العداء «الروسي- التركي».. مواجهات تاريخية

تقارير وحوارات

أرشيفية
أرشيفية


صرح المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية الجنرال إيغور كوناشنكوف بأن تركيا تخطط لغزو سوريا وقال إن إحدى الصور التي التُقطت من إحدى البقاع على الحدود التركية السورية أظهرت توسعات في البنية التحتية للنقل يمكن استخدامها لنقل المعدات العسكرية والجنود. هذا بالإضافة إلى مجموعة من التهم الأخرى. 

ونقلت "رويترز" رد الأتراك عبر مسؤول، لم يذكر اسمه، من مكتب رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، جاء فيه إن الروس يريدون "ببساطة تحويل الانتباه عن هجماتهم على المدنيين كدولة غزت سوريا بالفعل".

ويقول جورج فريدمان، المحلل السياسي الأمريكي،  وفقا لمقال ترجمه المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة نقلا عن موقع جيوبوليتكيال فيوتشرز: بات تبادل الاتهامات بين الطرفين أمرًا روتينيًا. وتتسم الاتهامات والاتهامات المضادة بأهمية أقل من كونها صارت روتينية. كانت هناك علاقة تعاون بين الأتراك والروس تتمحور حول الطاقة والتجارة الأخرى حتى اللحظة التي قامت فيها روسيا بالتدخل العسكري في سوريا لدعم نظام بشار الأسد. لذلك، من المفيد أن نحاول فهم الخطأ الذي حدث.

ويرى المحلل الأمريكي ، أن تصاعد التوترات بين البلدين مرة أخرى ليس مستغربًا في ضوء السياق التاريخي وتضارب مصالح الجغرافيا السياسية.

يشير فريدمان إلى أن التدهور بدأ يطرأ على علاقة تركيا مع الروس بصورة فعلية في المراحل الأولى من الأزمة الأوكرانية، التي بدأت في أواخر عام 2013. كانت القضية المباشرة لتركيا هي وضع "التتار" في شبه جزيرة القرم، الذين تربطهم بالأتراك صلات عرقية ودينية، وبالتالي كان عليها أن تعرب عن قلقها وترسل بعض المراقبين. لم يرحب الروس بهذه  الخطوة، لأن الأمريكيين والأوروبيين كانوا ينتقدون تصرفاتهم في شبه جزيرة القرم آنذاك. ولم يكن الروس على علاقة خاصة مع تركيا، لكن كان لديهم ما يكفي من المصالح المتبادلة التي كانوا يأملون أن يتعامل معها الأتراك بشكل مختلف.


بطبيعة الحال كان لدى الأتراك مصدر قلق أعمق. فمن الناحية النظرية، منحت الأحداث في شبه جزيرة القرم الأسطول الروسي في ميناء سيفاستوبول حرية أكبر للمناورة. كانت أوكرانيا في وقت سابق قد منحت روسيا حق الوصول إلى تلك القاعدة البحرية التي تقع في شبه جزيرة القرم وتطل على البحر الأسود، وانطوى ذلك على درجة من الإشراف والرقابة، برغم أنها درجة طفيفة. ومع ضم شبه جزيرة القرم، أصبحت القاعدة تابعة للأراضي الروسية. أدرك الأتراك مصلحة روسيا في أوكرانيا، وفهموا أن القاعدة منحت الروس حرية أكبر للعمل في البحر الأسود. لكنهم لم يكونوا على دراية بالطريقة التي يعتزم الروس استغلال تلك الحرية.

 هنا يكمن تاريخ طويل. فقد يتمتع الجزء الأوروبي من روسيا بثلاثة مسارات للمحيطات، وجميعها من خلال مضايق تسيطر عليها قوى أجنبية ومعادية في بعض الأحيان. يشكّل ميناء مورمانسك إحدى نقاط الوصول، لكنه يؤدي إلى فجوة غرينلاند-أيسلندا-المملكة المتحدة. ثانيًا، هناك سانت بطرسبرغ، التي تؤدي إلى المضيق الدنماركي. وتعتبر سيفاستوبول هي نقطة الوصول التي تؤدي إلى مضيق البوسفور الذي تسيطر عليه تركيا. 

يريد الروس منذ الأيام الأخيرة للإمبراطورية العثمانية أن يسيطروا على مضيق البوسفور وفتح طريق لهم إلى البحر المتوسط. وسعوا خلال الحرب الباردة إلى كسب نفوذ في تركيا من أجل الوصول إلى مضيق البوسفور الذي يُعتبر مركز ثقل بالنسبة لتركيا، ومصدر قوة حيوية محتمل بالنسبة للروس.


لم يكن هناك شك في أن الروس سيتحركون نحو مضيق البوسفور بعد اندلاع أزمة أوكرانيا. لكن كان من المنطقي أن نفترض أن الروس، في ظل وجود غربي قوي في أوكرانيا، كانوا بحاجة إلى تعزيز وجودهم في البحر الأسود. فيمكن استخدام قوة روسية أقوى في البحر الأسود لمنع عمليات حلف شمال الأطلسي "الناتو" في رومانيا مثلا. لكن فهم الأتراك أن التراكم النظري للقوات الروسية في البحر الأسود قد يسفر عن نوايا ليست في الحسبان حاليًا. وسيكون من الصعب على تركيا أن تتنبأ بكيفية استغلال الروس لهذه الميزة في المستقبل.

وهذا ما جعل الأتراك يشعرون بعدم الارتياح، برأي فريدمان. فعندما تدخل الروس في سوريا، كان هذا الفعل مجرد خطوة أخرى.  لم يقصد الروس أن تكون هذه الخطوة ضد الأتراك، وإنما أرادوا إثبات قدرتهم على التأثير في الأحداث التي تمر بها المنطقة والتي تريد الولايات المتحدة تركها دون أن تحدد كيف يمكنها ذلك. 


ولم تمثل الخطوة الروسية في سوريا تهديدًا فعليًا للأمريكيين. أرادت الولايات المتحدة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد، لكنها بكل تأكيد لم تُرِد حدوث ذلك في الوقت الذي تتغلغل فيه "داعش" داخل سوريا. وتعطي الولايات المتحدة أولوية لاحتواء "داعش". وفي الوقت نفسه، لم تتمكن الولايات المتحدة من دعم الأسد علنًا. وهنا، يقول فريدمان إن السياسة لا تسمح لها بذلك. وقد حلّ التدخل الروسي هذه المشكلة للأمريكيين. وقد أدانوا تدخل الروس علنًا، لكنهم أبدوا ارتياحهم سرًا لأنهم سيعملون على الحيلولة بين داعش ودمشق، وذلك بحسب ما أفاد فريدمان.


لم يكن الروس بحاجة لاستهداف تركيا، لكن الأخيرة كانت عدوًا لنظام الأسد، بسبب المجازر التي نفذها ضد التركمان والعرب في سوريا، ورغبتها في أن تحظى بتأثير أكبر على جارة مهمة، لكن دون السيطرة عليها. لقد فسّر الأتراك مشاركة روسيا في سوريا باعتبارها تدخلًا متعمدًا ضد المصالح التركية. 


لم يكن من الممكن النظر إلى الأحداث التي جرت في البحر الأسود في ذلك الوقت على أنها بلغت نقطة الخطر. ومع ذلك، يقول فريدمان: لا يبدو لي أن الروس نظروا بعين الاعتبار للمصالح التركية حقًا وقلّلوا من شأن الخوف التاريخي. وبالغ الأتراك في تقدير القدرات الروسية. وعلى أي حال، كانت نتيجة زيادة حدة التوتر بين البلدين قيام تركيا بإسقاط طائرة مقاتلة روسية في شهر نوفمبر 2015.

لم يؤد هذا الحادث إلى خلق حالة حرب بين البلدين تمامًا وإنما حالة من العداء التي كان من الصعب التنبؤ بها. وأدى هذا العداء لحوادث مثل مضايقة سفينة روسية واحدة على الأقل كانت تحاول عبور مضيق البوسفور، كتذكير للروس بنقاط ضعفهم. تحتاج روسيا إلى البوسفور لدعم قواتها في سوريا. وهكذا، ظهرت المشكلة الاستراتيجية الروسية القديمة. وأدى ذلك إلى قصف متبادل لا نهاية له من الادعاءات المستفزة والتهديدات بالانتقام وتدهور العلاقات التركية الروسية.


وهنا تصبح الجغرافيا السياسية، بحسب فريدمان، أداة مفيدة لفهم الأحداث والتنبؤ بها، مشيرًا إلى أن هناك عداوة تاريخية بين روسيا وتركيا، ليس فقط على مضيق البوسفور بل وعلى البحر الأسود أيضًا. لقد شق العثمانيون طريقهم نحو أوكرانيا والإمبراطورية الروسية. واشتبك الروس والأتراك في معارك مريرة في الجبال الشرقية لتركيا خلال الحرب العالمية الأولى. ويتقاطع البلدان في كثير من الأحيان وبطرق كثيرة جدًا بحيث لا يمكنهما الثقة في بعضهما بعضًا. 

في الواقع، لا يمكن لأحدهما الوثوق في الأخرى لأن كليهما يمكنه إلحاق الضرر بالآخر عندما يمتلك القوة وسوف يفعل ذلك حقًا من أجل تأمين الممرات الجغرافية أو منع الآخر من الهيمنة، بحسب ما أفاد التحليل.

أوضح فريدمان أن روسيا وتركيا تعيشان الآن مرحلة حرجة، إذ تحاول الأولى الحفاظ على توازنها الاقتصادي والاستراتيجي، بينما تتقاطع الثانية جغرافيا مع أربع مناطق متزعزعة الاستقرار هي: أوروبا وروسيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وتعاني البلدان من نقاط ضعف عميقة، برأي التحليل، وبالتالي تشعر كل بلد بحساسية مفرطة تجاه التحركات التي تأخذها الأخرى. 


ويرى فريدمان أن الأحداث العشوائية التي أدت إلى هذه الحساسية تشكّل نمطًا منطقيًا من وجهة نظر أوسع، مشيرًا إلى حدوث  مواجهات تاريخية عديدة بين هذين البلدين، وتقومان بقياس كل مواجهة جديدة على المواجهات القديمة. وانعدام الثقة هو الحالة الطبيعية والمعقولة بين البلدين، بحسب التحليل، وقد عدنا الآن إلى نمط أكثر تقليدية للعلاقة بينهما.