تفسير قوله تعالى "وما أنزل الله من السماء من ماء"

إسلاميات

وما أنزل الله من
وما أنزل الله من السماء من ماء - صورة أرشيفية


الاختلاف في بعض ألفاظ الآيات والتشابه بينها أمر شائع ومعهود في القرآن الكريم، وهو يكون لفائدة ما، قد تستبين لنا، وقد تخفى علينا، وقد يعلمها البعض، وتخفى على آخرين. 

والذي ينبغي اعتقاده في هذا الشأن، أن الاختلاف بين بعض الألفاظ القرآنية ليس عبثاً؛ لأن كلام الله سبحانه منزه عن العبث، بل هو القول الفصل، وليس بالهزل. 

ومن الآيات التي تناولت موضوعاً واحداً، لكن وُجد بعض اختلاف بين ألفاظها، الآيات الثلاث التالية: 

أولاً: قوله تعالى: {وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها} (البقرة:164). 

ثانياً: قوله سبحانه: {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها} (العنكبوت:63).

ثالثاً: قوله عز وجل: {وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها} (الجاثية:5). 

هذه الآيات الثلاث في جملتها، تخبر عن آية من آيات الله الكونية، إنها آية نزول المطر من السماء إلى الأرض، وما ينتج عن ذلك من انتعاش الأرض واخضرارها، وإنبات الزرع، وبث الحياة في كل الكائنات التي على ظهرها. 

والناظر في هذه الآيات الثلاث، يجد أنها اختلفت في أمرين اثنين: 

الأول: أن آيتي البقرة والجاثية جاء فيها قوله تعالى: {بعد موتها} غيرَ مسبوق بحرف (من)، في حين أن آية سورة العنكبوت جاء هذا اللفظ فيها مسبوقاً بحرف (من) = {من بعد موتها}.  

الثاني: أن آيتي البقرة والعنكبوت أخبرتا أن (المُنْزَل) من السماء، إنما هو (ماء)، بينما أخبرت آية الجاثية أن (المُنْزَل) من السماء (رزق). 

وتوجيه هذين الاختلافين يكون على النحو التالي: 

أولاً: أن زيادة (من) في آية العنكبوت: {من بعد موتها}، إنما هي زيادة بيان وتأكيد، جيء بها لتناسب ما تقدَّمَ من قوله عز وجل: {ولئن سألتهم من نزل}؛ لأن بنية صيغة (فَعَّل) تفيد المبالغة والتكثير؛ وذلك مما يتطلب البيان والتأكيد، فناسب بينهما بإضافة (من). ولما لم يقع في الآيتين الأُخريين إلا لفظ {أنزل}، ولا مبالغة في صيغة (أفعل) ولا تأكيد، لم يكن فيهما ما يستدعي زيادة (من) ليُناسب بها، فلم تقع في الآيتين. ولو قُدِّر ورود عكس الواقع في آيتي البقرة والجاثية، بزيادة (من)، وسقوطها في آية العنكبوت، لما ناسب ذلك أصلاً، فوضح تناسب الإتيان بـ (من)، لما سبقه من الفعل {نزل}، وامتناع خلافه. هذا توجيه ابن الزبير الغرناطي لزيادة (من) في آية العنكبوت، وحَذْفها في آيتي البقرة والجاثية.     

أما ابن عاشور فقد وجَّه زيادة (من) على نحو آخر، حيث رأى أنه لما كان سياق الكلام في آية العنكبوت قد سيق  مساق التقرير، كان المقام مقتضياً للتأكيد بزيادة (من) في قوله: {من بعد موتها}؛ إلجاء لهم إلى الإقرار بأن فاعل ذلك هو الله دون أصنامهم؛ فلذلك لم يكن مقتضى لزيادة (من) في آية البقرة، وفي الجاثية {فأحيا به الأرض بعد موتها}. 

ثانياً: إن آية الجاثية لما تأخرت في الترتيب الذي استقر عليه القرآن الكريم، كانت مِظنة لبيان أنما (الرزق) كائن عن (الماء)، كما قال تعالى: {ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات} (النحل:11)، وقال أيضاً: {ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد} (ق:9-11). فقال في آية الجاثية {من رزق} تسمية لـ (الماء) بما عنه يتسبب، وتكون مبالغة في بيان ما تقدم، كما قال سبحانه: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}. وبعبارة أخرى، فإن آيتي البقرة والعنكبوت ذكرتا السبب الذي يكون منه الرزق)، وهو (الماء)، بينما آية الجاثية ذكرت المُسَبَّب عن (الماء) وهو (الرزق)، وإقامة (المُسَبَّبِ) مقام (السبب) أمر شائع في القرآن الكريم، قال ابن عاشور: أُطلق (الرزق) هنا على (المطر) على طريقة المجاز المرسل؛ لأن المطر سبب له. وبالتالي يكون الأمر هنا من باب التنويع في الخطاب، تارة بذكر (السبب)، وتارة أخرى بذكر (المُسَبَّبِ).   

ولا بأس أن تعلم، أن جلُّ التفاسير لم تأت على توجيه الاختلافين في الآيات الثلاث اللذَين أتينا عليهما، وكان المصدر الرئيس فيما ذكرناه من توجيه كتاب "ملاك التأويل" لـ ابن الزبير الغرناطي.