عادل حمودة يكتب: ما لم ينشر فى حادث الطائرة

مقالات الرأي



لأول مرة فى تاريخ البيت الأبيض تقرير مدته عشر دقائق للرئيس الأمريكى عن حادث طائرة أجنبية بسبب احتمالات الإرهاب

■ 450 ضابط مخابرات فرنسياً ينتشرون سرا فى مطار شارل ديجول وقوات مسلحة على مداخل الطائرات بعد رفع درجة الطوارئ إلى ما فوق الأحمر

■ واشنطن ضغطت على القاهرة لتجبرها على سحب خبرائها فى حادث طائرة البطوطى لتثبت أنه انتحر

■ ثلاث شركات أمريكية وفرنسية تبحث عن الصندوق الأسود فى محيط 40 كيلومترا مربعا


كانت الشمس تغرب فى المحيط.. راسمة دائرة نارية حمراء.. فرضت أشعتها النارية على خضرة النخيل.. وزرقة المياه.

مشهد ساحر أثار مشاعر الرومانسية فى وجدان قائد رحلة أير فرنس رقم (447) فطلب من الركاب التمتع به وهو يقلع من مطار ريوديجانيرو التى بدت - حسب وصفه - مثل لؤلؤة سوداء تبرق فى حضن المحيط الأطلسى.

لكن.. ذلك المشهد الرائع كان آخر ما سجلته ذاكرة الركاب فى مساء أول يونيو عام 2009 وهم متجهون إلى باريس.. فما أن ناموا بعد تناول العشاء حتى استيقظوا فى حالة رعب بدأوا والطائرة تهوى بهم فى أعماق المحيط مسجلة.. أعلى وفيات فى تاريخ الشركة الفرنسية المشهورة بكثرة حوادثها الجوية.. 288 ضحية.

كانت الطائرة من طراز إير باص 330.. وأمام الكارثة المروعة أصرت سلطات الطيران الفرنسية على كشف غموض الحادث بتسجيلات الصندوق الأسود.. لكنها.. لم تصل إليه إلا فى أول مايو 2011.. بعد 25 شهرا من اختفائه فى المحيط على عمق يزيد على أربعة كيلومترات.

بتلك المعجزة.. لن يكون من الصعب استخراج الصندوق الأسود لطائرة مصر للطيران إيرباص 320 التى سقطت مؤخرا فى البحر المتوسط.. فعمق المياه هناك لا يزيد فى أسوأ المناطق على ثلاثة كيلومترات.. كما أن سفن وطائرات البحث متعددة الجنسيات (مصرية وفرنسية وأمريكية) عليها أجهزة استشعار عن بعد ترصد الغواصات والأجسام الصلبة.. ويسهل عليها التقاط ذبذبات الصندوق مهما كان بعيدا عنها.. كما أنها حددت دائرة البحث فى محيط مساحته لا تزيد عن 40 كيلومترا مربعا.

والحقيقة أن الصندوق الأسود أو بدقة أكثر البرتقالى أو الأصفر صندوقان.. أحدهما يسجل ما يدور فى كابينة القيادة من أحاديث.. والآخر يسجل ما يحدث فى أجهزة الطائرة.. وغالبا ما يكونان فى منطقة الذيل التى يسهل تمييزها.

وحسب نشرات الأخبار الفرنسية فإن مهمة الحصول على الصندوقين أوكلت إلى شركتين أمريكيتين وثالثة فرنسية هى التى نجحت فى استخراج صندوقى طائرة إير فرنس من المحيط الأطلسى.

ولو خرج الصندوقان مصابين فى جسميهما أو مرهقين فى ذاكرتهما فإنه يمكن إعادتهما إلى درجة من اللياقة مناسبة بعمليات تكنولوجية معقدة.. لكن.. الأهم أن يكون الصندوق الذى يسجل كل ما يحدث فى أجهزة الطائرة تحت أيدينا.. ولا تستخرج المعلومات منه إلا فى وجودنا.. وإلا تعرضنا إلى تزوير فى بياناته أو سوء تفسير لها كما حدث فى طائرة مصر للطيران (الرحلة 990) يوم 31 أكتوبر 1999 التى أسقطت فوق الأراضى الأمريكية واتهم مجلس سلامة النقل الوطنى هناك مساعد الطيار جميل البطوطى بأنه انتحر بها متعمدا لمجرد أنه قال توكلت على الله.

لقد ضغطت الإدارة الأمريكية وقتها على مصر لسحب خبرائها من لجان التحقيق فكان ما كان.

يجب أن نضع أعيننا على كل صغيرة وكبيرة ونلجأ إلى الخبرات القادرة على الفحص والتحليل خاصة أن هناك اتجاها يبدو متعمدا تقوده صحف وفضائيات أمريكية لإلقاء اللوم علينا لتفلت فرنسا من المسئولية.

لقد شككوا فى خبرة الطيار ومساعده.. وأعادوا فرضية انتحار أحدهما.. وعبثوا بسمعتنا فى الصيانة.. ونشروا سجل حوادث مصر للطيران الذى لا يزيد على 14 حادثة منذ عام 1918 حسب موقع لو بريزيان الفرنسى بينما سجلت إير فرنس 131 حادثة وسجلت الخطوط الهولندية 57 حادثة مثلا.

وفى السجل نفسه فإن طراز إير باص 320 تعرض منذ عام 1984 إلى 91 حادثا منها 34 حادثا تحطمت فيه الطائرة تماما وتوفى فيها 1326 راكبا.. كان أشهرها فى 26 يوليو 1988.. حين حاول قائد طائرة تمتلكها إير فرنس الهبوط بحركات استعراضية انتهت بسقوطه فى غابة وتوفى 136 راكبا كانوا على متنها.

وأمام لغز الطائرة المصرية الأخيرة طلب باراك أوباما تقريرا شفهيا «عشر دقائق» عما جرى لها وهى المرة الأولى التى يهتم فيها رئيس أمريكى بحادث طيران خارجى.. وأرفق بالتقرير خرائط الأقمار الصناعية المنتشرة بكثافة فى البحر المتوسط.. حيث يوجد أكبر مركز تنصت فى قبرص.. بجانب مخابرات حلف الناتو.

وتلقى وزير الأمن الأمريكى ثلاثة تقارير فى اليوم الثالث للحادث قدمتها هيئة الأمن القومى المسئولة عن التجسس الخارجى وتسجيل ما يهمس به مليارات البشر فى أربعة أنحاء العالم.

ولا يفسر هذا الاهتمام سوى السعى المبكر للإجابة عن السؤال المحير عن مدى تورط الإرهاب فى الجريمة.. خاصة أن خزانات الوقود فى الطائرات كانت شحنات المتفجرات التى نفذت بها هجمات سبتمبر فى الولايات المتحدة.

وحسب ما توقعت محطة فوكس نيوز فإن تلك التقارير المضاف إليها تقارير البنتاجون ترجح عملا إرهابيا.. مستندة إلى ما قدمته المخابرات اليونانية من معلومات تصف الاختفاء المفاجئ للطائرة بعد انحرافها بزوايا حادة متكررة وانقاطع الاتصال بها وعدم تلقى استغاثة منها بما يشبه ما جرى للطائرة الروسية إيرباص 321 التى سقطت فى سيناء قبل نهاية العام الماضى.

وحسب المصدر نفسه فإن أجهزة الأمن الفرنسية سبق أن توقعت عملا إرهابيا فى بلادها قبل سقوط الطائرة بعشرة أيام.. واستندت فى ذلك على ما همس به أحد مرشديها من معلومات.. لكنه.. لم يحدد المكان أو الهدف أو التوقيت.. وإن ذكر أن الدافع وراء العملية تدمير سمعة فرنسا السياحية «80 مليون سائح سنويا يشكلون 20 % من الدخل القومى» قبيل بدء دورة رياضية أوروبية على أرضها فى بداية يونيو القادم.

وتبرئ تلك الأجهزة تنظيم داعش من تنفيذ العملية فهى تثق فى صدق بياناته.. لو كان قد أعلن مسئوليته فقد صدق.. وهو لم يعلن.. والمشتبه الأول تنظيم محلى مكون من المهاجرين المغاربة يعيشون فى فرنسا وبلجيكا.. سبق أن نفذوا ما سبق من هجمات فى باريس «يوم 13 نوفمبر 2013» وكانوا وراء عملية مطار بروكسل يوم 22 مارس الماضى.

وقد رفعت درجة الاستعداد فى مطار شارل ديجول التى أقعلت منه الطائرة المصرية إلى ما بعد الدرجة الحمراء متخطية اللونين الأصفر والأخضر.. ونشر 450 رجل مخابرات.. ووضعت قوات مسلحة على كافة المداخل والمخارج.. وجرى فحص ملفات كل من تعامل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وكل من تواجد فى المنطقة التى توصف بأنها حساسة وحرجة.

وفى الحملة الأمريكية ضد مصر تحدثت شبكة سى إن إن عن رحلة قامت بها الطائرة المصرية فى اليوم نفسه إلى أسمرة «عاصمة إريتريا» حيث ضبطت هناك قنابل متطورة يمكن تفجيرها بجهاز كمبيوتر شخصى عبر قمر صناعى.

ولو صحت تلك الرواية فإن الشك فى وقوف دول بعينها وراء تنظيمات إرهابية ومدها بالمال والتكنولوجيا يصبح واقعا.

وحدث أن طلب شخص من طيار فى الخطوط الهندية توصيل هدية صغيرة إلى أحد أقاربه.. ووضع الطيار العلبة فى حقيبة يده.. دون أن يدرك أنها قنبلة إلا عندما انفجرت فى الطائرة التى يقودها.. لقد حمل تلك القنبلة آخر شخص يمكن الشك فيه.. وعكس ذلك خبث الجناة.

لكن.. يظل ذلك كله اجتهادًا يدعمه أو ينفيه ما سيخرج من الصندوق الأسود.. وإن كنا فى حالات ما قد نجد حكومات تحجب عن النشر ما فى باطن الصندوق لحسابات خاصة بها.. كما فى حادث الطائرة الروسية.. لقد تحدثت لندن وواشنطن وموسكو عن تفجيرها بقنبلة.. مستندة إلى ما وصفته بمصادر استخباراتية.. لكنها.. لم تقدم دليلا واحدا على صدق ما تدعى رغم أن مصر قدمت إليها كل ما تحت يديها من شرائط ومعلومات.

وما يلفت النظر أن بريطانيا وإيطاليا وروسيا أرسلت بعثات أمنية إلى مطار شرم الشيخ الذى أقلعت منه الطائرة بحثا عن الثغرات التى يمكن أن يتسلل منها إرهابيون.. لكننا.. لم نفكر فى معاملة بالمثل بعد حادث الطائرة المصرية ونرسل ببعثات أمنية إلى مطار شارل ديجول واكتفينا باستقبال محققين فرنسيين ومسئول من الشركة المصنعة بعد ساعات من الحادث.

وفى مواجهة حملات الإعلام الأمريكى لم يتجاوز رد المتحدث الرسمى للخارجية الحدود.. كلمنا أنفسنا كالعادة.. ونفرنا عروقنا أمام القنوات المحلية كالعادة.. وتركنا غيرنا ينهش فى لحمنا دون أن نفكر فى الرد عليه كالعادة.

لقد توقعت أن نستفيد من الحادث ونزيد من تعاطف الدنيا معنا بالذهاب إلى عواصمها المؤثرة.. والحديث الجرىء المتقن إلى شعوبها.. متجاوزين حدود الحادث إلى قضية الإرهاب التى وضعت العرب والأوروبيين فى طائرة واحدة.. دون أن ننسى الربط بين ما حدث فوق المتوسط وما يحدث فى سيناء.. بل.. وكانت فرصة أن ندعو الوكالات والفضائيات لتصوير عناصر الأمان فى مطاراتنا.. إن خبرة الجنايات تثبت أنه لا يكفى أن يقتنع المتهم ببراءته بل عليه توكيل محام محترف يكسب قضيته.. وأحيانا يخرج البرىء متهما والمتهم بريئا.. ولعلنا فى مصر أشهر مثال على ذلك.

ولن أكرر التحليل السياسى الشائع والصحيح الذى يربط الحوادث الإرهابية وضرب علاقتنا بالدول التى ساندتنا بعد سقوط نظام الإخوان.. روسيا وإيطاليا ليأتى الدور على فرنسا.. ولكن.. أجد من المناسب ربط حادث الطائرة الأخيرة ومبادرة أسيوط التى حاول فيها الرئيس إحياء المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية بعد أن دخلت غرفة الرعاية المركزة وتكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة.

ولا جدال أن فرنسا من أكثر الدول الغربية إصرارا على إقامة دولة فلسطينية.. وأغلب الظن أن رئيسها «فرانسوا أولاند» ساند المبادرة وشجع على إعلانها خلال زيارته للقاهرة.. وهو ما يضيف سببا سياسيا لتفسير العمليات الإرهابية التى تتعرض لها مصر.

لكن.. الأهم إصرار الإرهاب على تدمير سبل معيشة المصريين ليثوروا على النظام القائم الذى يعاقب على تنمية بلاده بطريق أو محطة كهرباء أو مصنع سماد أو ضمان الخبز بزراعة القمح.. على أنه نظام يقابل العند بالعند.. وفى الوقت نفسه يقابل تفجيرات الموت بمزيد من إنتاج وسائل الحياة.. ومهما كانت شراسة الموت فالحياة أكثر قدرة على الاستمرار.