عادل حمودة يكتب: 6 عقد سياسية تهدد تركيا بالانفجار

مقالات الرأي



عزل 3000 قاضٍ.. اعتقال 6000 ضابط جيش.. احتجاز 9000 شرطى.. إقالة 15200 مدرس.. سحب تراخيص24 قناة تليفزيونية.. منع 1.5 مليون مواطن من السفر

■ قادة المعارضة التركية لـ«الفجر» : نُصرّ على أن الانقلاب مسرحية

■ الديلى ميل: أوروبا مهددة بملايين الفارين من جحيم أردوغان

■ إهانة شرف العسكرية

■ حرب أهلية فى الشوارع

■ إقالة القضاة بقرار رئاسى

■ معارك بين الجيش والشرطة والميليشيات المسلحة


تعانى تركيا من عقد نفسية مزمنة.. متنوعة.. ومؤلمة.. تهدد نسيجها وتجانسها.. وتحرمها من الهيبة والحرية.. وتجبرها على أن تظل هائمة فى البرية مهما بدت مستقرة سياسيا.. منتعشة اقتصاديا.. مسيطرة أمنيا.

دولة يستقر جسدها العريض فى آسيا.. لكنها.. تتشبث بالانتماء إلى أوروبا التى لا تملك فيها سوى قطعة أرض صغيرة تشبه زائدة «البواسير» تصل إليها بجسر معلق تطلق عليه «جولدن بريدج».. فارتبكت عاجزة عن تحديد أى جزء من خريطتها تنتمى إليه فيما يجسد عقدة جغرافية.

دولة فرضت سطوتها تاريخيا على خريطة العالم فيما عرف بالإمبراطورية العثمانية.. لعب فيها الإسلام دورًا مباشرًا ومؤثرا فى نموها وتوسعها إلى أن ضعفت وتمزقت وقسمت تركتها.. لكنها.. عادت لتثبت نفسها من جديد بعلمانية حادة فرضها كمال أتاتورك.. نبذ فيها الدين بعيدا عن الحياة.. بل.. اعتبره مصدر تخلف.. مما أحدث تناقضا صارخا وتمزقا داخليا فرضته عقدة دينية.

دولة انقلبت كل مظاهر الحياة فيها بقرارات من السلطة الحاكمة.. تغيرت حروف لغتها من حروف عربية إلى حروف لاتينية.. واختفت العمامة وفرضت القبعة.. ومنعت الدعوة للصلاة علنا.. وأغلقت المدارس الدينية.. وقيدت المساجد.. وسمح بالحرية الشخصية مهما تمادت وتجاوزت.. فاربكت الهوية.. وسببت عقدة حضارية.

دولة بها أغلبية سنية.. تفرض إرادتها على مذاهب إسلامية وعرقية أخرى لها ثقل بالحجم والشرع.. مثل الشيعة والأكراد.. ومذاهب إسلامية محدودة التأثير.. وقوميات مثل القرمية والتتارية والأذرية.. مما أدى إلى اضطرابات ودعوات انفصالية حملت السلاح وإن وجهت بالقمع والشدة.. لكنها.. فى النهاية سببت عقدة مذهبية.

دولة انتقلت من حكم السلاطين إلى سلطة الجنرالات حيث أصبح الجيش مسئولا عن الحياة السياسية ومنحت المؤسسة العسكرية صلاحيات دستورية شبه مطلقة راحت القوى المدنية والإسلامية تحد منها فى صراع لم يتوقف.. فرض عقدة ديمقراطية.

دولة تتحدث عن حقوق الفلسطينيين بينما تعيش شهر عسل دائما مع إسرائيل.. وتعلن أنها مستقلة الإرادة والقرار بينما على أرضها قاعدة إنجيلرك الأمريكية.. وتشارك فى حلف الأطلنطى بثانى أكبر جيش بعد الولايات المتحدة.. مما جعل باقى دول المنطقة فى حالة شك وتوجس تجاهها.. مفجرة ما يمكن وصفه بالعقدة الإقليمية.

دولة تعانى من كل هذه العقد يحتاج شعبها إلى رعاية خاصة من حكامه وإلا عجز عن تحمل الضغوط ووجد نفسه فى صراعات داخلية يمكن أن تنتهى بحرب أهلية.. وربما.. ما حدث فيها مؤخرا أكبر دليل على ذلك.. حيث ضربت المؤسسة التشريعية بالطائرات.. وصفيت مؤسسة القضاء.. وأهينت المؤسسة العسكرية.. وواجهت قوات الشرطة وحدات من الجيش.. وقتل أتراك برصاص أتراك.. وانقسمت الأمة على نفسها.. وأصبح بين الشعب الواحد ثأر ودم لن يمر بسهولة دون انتقام.

إن ما حدث فى تركيا مؤخرا أكبر من مجرد انقلاب عسكرى محدود وفاشل.. فقد انتهى باعتقال وإقصاء نحو ثمانية آلاف شخص ينتمون إلى الجيش والقضاء والنيابة العامة ومنظمات رجال الأعمال فى أيام معدودة.. وحسب التصريحات الرسمية سيتضاعف العدد.. مما يعنى أن ما تحت السطح أعمق بكثير مما يظهر أمامنا وما يعلن عنه.

ولو كان من حق أردوغان تنحية الجنرالات بحكم منصب القائد الأعلى فكيف اعتدى بسلطته التنفيذية على السلطة القضائية وهى سلطة حسب الدستور مستقلة؟.

وما حدث ليس مجرد مؤامرة عابرة جرى تفكيكها ومطاردة مرتكبيها وتصفية جيوبها.. وإنما.. حادث فى سلسلة حوادث حدثت.. وفى سلسلة حوادث ستحدث.. فأسباب التكرار قائمة فى العقد النفسية التى لم تفك ولم تعالج.. ولا تزال تفرض التفتت أكثر مما توحى بالتوحد.

وقد استغل أردوغان ما حدث فى تصفية حساباته مع خصومه من الجنرالات والقضاة وهما طرفا السلطة اللذان فوضهما الدستور بحماية العلمانية ومراقبة التزام الأحزاب السياسية بما فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم بقوانينها ومظاهرها.. ومنحهما الحق فى إلغاء رخصها.. وإسقاط حكوماتها.. وهو ما يفسر إسراع أردوغان باستغلال الموقف فى نزع ريشهم وتكسير أنيابهم.

لقد تجاوز تعداد القوات المسلحة نصف المليون ضابط وجندى.. ينتشرون فى أربعة جيوش.. الجيش الأول يحمى منطقة مرمرة وتتركز قيادته فى استنبول.. والجيش الثانى يحمى جنوب شرق الأناضول ومقر قيادته فى مالاطيا.. والجيش الثالث يغطى حدود المنطقة الشرقية ومقر قيادته فى أزرينجان.. والجيش الرابع مهمته مواجهة اليونان فى بحر إيجة.. ومقر قيادته فى أزمير.

وقد أقيل قادة الجيش الأربعة وانضم إليهم قائد قاعدة إنجيرك الجوية وقادة التشكيلات المقاتلة واسراب الهليكوبتر.. مما يثبت أن أردوغان استخدم الانقلاب الذى لم يعرف به إلا بعد وقوعه فى الإطاحة بهم وبكبار قضاة المحكمة العليا.. أو أنه كان يتربص بهم وبباقى القيادات العسكرية للتخلص منهم دون مراجعة أو محاكمة لدعم سلطاته الديكتاتورية بوسائل يتصور أنها ديمقراطية بمباركة شعبية.

بل أكثر من ذلك سيستغل الموقف ويعدل الدستور ليغير نظام الحكم من برلمانى إلى رئاسى وليظل فى السلطة مهما كان الثمن.. وربما أعاد عقوبة الإعدام ليسهل التخلص ممن يشاء بعد محاكمات ربما تكون صورية.

وربما.. لهذا السبب خرج من يصف الانقلاب بأنه تمثيلية مدبرة من السلطة القائمة للتخلص من خصومها ومصادرة القوى المنافسة لها.. ويصعب قبول ذلك التفسير.. وإن يمكن أن نجد له ملامح وظلالا.. خاصة أن فتح الله جولن المتهم بتدبير الانقلاب ألقى التهمة ذاتها فى وجه أردوغان وهو يتحدث لصحيفة نيويورك تايمز قائلا: «إن بعض القادة يدبرون هجمات انتحارية وهمية لتعزيز دعائم حكمهم وهؤلاء يسرى فى مخيلتهم مثل هذا النوع من السيناريوهات».

والتمثيل يعنى أن يتقمص الشخص دورا يحاول أن يقنع به الآخرين ولو كان مخالفا لقناعته الذاتية.. ولا شك أن أردوغان ممثل بارع يعرف كيف يخفى حقيقة مشاعره.. فيما يشبه التقية السياسية.. فهو متشدد دينيا.. لكنه.. يتحدث عن حماية العلمانية.. ويتقمص دور المدافع عنها.. ورغم علاقته المتينة بإسرائيل لم يتردد فى وصف شيمون بيريز بقاتل الأطفال فى أحد مؤتمرات ديفوس.. ورغم تصرفاته القمعية التى جعلت البعض يطالب بمحاكمته كمجرم حرب يتحدث بإفراط عن الحرية والديمقراطية والإرادة الشعبية.

وتقمص أردوغان دور الراغب فى دخول بلاده الاتحاد الأوروبى.. ولم يكن ذلك عن إيمان حقيقى بالاندماج فى «قارة مسيحية دينيا منحلة أخلاقيا».. وإنما استغل شروط ومعايير كوبنهاجن التى يجب تنفيذها لدخول الاتحاد فى تقليص دور المؤسسة العسكرية التى قبلت على مضض.. حيث تفرض هذه الشروط إبعاد الجيوش عن السياسة.. ونجح فى ذلك.. وفى المقابل وافق وهو المسلم المتشدد على فتح بيوت للدعارة.. ومنح الشواذ حرية شخصية تمنع السلطات من مطاردتهم أو عقابهم.

ويدعم اتهام أردوغان بتدبير الانقلاب أنه قبل أيام قليلة من وقوعه اعتذر للرئيس بوتين عن إسقاط الطائرة الروسية العسكرية وتعهد بدفع 200 مليون دولار تعويضات عنها بجانب تغيير موقفه من النظام السورى والإعلان عن دعمه.. وكأنه يحيد أشد القوى الدولية قربا منه وتأثيرا عليه.

وفى اليوم نفسه أغلقت فرنسا مكاتبها الرسمية فى تركيا دون مبرر معلن وكأن مخابراتها كانت تعرف بما سيحدث.

ولم يتردد فى إعادة الجسور المتينة بينه وبين إسرائيل متقبلا اعتذارها على ما فعلت بسفينة الحرية ومن جانبها ردت إسرائيل الجميل بسرعة مذهلة فقد تناثرت أنباء صحفية أمريكية بأن المخابرات الإسرائيلية سبقت المخابرات التركية فى إبلاغه بوقوع الانقلاب قبل الإعلان عنه.. وكان أردوغان يقضى إجازته فى فندق على شاطئ مرمريس فغادره بنصيحة إسرائيلية قبل نصف ساعة من هجوم شنته ثلاث طائرات هليكوبتر بها 40 عسكريًا على الفندق.. فنجا بنظامه بعد أن نجا بحياته.

وما يضاعف الريبة فيما حدث أن الانقلاب بلا رأس مدبر محدد.. مرة اتهم محرم كوسا المستشار القانونى لرئيس الأركان.. ومرة اتهم رئيس أركان سابق للقوات الجوية الجنرال أكين اوزتورك لمجرد أن وجد اسمه فى قائمة من ثمانين شخصا رشحهم الانقلابيون لتولى السلطة.

وأن البيان الأولى ترك للمذيعة «تيجين كاراش» فى القناة الحكومية التى أذاعت بيان الانقلاب وأذاعت بيان القضاء عليه.. هل يمكن قبول ذلك بسهولة.. خاصة من جيش محترف انقلابات؟

والحقيقة أن موهبة التمثيل لا تقتصر على أردوغان وإنما تمتد إلى خصومه من العسكريين الذين دبروا مؤامرة «أرجنكون» التى شارك فيها عدد من كبار الجنرالات منهم رئيس أركان سابق للتخلص من حزب العدالة والتنمية وتصفية حركة فتح الله كولن الإسلامية بأن أخفوا أسلحة ومتفجرات فى أماكن تخصها.. تمهيدا للقضاء عليها سياسيا بعد توجيه اتهامات إرهابية إليها.. ولكن.. المؤامرة كشفت وحوكم قادتها «مثل الجنرالين خورشيد طولون وشينير أرويجور» بتهمة السعى إلى القيام بانقلابات عسكرية.. وتشكيل منظمة إرهابية.

حدث ذلك فى 10 مارس 2009.. وقتها كان كولن وأردوغان فى خندق إسلامى واحد.. بل إن حزب كولن كان الحاضنة الأولى لحزب العدالة والتنمية.. ولكن.. أصدقاء الأمس أصبحوا أعداء اليوم.. فقد وجد أردوغان أنها فرصة لاتهام كولن بتدبير وتمويل الانقلاب الأخير.. وقبض على أنصاره.. والمنتمين إلى أفكاره.. واعتقل أعدادًا كبيرة من الشخصيات المؤثرة بدعوى أنهم أتباعه.. ولم يكن ذلك صحيحًا فى كثير من الحالات.. ولعل تصرف أردوغان فى التهام واتهام كل من ساعده يتوافق مع طبيعة تنظيم الإخوان الذى ينتمى إليه فى التخلص تدريجيا من الحلفاء واحدا بعد الآخر.

وكان كولن قد اتهم أردوغان بالفساد العائلى حيث نشر وثائق تثبت تورط ابنه بلال فى قضية غسيل أموال فى إيطاليا.. كما أنه أفسد أعدادًا ليست قليلة من القضاة والجنرالات.. وكشف كولن أن أردوغان وضع منظومة دفاع جوى على قصره لحمايته من انقلابات توقعها.

ويثور السؤال عن فشل الانقلاب الذى اتهمت بتدبيره المؤسسة العسكرية التى احترفت تنفيذ انقلابات ناجحة فيما قبل.. فما الذى جرى لها هذه المرة؟.

لقد كان نزول عدد من الدبابات للسيطرة على الطرق والمنشآت الرئيسية فى العاصمة والمدن الكبرى كفيلا بنجاح الانقلاب.. ولم يحدث أن شاركت قوات جوية أو بحرية فى انقلاب سابق.. وإن استنفرت فى حالة طوارئ.

وكان الجيش يبرر نزوله إلى الشوارع بالمادة «34» من قانون المهمات الداخلية للجيش الذى صدر عام 1935 والتى نصت على أن وظيفة الجيش حماية الوطن التركى والجمهورية التركية .. وبتلك المادة أصبح الجيش مسئولا عن الدفاع عن التراب التركى عسكريا والتدخل لحماية مبادئ الجمهورية التركية وعلى رأسها العلمانية.

وكان الانقلاب الأول فى 27 مايو 1960 على حكومة الحزب الديمقراطى الذى وصل إلى السلطة عام 1950 بعد هزيمة حزب الشعب الجمهورى «حزب أتاتورك الذى يمثل الجمهورية ونظامها» وبعد عامين انضم إلى الناتو فانزعجت مجموعات الضباط الصغار وأحسوا بأمركة قواتهم المسلحة وبانفتاح ليبرالى يهدد العلمانية فقاموا بانقلاب 27 مايو 1961.. وأعلنت الأحكام العرفية.. وأعدم ثلاثة من الحزب الديمقراطى.. وأقيل عدد كبير من أعضاء هيئات التدريس فى الجامعات.. وأسقط دستور 1923 وأعلن دستور 1960 بمواد فرضت وصاية مباشرة على الحياة المدنية.

وفى نهاية سبعينيات القرن الماضى عاشت تركيا صراعات حزبية وأعمال عنف متبادلة بين السنة والشيعة وبين الأتراك والأكراد وعمت الفوضى البلاد مما دفع رئيس الأركان فى الأول من ديسمبر 1979 إلى تقديم مذكرة إلى رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورؤساء الأحزاب تدعوهم للقيام بواجباتهم الوطنية وإلا تدخلت القوات المسلحة وهو ما حدث فى 12 سبتمبر 1980.. وسيطر الجنرالات على مجالس التعليم والإعلام والثقافة.

وهنا أتذكر أننى كنت فى أنقرة وقت الانقلاب نلتقط مناظر طبيعية بكاميرا مصور مجلة الشرقية ولم ندرك أن الجبل الصاعد الذى صورنا الشمس وهى تغرب خلفه ينتهى بمبنى قيادة الأركان فقبض علينا ولولا تدخل صلاح حافظ الذى كان على موعد مع رئيس الأركان كنعان أفريم لكان مصيرنا السجن مدى الحياة بتهمة التجسس.. وجاء إلى فندقنا وزير الإعلام وكان جنرالا ليعتذر.

ولو كنت قد نجوت من بطش أفريم فإن نصف مليون مواطن تركى دفعوا ثمنا غاليا فى السجون وفر عشرات الألوف من السياسيين إلى أوروبا الغربية وفقد أكثر من عشرة آلاف لاجئ جنسيتهم ولم يستردوها إلا فى أواخر التسعينيات.. وربما لتلك المظاهر الفاشية لم يعد الأتراك يقبلون بالتدخل العسكرى فى الحكم.

وكان الانقلاب الثالث فى 28 فبراير 1997.. ولم يكن انقلابا تقليديا.. وإنما لم يزد عن اجتماع مطول لمجلس الأمن القومى استمر تسع ساعات انتهى بتوصيات قدمت للحكومة فى شكل قرارات واجبة التنفيذ.. للقضاء على المؤسسات الإسلامية والصوفية والمظاهر الدينية.. وكان ذلك على أثر نجاح الثورة الخومينية فى إيران.

وفى أغسطس 1997 صدرت وثيقة الأمن القومى التى اعتبرت الخطر الأول الذى يهدد البلاد هو صعود الإسلام السياسى.. وأغلقت المحكمة الدستورية حزب الرفاة فخرج منه حزب الفضيلة لكنه أغلق هو الآخر ليظهر على السطح تحت اسم حزب السعادة الذى انتهى به المطاف ليكون حزب العدالة والتنمية الذى احترف التقية.. احتفظ فى قلبه بمبادئه الدينية.. ولم يخرج عن المبادئ العلمانية.. فى انتظار استكمال قوته.. وإضعاف الجيش والقضاء للتخلص من سلطانهما.. بل الانتقام منهما.

خاض الحزب الانتخابات التشريعية المبكرة فى 3 نوفمبر 2002 وخرج منها فائزا بالمركز الأول ليشكل حكومة منفردا.. وساعده على ذلك تبنيه منهجا إصلاحيا.. ليبراليا.. بجانب تشجيع الولايات المتحدة لتيارات الإسلام المعتدل بعد هجمات سبتمبر 2001.

ويضيف طارق عبد الجليل الباحث المتخصص فى تاريخ تركيا المعاصر: وكما خدمت المتغيرات الدولية حزب العدالة والتنمية فى فوزه بالانتخابات فإن وقوف تركيا على عتبة بدء مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى كانت أيضا حصان طروادة الأردوغانى الذى سيحقق برنامجه الإصلاحى.. فقد امتطى أردوغان جواد متطلبات الوفاء بمعايير كوبنهاجن وهو يعلم أنه بهذا الشكل بات مدعوما دعما قويا لأن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى مطلب قومى أتاتوركى فى الأساس ثم هو مطلب النخب العلمانية بمختلف أطيافها وأخيرا هو مطلب شعبى من أجل حياة اقتصادية أكثر رفاهية».

وعلى الجانب الآخر فإن المؤسسة العسكرية كانت تدرك تماما أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى يعد سحبا لكافة سلطاتها السياسية ولقوتها الاقتصادية ويعنى أيضا إعادة تنظيم وضعيتها الدستورية وفق المعايير الأوروبية غير أنها لا يمكنها البوح بذلك والجهر بمعارضتها لمطلب قومى أتاتوركى وبالتالى فهى لن تقف حائلا أمام الإصلاحات التى سيقوم بها حزب العدالة وفق متطلبات برنامج الإصلاح الأوروبى».

وما ضاعف من قبول أردوغان داخليا وخارجيا أنه وصف نفسه بالديمقراطى المحافظ وسعى إلى إقامة علاقات طيبة مع جيرانه بما فى ذلك اليونان.. ونجح فى الفرار من مصير الأحزاب الدينية الأخرى عندما استجاب لقرار المحكمة الدستورية برفض الحجاب فى الجامعات والمؤسسات الرسمية.. لكنه.. كان فى حاجة لبعض الوقت ليحقق إنجازات اقتصادية وتغيرات قانونية ليشعر بقوته ويبدأ فى المواجهة وتصفية الحسابات كما فعل مؤخرا بعد فشل الانقلاب.

وحسب وصف رويترز فإن الانقلاب دبر ونفذ جيدا ولكن بعقلية قديمة تنتمى لزمن مضى.. فقد اكتفى الانقلابيون بإغلاق الطرق والجسور وإذاعة بيان فى قناة التليفزيون الرسمية.. لكنهم.. لم يعتقلوا قيادات الحزب الحاكم.. وتصرفوا خارج تسلسل السلطة العسكرية.. ولم يقطعوا الاتصالات التليفونية أو شبكات التواصل الاجتماعى.. فكان من السهل أن يدعو أردوغان أنصاره للسيطرة على الشوارع ومواجهة الدبابات.. كما دعاهم لمواجهة الطائرات العسكرية بسياراتهم لمنعها من الإقلاع.

واللافت للنظر أن أردوغان الأكثر كراهية لتكنولوجيا الاتصالات أنقذ حياته وحكمه الفيس تايم الذى تنفرد به شبكات آى فون.. فقد أجرى حوارا عبر الهاتف وتواصل مع مؤيديه بعد أن عجز عن الوصول إلى محطة تليفزيون أو النزول بطائرته فى مطار استنبول للتحدث إلى الميديا كما حدث فيما بعد.

وكان الحصول على موبايل لقائد واحد من قادة الانقلاب كفيل بكشف الآخرين بعد أن وضعوا أنفسهم وخططهم فى جروب مشترك على الوتس آب.

وعادة ما يقوم بالانقلاب سلاح المدرعات ليسد الطرق ويستولى على المؤسسات الدستورية.. ولكن.. بدا واضحا أن هذا الانقلاب قامت به وحدات من القوات الجوية.. سيطرت فيه على عدد من القواعد.. وتجاوزت حدودها بقصف البرلمان وتهديد القصر الجمهورى.. ولكن.. ذلك لم يكن كافيا.. فما أن أمر أردوغان أنصاره بالنزول إلى الشوارع حتى شلت قوات الجيش المتواجدة فيها.. وأصبح من السهل فيما بعد تحرير القواعد العسكرية التى سيطر عليها الانقلابيون.

ولم يكن أردوغان يأمر أنصاره بالنزول إلى الشوارع ما لم يكن أنصاره يستطيعون ذلك.. مما يعنى أن حزب العدالة والتنمية نجح فى سنوات حكمه الممتدة 14 سنة فى تكوين ميليشيات مدربة عسكريا وسياسيا أنقذته وقت الشدة.

ولوحظ أن أردوغان استخدم الشرطة والقوات الخاصة المكلفة والميليشيات الحزبية لحمايته فى مواجهة العسكريين.. ولم تخل المواجهة من إهانات وصلت إلى حد الذبح وخلع ملابسهم وضربهم علنا أمام الكاميرات.. مما يعيد مشاهد الإخوان فى مصر فى أحداث الاتحادية وغيرها.. ولعل من شاء معرفة مصير مصر لو استمر الإخوان فى الحكم يجد إجابة شافية فيما فعل الإخوان فى تركيا.

لم يملك إخوان مصر الوقت الكافى لتكوين ميليشيات مسلحة تكون بديلة للجيش.. كما لم تستمر خطتهم فى تدريب شبابهم على أعمال المخابرات فى قطر وتركيا قبل التخلص من الأجهزة السيادية.

ولو كان أردوغان قد وجد فى الانقلاب ذريعة للبطش بخصومه فإنه بتجاوزاته القانونية والدستورية يضع الديمقراطية التى يتحدث عنها فى مأزق.. فالديمقراطية تجبره على أن يحاكم الانقلابيين محاكمة عادلة يتاح لهم فيها جميع حقوق المتهمين.. والديمقراطية لا تبيح له الاعتداء على السلطة القضائية بالاعتقال والإقالة.. ومن سخرية القدر أن حزبه يسمى حزب العدالة.