د.دينا أنور تكتب: مش عاوز أطلع دكتور...!!!

مقالات الرأي

بوابة الفجر


زمان كان الدكتور ليه شنة ورنة، كان أي طفل أو طفلة صغيرين تسأله عاوز تطلع إيه لما تكبر يقول لك  "عاوز أطلع دكتور"، كان لما طفل يقول لباباه أنا عاوز أطلع مغني ولا ممثل ولا لعيب كورة ولا حتى ضابط ، يرد عليه ويقول له لأ.. أنا عاوزك تطلع دكتور، حتى الجامعات الخاصة لما فتحت أبوابها لتحقيق حلم بعض الطلبة اللي خانهم المجموع في الثانوية العامة إعتمدت على كليات القمة في جذب الجمهور ليها، عشان كانوا فاهمين كويس جداً إن الكليات دي أمل ناس كتير وحلم أولياء أمور كتير يشوفوا ولادهم دكاترة بالبلاطي البيضا.
لكن مع الأسف وزي ما كل شيئ جميل في مجتمعنا تراجع، وزي ما كل شيئ ذو قيمة قيمته قلت وطغى على الساحة كل شيئ هزيل الفكر ضعيف المستوى، كمان مكانة القطاع الطبي في البلد قلت ومابقاش الدكاترة هما الفئة المتميزة بعلمها ومكانتها العلمية ودورها الإنساني في حياة كل الناس زي زمان، دلوقتي ممكن تلاقي فئات أخرى أقل في المكانة العلمية بل والأخلاقية والثقافية  واخدين تقدير أكبر وبيتمتعوا بدخل أفضل رغم إن وجودهم مش بس بنفس قيمة وجود القطاع الطبي، لا ده كمان نقمة على الناس والمجتمع وبيسبب تراجع للأخلاق والقيم والإنسانية.
وللأسف إن الحكومات المتعاقبة ساهمت بشكل كبير في تقليل قيمة الدكتور بعدم الإهتمام وقلة التقدير وإعتباره مجرد موظف حكومي وعدم معاملته كشريحة مميزة في المجتمع تقديراً لمكانته العلمية ، كمان لم تهتم بتهيئة المناخ البحثي لهم، فكان لكل ده دور كبير في إشعال الغضب داخل القطاع الطبي والإحساس بقلة التقدير وبالتالي البحث عن العمل في المستشفيات الخاصة والعيادات وربما السفر إلى الخارج مما تسبب في تدني مستوى الخدمة الصحية بمصر.
والمؤسف دلوقتي كمان إننا بقينا نسمع عن حالات تعدي على أطباء وإهانتهم بكل سهولة، بدون أي إعتبار لما هو عليه هذا الشخص من قيمة علمية ومايقوم به من دور إنساني، ربما لا يحتاج الطبيب في حياته إلى التعامل مع ضابط الشرطة أو أمين الشرطة لو كان ملتزماً بالقانون، ولكن ضابط الشرطة وفئات الشعب بأكمله لاتستطيع الإستغناء عن دور الطبيب ولا عن  علمه، صحيح أن من واجب كل طبيب ألا يتخلى عن أي مريض وأن يفعل المستحيل لتخفيف ألمه، ولكن ليس معنى هذا أن يؤدي الطبيب دوره تحت تهديد السلاح وبإستخدام "الفتونة" التي لا تقل في بشاعتها عن الإرهاب المسلح.
فهذا الطبيب قيمة علمية وله دور إنساني لايستطيع أحد القيام به غيره، ده غير إننا أساساً لا نقبل  بالتعدي على المواطن البسيط بالعنف ولا نتقبل إساءة إستخدام السلطة والمعاملة غير اللائقة بالمواطنين العاديين، فما بال أن تكون هذه المعاملة المزرية مع شخص قضى معظم حياته يلتهم الكتب وينشر الأبحاث ويتعلم كيفية علاج الناس وتخفيف أوجاعهم؟
حتماً ذلك غير مقبول وليس له أي مبرر ويجب أن يكون فيه رد إعتبار وحفظ لكرامة الأطباء من قبل الحكومة والنقابات الطبية.
كما أن إنتشار هذه الحالات الفردية والتي تعكس وجود أفراد يسيئون إستخدام سلطاتهم هو إنعكاس سيئ لصورة الشرطة المصرية التي بدأت تتعافى من الفجوة العميقة بينها وبين المواطنين بعد ثورة يناير، وللحق فعلاً لمسنا وجود العديد من الأفراد الصالحين والنماذج المشرفة التي تستخدم القوة في موضعها الصحيح وتطبق القانون مع إحترام حق المواطن ومواثيق حقوق الإنسان، ولكن عودة ظهور النماذج السيئة مرة أخرى هو ناقوس خطر ربما يعصف بالجهود التي بذلتها الداخلية المصرية في الأعوام السابقة لبناء الثقة بينها وبين الشعب، وعندما يصل الإستخدام الخاطئ للسلطة والسلاح الميري إلى حد إهانة العلم والفكر، فهذا بلاشك مؤشر خطير على إنحدار قيمة العلم والبحث والقائمين عليه في مصر، وبهذا ستفقد مصر كل أمل لها في النهوض والتقدم، فحتماً مصر لن تتقدم بلاعبي كرة القدم ولا بالفنانات الإستعراضيات الأجنبيات ولا حتى بالإستخدام المغلوط للقوة والسلطة من قبل بعض رجال الشرطة، ولكن الأطباء والباحثين ورجال العلم حتماً هم ضلع رئيسي في بناء الوطن ونهضته، ولن تستعيد مصر مكانتها العلمية والحضارية وهي تعامل أبنائها بإهانة، ولن تستطيع إعادة هؤلاء إن قرروا الرحيل من أرض الوطن بحثاً عن التقدير والإشادة في مجتمعات أخرى تقدس دور الطبيب وترعاه بكل إمكانياتها وتوفر له سبل البحث والتطوير.
أنقذوا مصر وكفانا الطيور النوابغ الذين هاجروا وساهموا في رفعة أوطان أخرى، أتركوا لمصر بعض أبنائها لعلها تستطيع الوقوف على قدميها يوماً ويقدر لها أن تتعافى من الضربات المتكررة التي قسمت ظهرها وخسفت الأرض بمكانتها ودورها العلمي والإقليمي والثقافي.
وكما تغيرت أغاني الطفولة من "أبريق الشاي" و"ذهب الليل" وأصبح جيل كامل من الأطفال الآن يغني أغاني المهرجانات، فأيضاً ستجد في هذا الجيل لا يوجد طفل يرغب في أن يصبح "دكتور"، بعد ما رأى بعينه الإنحدار الذي وصل إليه المجتمع وجعل الأمنيات السريعة بتكوين ثروة وتأسيس حياة مستقرة ليس بالكفاح والعمل والجهد، وإنما بركوب الموجة السائدة، ولن تجد أولياء الأمور مثلما سبق يحثون أولادهم على الإستذكار لأنه يحلم بأن يراه"دكتور" ، اللهم إلا القلة التي ما زالت تعرف قيمة العلم وبذل الجهد وأهمية الدور الإنساني والقيمة الفكرية والبحثية.