أهل العلم والدعوة

إسلاميات

بوابة الفجر


أنتم أهل العلم والدعوة أما نحن فالله المستعان نحن في عداد العامة!

تواضع يجري مجرى النَفَس بلا تصنُّع، وهو يغبط ولا يحسد، ويُسَرّ حين يرى أبناءه وتلاميذه يشرقون؛ لأنه يخلو من مسحة الكبرياء؛ التي أعاقت كثيرين عن مواصلة الطريق.

تبدو طباعه موروثة عن الوالدين، مزكاة بجو تربوي صالح في الصغر، وقبل هذا فهي اصطفاء ربّاني لمن يملكون القلوب الصافية، ويحبون أن يحفظوها من عاديات الشر.

«الشماسية»؛ مدينة تُعدّ البوابة الشرقية للقصيم، واسعة ممتدة من الشمال إلى الجنوب، ولذا يسميها أهلها بـ(المدّا) بتشديد الدال، ويزيد طولها على سبعة عشر ميلاً.

مدينة حافلة بعبق البطولة، والكرم، والتاريخ.. حقول زراعية تغذي القصيم وما حولها، وتستفيد من انفتاحها على ما حولها في توفير أسواق لمنتجاتها.

معظم سكانها من «الدواسر»، وسميت «الشماسية»؛ نسبة لشماس الودعاني الدوسري، وفي بريدة حي يسمى (الشماس)؛ منسوب هو الآخر للدواسر، والمعتقد أن مدينة الشماسية أسبق منه وأقدم

على أن شيخنا ينتمي في أصل عائلته إلى (عقدة) من ضواحي حائل، وإلى فخذ (سنجارة) من شمر، والذي يقول بعض النسَّابين أنهم من الأشراف وتحالفوا مع شمر.

أخذت الأسرة اسمها من الجد الأول «عقل بن محمد الزويمل»؛ الذي نزح إلى «الشماسية» واستقرّ بها.

وُلد الشيخ (سنة ١٣٥٩هـ)، وقضى في مدينته خمس عشرة سنة كانت الأم فيها مدرسته؛ تربيه على الصدق، وعفة اللسان، وسلامة الصدر، وتبث فيه من روحها الوثابة نحو المعالي.

كان الصبي يتلقَّن تلك الدروس بعناية ومهابة، ويفك الحروف الأولى للمعاني السامية، والقيم الرفيعة؛ التي ظلت تمده إلى نهاية الطريق.

والده متابع دؤوب لا يمل، يستحث الخطى، وينفث الوصايا، ويراقب التحصيل، ويجدد العزم، كلما لمح ميلاً إلى اللعب والتراخي والدّعة.

اتصلت حبال الفتى بالشيخ «إبراهيم بن ضيف الله اليوسف»، وقد سبقته الأحاديث عن فضله، وعلمه، وفقهه، وسفره من أجل الطلب إلى المذنب، وبريدة، والرياض.. وتفننه في الفقه الحنبلي خاصة، وعلوم الشريعة عامة، مع سهولته وسماحة خلقه ولين جانبه للشباب، فاختص الشيخ به، ونهل من معينه، لكن منهوم العلم لا يروى، وها قد حانت الفرصة للفتى برحيل الأسرة إلى بريدة (١٣٧٤هـ)، وكانت مجمع البحرين، وكان الشيخ على موعد مع ثلة من عباد الله الصالحين؛ رجال في وزن عبد الله بن حميد، وصالح البليهي، ومحمد بن صالح المطوع، وصالح السكيتي، ومحمد بن عبد الله السبيل..

المعهد العلمي كان الميدان، والشاب يتنقّل بين فصوله، همّه العلم الذي يحقق به نجاته وصلاح سريرته، والذي ينفع به الناس، كأنه قد رسم طريقه منذ البداية؛ داعية جهير الصوت، حسن الأداء، يهز أعواد المنابر، ويهز معها القلوب المصغية!

في الأماسي كان على موعد مع الشيخ محمد إلياس للتسميع، كان فرحاً للأسرة كلها أن يختم ابن السابعة عشرة القرآن عن ظهر قلب، وها هو يتطلع ليتقدّم المصلين، ويتدرّب على مواجهة الجمهور وقيادته برفق وصبر وحلم.

صوته الغض الندي يجلجل في جامع السادة، والجموع تستجيب وتتوافد، والروح تسمو ليختم بالجماعة في رمضان ختمتين، أما لنفسه فيختم في رمضان أربعين ختمة!

ظل القرآن رفيق خلوته مع تحولات الحياة، ومع حزنه لفقد صديق أو رفيق إلا أن العزاء والسلوة في بقاء الوحي في صدره، وحين ألمّ به المرض، وأخبره الطبيب أنه قد يفقد بعض ذاكرته، كان المهم عنده أن يبقى القرآن حيّاً على لسانه، ولو استدعى ذلك الإسراع في إجراء عملية لا تخلو من خطر!

في غيبوبته يفتح على القارئ إذا أخطا أو توقف، ولهجه وهِجِّيرَاه أن يحفظ الله عليه القرآن.

قيام الليل أنسه في الحضر والسفر منذ أيام الصبا، وكلما ضعفت القوى زادت الهمة في التهجد!

برامج الطفولة المباركة؛ هي لحفظ العمر كله، والأشجار الطيبة التي تغرس في الأرض الفضاء لصبي يتطلّع للحياة تبقى مدى الحياة راسخة ومؤثرة.

نحن مدينون في مسالكنا وخطانا لتلك الأيام الجميلة البريئة مهما مضت بنا الأحداث وواجهنا التحولات!

جنباً إلى جنب تنمية الذات ونفع الناس: العلم والدعوة.

المنابر تلحظ شاباً يافعاً يرقاها، والآذان تسمع صوتاً جديداً، واعداً، صاعداً، صادعاً.

الشهادة والطموح تقودانه إلى الرياض؛ طالباً في كلية الشريعة ليتصل حبله بالمفتي آنذاك الشيخ محمد بن إبراهيم؛ الذي آنس في الفتى روحاً مختلفة فهمس إليه:

- يا بني كم أتمنى أن أكون في مثل سنك الآن!

يرد الفتى بخجل: أنت على خير عظيم في العلم والتعليم ونفع المسلمين!

- لو كنت في مثل نشاطك لقضيت ساعاتي كلها في الدعوة إلى الله.

كلمات بسيطة ولكنها محفّزة لشاب يتلمّس طريقه، وتتزاحم عليه الهموم، وتتعارض لديه الاتجاهات.. هل يتجه للبحث والتفقّه المحض أم ينطلق للوعظ والتأثير والدعوة؟

يبقى في الرياض أكثر من سنتين، ويتعرّف عن قرب على الشيخ ابن باز، فيملأ شغاف قلبه حباً وتبجيلاً، ويجد فيه من السماحة والتوسعة والتيسير مالم يألفه في محضنه الأول، ويلحظ العناية بالأدلة والترجيح، ولو خلاف المذهب الحنبلي، وهو صعب في بيئة غير منفتحة على المذاهب الأخرى ولا محتكة بها.

يظفر مرة أخرى بالشيخ صالح الفوزان؛ الذي درَّسه في الابتدائي، فيجده أمامه شيخاً في جامعة الإمام.

يقرأ الأحاديث في: «فضل سُكْنَى المَدِينَة والموت بها»، فيشعر أنها تخاطبه دون غيره، وما عذر شاب عاشق للحركة والعمل والاطلاع أن يبقى بعيداً عنها؟

مرحلة جديدة؛ ليكتشف عادات ليست في بلده، ويسمع معرفة لم يعهدها لدى شيوخه..

دروس الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ عبد القادر شيبة الحمد، والشيخ عطية سالم، وآخرين من شتى الأمصار؛ تمنحه زاداً جديداً، وتهيؤه ليكون داعية مروّضا للشاردين عن الطريق، ولآخرين يسوقون الناس بعنف إليه!

قرار بتعيينه داعية متفرغاً يضعه أمام مهماته وجهاً لوجه.

سيارة جيب مكتوب عليها (جولة الدعوة)؛ تجوب المدن من المدينة إلى جدة، فمكة، والطائف، والباحة، وعسير، ونجران، وجيزان.. إلى تبوك، وعرعر، والجوف، والحفر.

المسافات بآلاف الأميال تصغر وتختصر أمام همّة شاب مفرد إلا من زوج وأطفال؛ اعتادوا على الترحال وأحبوه ما دام بصحبة هذه الروح الزكية الفتية!

(النُّخَيل) بضم النون وفتح الخاء؛ هو وجهته الأكيدة.. والشيخ ابن باز، والشيخ ابن صالح يتابعان حركته ويعملان على تذليل العقبات أمامه.

تجمع قبلي واسع، وتدين جاد، ولكنه يحتاج إلى توعية وضبط، والشيخ الفتيّ «عبد العزيز العقل» هو رجل المهمة؛ بعاطفته الجياشة، وتأثيره القوي، وشخصيته السمحة؛ التي لا تقبل أفكار التشدد.