عادل حمودة يكتب: خذوا الحكمة من حكايات الأطفال

مقالات الرأي



خصخصة الحرب فى العراق انتهت بخصخصة الدول العربية الأخرى!

■ 20 ألف مقاول باطن على قوائم انتظار شركات الحرب الأمريكية الخاصة لتنفيذ سياسة «التنظيم بديلا للدولة»

■ سماسرة الشركات التى يرأسها جنرالات سابقون فى البنتاجون يستهدفون مصر والسعودية والأردن وشمال إفريقيا

فى ليلة هجمات سبتمبر وقف وزير الدفاع دونالد رامسفيلد على منصة البنتاجون يهاجم البنتاجون أمام جنرالات البنتاجون

وصف الوزير وزارته بالتخلف.. والجمود.. وضعف القرار.. وتأخر صدوره.. وطالبها بإنقاذ نفسها من نفسها

وعندما وصل إلى تحديد العلاج.. فاجأ مستمعيه بتعبير بدا غريبا وصادما: خصخصة أعمال الحرب

واستطرد شارحًا: سنترك كل شىء للشركات الخاصة.. من وضع الاستراتيجية العسكرية إلى تنفيذ العمليات القتالية.. ومن بناء الملاجئ الدفاعية إلى تقديم الخدمات اللوجستية.. ومن توفير المعلومات المخابراتية إلى جلب الفرق الترفيهية

فى صباح اليوم التالى تعرض البنتاجون لهجوم مباغت باصطدام طائرة بوينج مدنية بجداره الغربى.. وشمر رامسفيلد عن ساعديه وساعد عمال الإنقاذ فى سحب الجثث من تحت الأنقاض.. وإعادة بناء ما تهدم.. وفى الوقت نفسه وجد فرصته الذهبية لوضع خطته ــ التى عرضها قبل ساعات قليلة ــ موضع التنفيذ.

منذ تلك الساعة ستعتمد سياسة البنتاجون الجديدة بشدة على سماسرة ومقاولين.. ينفذون الحروب الأمريكية من الباطن.. بما فيها أعمال القتال ذاتها.

وعندما دخلت الدبابات الأمريكية إلى بغداد فى مارس 2003 لم نعرف بأنها جاءت ومعها أكبر جيش من المقاولين.. وصل عددهم إلى 100 ألف مقاول.. بمعدل مقاول لكل جندى.

وقبل أن يغادر رامسفيلد البنتاجون منح مسئولى تلك الشركات أرفع الأوسمة العسكرية بما فيها نوط الشجاعة وميدالية الشرف فى سابقة تثبت أن قواعد اللعبة تغيرت.. فالخصخصة لم تتوقف عند الحروب وإنما امتدت إلى الدول نفسها.. فقد تفكك الكثير منها.. وقفزت فوق أنقاضها منظمات وجماعات تنافسها.. وربما أقوى منها.. وتتفوق عليها.. حزب الله فى لبنان.. حماس فى فلسطين.. طالبان فى أفغانستان.. داعش فى العراق وسوريا وليبيا.. مثلا.

بدأت فكرة خصخصة العالم فور خروج جورج بوش الأب من البيت الأبيض (عام 1992).. تبناها مركز أبحاث سياسية يسمى أميركان إنتربرايز إنستيتيوت.. أسسته شخصيات سياسية شهيرة فى الحزب الجمهورى عرفت فيما بعد بمجموعة المحافظين الجدد.. مثل بول وولفوفيتز ودوجلاس فيت وزلماى خليل زادة وستيفن كامبون.. ظلوا يعملون عشر سنوات حتى خرجوا بما سمى بوثيقة الأمن القومى الأمريكى تحولت إلى استراتيجية رسمية للدولة (عام 2002) بعدما قفز صانعوها إلى قيادة الدولة مع انتخاب جورج بوش الابن رئيسا للولايات المتحدة.

كان العراق المسرح النموذجى لتجريب السياسة الجديدة التى ستنشر الفوضى فى المنطقة تمهيدا لتدمير أنظمتها.. وتفجير الحروب الأهلية بين شعوبها.. وتقسيم دولها.. وتشريد أهلها.

تولت شركات خاصة مسئوليات تتصل مباشرة بالأمن القومى ويفترض أن تقوم بها مؤسسات حكومية.

لم تأت المعلومات الاستخباراتية التى بررت قرار الحرب من وكالة المخابرات المركزية.. الجهاز الرسمى المكلف بمثل هذا الأمر.. وإنما جاءت من وحدة خاصة شكلها رامسفيلد فى مكتبه.. أوكلت بدورها مهمة جمع المعلومات المفبركة إلى مؤسسات خاصة.. أبرزها مؤسسة أحمد الجلبى الذى كان يتلقى أربعة ملايين دولار سنويا مقابل خدماته القذرة.

وتولت تنفيذ الأعمال اللوجستية العسكرية (نقل الجنود ــ إصلاح المعدات ــ التموين ــ الوقود ــ الترفيه) شركة هالبيرتون العملاقة التى كان يرأس مجلس إدارتها نائب الرئيس ديك تشينى.

لقد وجدت تلك الشركة لنفسها مجالا ذهبيا لكسب المليارات فى حرب الخليج الأولى (عام 1991) عندما كان تشينى وزيرا للدفاع.. وبعد أربع سنوات منحها بيل كلينتون عقودا مربحة فى حروب البلقان وكوسوفو خلال تسعينيات القرن الماضى.. لكنها.. فى غزو العراق عرفت الطرق السهلة للوصول إلى مغارات الكنوز الثمينة.

وأوكلت العمليات القتالية الخطرة إلى شركة بلاك ووتر التى أصبحت إحدى علامات الشر فى عالمنا.

إن الشركة الصغيرة التى أسست فى ساوث كارولينا أصبحت بعد هجمات سبتمبر وغزو العراق لاعبا أساسيا فى كل الحروب التى تشنها الولايات المتحدة.. إن هاتف مالك الشركة إريك برانس لم يعد يتوقف عن الرن.

وإريك برانس مسيحى متعصب.. ساهم فى تمويل حملات بوش الانتخابية.. ووضع شركته فى خدمة الحروب الصليبية التى رسمتها مجموعة المحافظين الجدد بدعوى الحرب على الإرهاب.

تمتلك بلاك ووتر ما يزيد على خمسين ألف جندى ينتشرون فى تسعة بلدان حول العالم.. بجانب طائرات هيلكوبتر هجومية ومناطيد رصد وفرقة استخبارات ومنشآت لتدريب القوات الخاصة.. وتتفاخر بقاعدة بيانات تضم 21 ألف مقاول إضافى يمكنها استدعاؤهم فى حالات الضرورة.. واعترف تقرير للكونجرس أنها تستطيع إسقاط حكومات وإنقاذ حكومات.. ويمكنها احتلال دولة صغيرة بمفردها وبإمكانياتها الذاتية دون طلب المساعدة.. وقد قامت بإعادة احتلال الفلوجة فى العراق بعد أن ارتكبت جرائم حرب يصعب تجاهلها.

وفتحت بلاك ووتر مكاتب لها فى عواصم عربية استضافت معارض شركات السلاح التى تعتبر الشرق الأوسط السوق الوحيدة التى لا تزال واعدة.. حيث تبيع لدوله المختلفة ما يزيد على ستين فى المائة من مبيعاتها دون توقف.

وتلعب بلاك ووتر دورا مؤثرا فى حماية الشخصيات العامة (العراقية والأمريكية) وتقتسم مع شركات أمنية أخرى عقودا سنوية تزيد قيمتها على أربعة مليارات دولار.

ويمتلك إحدى هذه الشركات ريتشارد بيرل الملقب بأمير الظلام.. وكان وهو مسئول عن سياسات الدفاع فى البنتاجون واحدا من أهم مهندسى قرار الحرب على العراق.. لكنه.. ليس وحده الذى ترك وظيفته الرسمية ليكسب من ورائها بعد أن يتركها ويؤسس شركته الخاصة.. كثيرون غيره فعلوا الشىء نفسه.. فى أكبر فساد عاشته الحكومات الأمريكية.. لكن.. عزاءها أنهم كانوا ينفذون خطتها الجهنمية فى تدمير وتفتيت وخصخصة الشرق الأوسط.

لقد ترك الجنرالات مناصبهم الحكومية وتولوا رئاسة شركات السلاح الكبرى.. نائب وزير الدفاع بيت ألدريج أصبح رئيسا لشركة إيرو سبيس.. ووزير الجيش توماس ويت أصبح رئيسا لشركة إنرون.. ووزير الحربية جوردن إنجلند أصبح رئيسا لشركة جنرال داينميكس.. ووزير سلاح الجو جيمس روش أصبح رئيسا لشركة نورثورب جرامان.

وسبق أن سمحت إدارة بيل كلينتون لمؤسسة خاصة هى بروفيشنال ريسورسز إنكوربوريتد (موظفوها من كبار المسئولين العسكريين المتقاعدين) بتدريب الجيش الكرواتى فى حربه الانفصالية ضد يوغسلافيا ذات الأغلبية الصربية.. وحققت الشركة ما طلب منها.

وتعرف سياسة تشغيل المسئولين السابقين فى أعمال تتصل بوظائفهم السابقة بسياسة الباب الدوار.. فالمسئول الذى يخرج من باب الحكومة يعود ويدخل من باب الخصخصة.. ليفيد ويستفيد.

ولو كانت تلك السياسة فرضت نفسها على وزارة الدفاع والجيوش المقاتلة ووكالات المخابرات بكل الحساسية التى تفرضها اعتبارات الأمن القومى فإنه لم يكن مستغربا أن نجدها متكررة فى مؤسسات أخرى.

لقد حصلت مؤسسة آر تى آى الحقوقية على مليارات الدولارات من أموال الضرائب عن طريق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية رغم رصد مخالفات هائلة فى أعمالها داخل وخارج البلاد.. ومنها مصر.. لسبب بسيط.. أن عددا من الموظفين السابقين فى الوكالة الحكومية المانحة تمويلها التحقوا بالعمل فيها.. مثل أرون ويليامز نائب رئيس آر تى آى الذى عمل أكثر من عشرين عاما فى هيئة المعونة الأمريكية.. وهناك قائمة أخرى من زملائه انضموا للعمل فى المنظمة.

لكن.. الأهم أن المنظمة توظف شركات علاقات عامة (لوبى) تسيطر على الكونجرس ووزارة الخارجية.. وهو ما يبرر ضغوطهما على الإدارة المصرية كى تغلق ملفات التمويل الأمريكى للمنظمات الحقوقية.. فالاستمرار فى فتحها لن يقتصر على كشف فساد الفروع هنا.. وإنما سيصل إلى كشف فساد الجذوع والجذور هناك.

على أن الأخطر فى اللعبة الخفية التى تجرى تحت السطح هو امتداد الخصخصة لكيانات الدول نفسها.. إما لتجد شركات السلاح فى الفوضى المتعمدة فرصة لبيع منتجاتها لراغبى الانفصال والتقسيم والتدمير.. أو تبيعها للدول نفسها حماية لها وحفاظا على كيانها.. وفى الحالين تظل المنطقة الزبون الأول لتلك الشركات.

لقد كانت سوريا والعراق ذات يوم رمزا قوميا فى البلاد العربية لكنهما صارتا عاجزتين عن إعادة لملمة نفسيهما بوصفهما دولتين متماسكتين.. أصبح الصراع فيهما وحولهما رمزا لتوجه مشئوم يسعى إلى تحلل كيانات الدول ويفككها إلى وحدات قبيلة وعشائرية وطائفية ومذهبية.. بعضها عابر للحدود الموجودة.. فى صراع عنيف فيما بينها.. أو متلاعب بها من قبل قوى خارجية متنافسة.. بما هدد النظام الإقليمى بالانهيار.

وامتد الانهيار للعالم الإسلامى حيث وجدنا البصمة نفسها تتكرر فى ليبيا وغزة ولبنان واليمن وأفغانستان وباكستان ونيجيريا ومالى والسودان والصومال.

وتصر دول عربية بعينها على النجاة من ذات المصير.. مصر والسعودية والأردن والخليج وشمال إفريقيا.. تواجه سياسات خصخصة الصراعات عبر تنظيمات مسلحة.. عابرة للحدود.. أو جماعات داخلية خفية.. وجدت من قوى دولية دعما غير مباشر.. جعل منها خصما عنيدا فى المواجهة لا يجوز تجاهل شروره.. ويصعب عليه التراجع عن أهدافه.. أو التنازل عنها.

وليس أمام هذه الدول سوى التفاهم والتوحد وتأجيل الخلافات بينها إلى ما بعد عبور الأزمة بسلام.. فكلما سقطت واحدة منها سهل ذلك سقوط غيرها.

لكن.. الأهم.. الحفاظ على وحدة الشعب فى كل دولة مستهدفة.. فالانقسام يبدأ بإثارة النعرات الطبقية والدينية والثقافية والعرقية لتفتيت البشر قبل تقسيم الأرض.. ولو نجت الدولة منها بدأت مؤامرات تجويعها بضرب مصادر رزقها.. بجانب كسر جسر الثقة بين قياداتها وأهلها.. واستغلال كل ما يصدر من قرارات وتصرفات فى نشر الفوضى عبر شبكات التواصل الاجتماعى تمهيدا لنزول الشارع من جديد فى سيناريوهات أصبحت محفوظة.. ربما تنجح هذه المرة فيما فشلت فيه قبل ذلك.

إننا أمام باطل يرتدى ثوبا مزيفا للحق.. مثل الذئب الذى ارتدى ثياب الجدة فى قصة ذات الرداء الأحمر.. تأملوا القصة.. وخذوا الحكمة من براءة الصغار.