها الحزن  ولامست خده بأناملها وسقطت يدها مفارقه الحياة.

تساقطت دموع "علي" وصرخ بجنون: "لن تموتين.. ستقومين"، تشبث بها حتى شدوه الأطباء وأخرجوه من الغرفة، ليرى أمامه "أمير"، ذهب إليه منهارًا في قمة الغضب قائلا: "إنت اللي قتلتها ماتت بسببك ماتت علشان كانت بتحبك وأنت كنت أعمي مش شايف الحب ده"، لينهار "أمير"  قائلا: "ضحي ماتت، ماتت أزاي وتبلدت الكلمات والعبارات على شفتاي "أمير" وهو لا يستوعب الخبر الذي نزل عليه كالصاعقة، ليرد تائها "ومين قالك إني مكنتش بحبها أنا كنت بعبدها بس خوفى من أني أخون أستاذي منعني أني أصرح لها بحبي"، ليرد "علي": "ياريتك كنت خنتني ورحمت شبابها ومرضها ومسبتهاش تموت ياريت شبابك كان أتغلب عليا وكنت نقذتها لكنك اتمسكت بشرف المثالية وسبتها تضيع مننا إحنا الإتنين".. وقع أمير منهارا على الأرض، بينما خرج "علي" من المستشفى مسرعا إلى المرسم وهو منهار من البكاء وظل يرسم صورة لـ"ضحي" معتكفا داخل مرسمه لا يرى أحدا ولا أحد يراه سوى صورتها التي أصبح أسيرا لها.

وتبدد الجمال والوسامة الذي التي كان يمتاز بها "أمير" وحوله الحزن من شباب إلى كهل وظل جالسا أمام قبر "ضحي" ليلا ونهارا، يحادثها ويحكي لها عن مشاعره تجاهها، وعن أحلامه التي كان يريد أن يحققها معها والأولاد التي كان يتمنى أن ينجبهم منها، وظل "علي" أسير صورة "ضحي"، و"أمير" أسير حبه والأحلام التي كانت تراوده لتحقيقها مع "ضحى".