منال لاشين تكتب: غيبوبة الحكومة فى كارثة الدولار

مقالات الرأي



■ مسئول فى صندوق النقد: المصريون سيعانون من أكبر موجة غلاء قادمة

■ شريف إسماعيل لم ينف ولم يؤكد تعويم الجنيه وترك سوق العملة حائرة

■ بيان المجموعة الاقتصادية تهرب من الحديث عن مستقبل الجنيه واكتفى بالإعلان عن القرض


ليس شرطا أن تعمل بالصحافة أو تمتهن الكتابة لتدرك جبروت الكلمة، وتعرف أن بعض الكلمات أقوى من الناطحات، وأن الكلمات قادرة على هدم اقتصاديات، لكن ستظل كلمات الكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى أجمل وأقوى كلمات لتكثيف قوة الكلمة، يقول الشرقاوى «أتعرف ما معنى الكلمة.. مفتاح الجنة فى كلمة.. دخول النار على كلمة.. وقضاء الله كلمة.. الكلمة نور.. وبعض الكلمات قبور».

والتصريح الأخير المنسوب لمحافظ البنك المركزى طارق عامر يدخل تحت عباءة الكلمة الأخيرة، بعض الكلمات قبور.


1- أغلى كلمة

محافظ البنك المركزى كان فى اجتماع مغلق باللجنة الاقتصادية بالبرلمان فى الأسبوع قبل الماضى، وسئل عن تعويم الجنيه فقال: إن التعويم غير وارد الآن، وهناك روايتان إحداهما أن طارق لم يقل كلمة الآن، وقال فقط التعويم غير وارد، والرواية الأخرى لنائب حضر الاجتماع وأكد أن المحافظ استخدم كلمة الآن، بل إن النائب أكد لى أنه قام بتسجيل الاجتماع، ولديه الدليل على أن المحافظ قال كلمة الآن، والآن هى كلمة غير حاسمة أو محددة هل نقصد بها أيامًا أو شهورًا أم سنوات، وقد ترجمت السوق السوداء للدولار هذا التصريح سريعًا فارتفع السعر فى السوق السوداء وتوقفت حركة البيع والشراء إلا قليلاً، الكل فى انتظار صفقة العمر، وهى تعويم الجنيه، حتى تلميحات المحافظ منذ أسابيع عن تخفيض الجنيه تراجعت آثارها أمام الطمع الجديد، تعويم الجنيه أو إغراقه، ومن يومها غرقت حكومة شريف إسماعيل فى بحر الصمت، فإذا كان تصريح طارق عامر صحيحًا أو مدسوسًا أو منسوبًا إليه فالصمت ثمنه فادح، والحكومة - لأسباب لا نعرفها - تغوص فى صمتها، اقترح البعض على المهندس شريف إسماعيل إصدار بيان أو تصريح بعدم نية الحكومة التعويم، لكنه رفض، ربما بحجة أن هذا النوع من القرارات مسئولية محافظ البنك المركزى وليس رئيس الحكومة، ومن ضمن الكلمات الخاطئة القاتلة أن التعويم مسئولية المحافظ، فالتعويم قرار سياسى بل سيادى، وعندما قامت الحكومة بتعويم الجنيه أيام الدكتور عاطف عبيد، فإن من أعلن التعويم كان رئيس الحكومة عاطف عبيد، وليس محافظ البنك المركزى.

المثير أن الحكومات فى مصر تكرر أخطاءها مرة تلو الأخرى، وتطبق مقولة «أن التاريخ يكرر نفسه لأننا لم نستمع له فى المرة الأولى»، لقد تكرر نفس المشهد مع تغيير فى الأشخاص، منذ أكثر من عام ونصف العام أدلى وزير الاستثمار السابق أشرف سالمان بتصريح خلال مؤتمر اليورمنى مع تعويم الجنيه، ولم يتصور سوق الدولار أن سالمان كان يعبر عن رأيه الشخصى، واشتعلت السوق السوداء، ووقفت الحكومة نفس الموقف الصامت الغامض «المطنش»، وكأن الأمر لا يعنيها، وكأن سالمان وزير فى دولة أخرى وكان يتحدث عن تعويم عملة أخرى غير الجنيه، وفى ذلك الوقت رفض رئيس الحكومة السابق المهندس إبراهيم محلب إصدار نفى لكلام وزيره، واستمر سالمان فى منصبه، ولذلك كان من حق السوق أن تصدق أن الحكومة ستعوم الجنيه، وبدافع المكسب أو بالأحرى الطمع ارتفع الدولار وبدأ تخزينه بوصفه سلعة، معظمنا نسى أو تجاهل أن تصريح سالمان كان أول خطوة فى جنون الدولار وبداية الأزمة عندما كان هشام رامز محافظًا للبنك المركزى، أما صمت الحكومة أمام تصريح سالمان فقد أدى إلى أن يركب الدولار الجميع السوق والحكومة والمواطن.

الآن يتكرر نفس المشهد بنفس الصمت لكن بسعر دولار أعلى من مشهد سالمان بأكثر من ثلاثة جنيهات، وهذا المبلغ قابل للزيادة غير المحددة، كلما طال صمت الحكومة أو تجاهلها الأزمة.


2- الخوف من الكلمة

من وجهة نظر البعض فإن صمت الحكومة سببه الخوف، وبعض المحللين يرون أن تلميحات طارق عامر بتخفيض الجنيه كانت مقدمة لتنفيذ خطة حكومية متكاملة أو حزمة إجراءات، وأن طارق عامر بدأ التمهيد للخطة، بينما تراجعت الحكومة على تنفيذها، بل إن بعض المحللين رأى أنه كان تمهيداً موجهاً للخارج لبدء مفاوضات صندوق النقد حول القرض، لكن بعد التمهيد تراجعت أو أرجأت الحكومة الخطة نفسها.

ربما لأنها حكومة بطيئة ومصابة بالعرج، وفى بعض الملفات ينتابها شلل مفاجئ، وربما يكون الخوف وراء تأجيل تنفيذ إجراءات الخطة، لأن ثمن التنفيذ أو بالأحرى فاتورته سيكون فادحًا على الطبقات الفقيرة والمتوسطة معاً، وأن هذه الطبقات لم تستطع الحياة مع موجة ارتفاع الأسعار القادمة نتيجة هذه الإجراءات، وقد أكد لى هذا الاتجاه مسئول بصندوق النقد، ولأن الحديث عن الدولار يحتل كل الجلسات، فقد تحول الحديث عن الحر والمصيف إلى أزمة الدولار وقفزات السعر، وبكلمات مختصرة وحذره قال الرجل: إن الحكومة لديها العذر فى الحذر والتراجع عن تنفيذ خطة الإصلاح، لأن ارتفاع الأسعار سيكون غير مسبوق، وثمة موجة ضخمة عاتية فى انتظار المصريين، وبالنسبة له كل الدول مرت بهذه الخطوة القاسية حتى تعبر باقتصادها إلى شاطئ الأمان والاستقرار،

وفى نفس الاتجاه، اتجاه الخوف والحذر، فإن ثمة تقارير سيادية تحذر من آثار تنفيذ الخطة على المواطن دون إحكام الرقابة وتوفير بدائل، أما تنفيذ الخطة أو الإجراءات فقط، فقد تحدث عواقب وكوارث.


3- خطة الإصلاح

هذه الخطة أو الإجراءات نشرتها منذ أسابيع، وعرضها محافظ البنك المركزى فى اجتماع اللجنة الاقتصادية، هذه الخطة المتكاملة تتضمن تخفيض الجنيه وطرح أصول فى البورصة المصرية أو العالمية، هذه الأصول هى نسب تتراوح من 20% إلى 25% من بعض شركات قطاع الأعمال خاصة البترول، وطرح أسهم بنفس النسبة فى بنكى القاهرة والبنك العربى الإفريقى، أحدهما حكومى والآخر يشارك فيه البنك المركزى بـ50%، وطرح رخصة البنك المتحد المملوك للمركزى على الأجانب، ومن بين إجراءات الخطة تفعيل خفض الدعم على المواد البترولية، وإقرار ضريبة القيمة المضافة بدلاً من ضريبة المبيعات، وإصلاحات ضريبية وتشريعية لجذب الاستثمار، ومعظم بنود هذه الخطة تتفق مع توجهات أو شروط صندوق النقد للحصول على القرض.

ويبدو أن الحكومة، أو بالأدق معظم وزراء المجموعة الاقتصادية لم تأخذ هذه الخطة بجدية خاصة إصلاح مناخ الاستثمار لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وحتى جذب استثمارات بالبورصة من خلال شركات قطاع الأعمال تأخرت فيه، فبعد سبعة أشهر من طرح الرئيس فكرة البيع بالبورصة أعلنت وزيرة الاستثمار داليا خورشيد عن اختيار شركة سى آى كابيتال لدراسات طرح أسهم الشركات فى البورصة، وبهذا المعدل البطىء جدًا، فإن الطرح لن يتم فى هذا العام من أساسه.

البطء أو الشلل لا يشمل طرح الشركات فى البورصة فقط، ولكن الأهم والأخطر هو البطء فى إعادة هيكلة الاقتصاد المصرى، وهذا الملف يتقاطع مباشرة مع أزمة الدولار، ففى الاجتماعات الأولى للمجلس التنسيقى بين الحكومة والبنك المركزى ظهرت خطة طموحة لإعادة هيكلة الاقتصاد، بحيث تدعم الحكومة الصناعات الصغيرة والمتوسطة فى السلع التى نستوردها من الخارج، وبشكل خاص فى الصناعة، وبالطبع تنفيذ اعادة الهيكلة يتطلب عملاً سريعًا وجادًا من وزارة الصناعة، من الإجراءات أيضا ما يخص التجارة الخارجية وحزمة الجمارك ومنع استيراد بعض السلع الترفيهية، دون تنفيذ سريع للخطة سيظل الدولار أهم سلعة للاتجار، وليس مجرد عملة لشراء السلع والخدمات.


4- سوق بلا ضوابط

لم يتحول الدولار لسلعة فقط، لكن سوق الدولار بلا ضوابط أو محددات، والأسعار التى تعلن عنه كل يوم بل كل ساعة معظمها إما شائعات أو عمليات صغيرة، فمع انتظار التعويم أو التخفيض الكل يحتفظ بدولاراته انتظارًا للجائزة الكبرى والمكاسب الوفيرة، وهذا الوضع فى حد ذاته يساهم فى رفع سعر الدولار، وما إن تتم عمليات بيع صغيرة وضرورية بأسعار مرتفعة حتى يزعم البعض أن هذا سعر السوق، ويقف بعض كبار التجار وراء شائعات رفع السعر، لأن السعر المرتفع للدولار فى السوق السوداء يبرر للتجار رفع أسعار السلع بحجة ارتفاع سعر الدولار، من بين عجائب السوق أن سعر الفئات الأعلى للدولار أغلى من الفئات الأصغر فى الدولار، لأن الفئات الصغيرة 5 أو 10 أو عشرين دولارًا يصعب تهريبها فى حقائب خارج مصر، وكل ذلك يلعب ضد الاقتصاد المصرى، بل إن العقارات والذهب تراجعا كمخزن للقيمة أمام الدولار الذى يحقق الآن «وفى مصر فقط» مكاسب أعلى من كل من العقارات والذهب.


5- رد الفعل

قبل أن أنهى مقالى صدر بيان المجموعة الوزارية يوم الثلاثاء وأخيرا أعلنت الحكومة عن طلب قرض الصندوق بـ7 مليارات على 3 سنوات، وإصدار سندات دولية فى السوق العالمى، و هذه هى المرة الأولى التى تقر الحكومة رسميا بطلب قرض الصندوق، وهو الخبر الذى انفردنا بنشره منذ 3 أشهر وقد اعترفت الحكومة بأنها بدأت المفاوضات مع الصندوق منذ 3 أشهر.

فى البيان كلام عن بدء استكمال منظومة الطاقة، وهى جملة مهذبة للتعبير عن رفع الدعم، وأعاد البيان الكلام المكرر طرح أسهم عدد من الشركات المملوكة للدولة فى البورصة، وكلام كتير عن الإصلاح وقانون القيمة المضافة.

ولكن البيان خلا من أى إشارة أو أمارة ينتظرها السوق، كالمعتاد لم يتطرق البيان إلى موقف الحكومة أو الدولة من تعويم أو تخفيض الجنيه، ربما تصورت الحكومة أن الحديث عن مليارات صندوق النقد وطرح سندات دولارية هو إجابة عن السؤال، لكن أعتقد أن المجموعة الوزارية الاقتصادية بها خبرات تعلم أن هذا الإعلان محدود الأثر، وأن هذا البيان سيهدئ فقط من جنون سوق الدولار السوداء، ولكن دون إجابة جادة وحاسمة عن الموقف من الجنيه أو الدولار لم يستقر السوق، وإن كنت قد بدأت حديثى بشعر عبدالرحمن الشرقاوى، فأفضل نهاية هى إهداء بعض من أبيات لنزار للحكومة، من قصيدة «اختارى»

«إنى خيرتك فاختارى، ما بين الموت على صدرى أو فوق دفاتر أشعارى، فجبن ألا تختارى، لا توجد منطقة وسطى بين الجنة والنار، ارمى أوراقك كاملة، وسأرضى عن أى قرار، قولى انفعلى انفجرى، لا تقفى مثل المسمار».