كلكنّ بطلات

الفجر الطبي

كلكنّ بطلات
كلكنّ بطلات


"تذكرت كلام أمي: إذا كنتُ محل البطلة ماذا كنت سأفعل؟ شعرتُ بالضغط الذي تواجه بطلات القصص، فعليهنّ اتخاذ قرارات مصيرية"

كصحفية ومدرّبة على أساليب الحكي، لم يخطر على بالي إلا وسيلة واحدة لرواية قصتي على طريقتي؛ سأبدأ بالتمهيد ومدخل للقصة ثم العقدة وما بعد ذلك، مع الإشارة إلى أنها ليست قصة إنجاز و صعود، بل قصة سقوط لامرأة عادية جدا.

كنتُ في العاشرة من عمري عندما أهداني والدي أنا وأختي الكبرى عجلة (دراجة) أنيقة. بعد إجادتي ركوبها، وفي إحدى زياراتنا لجدتي في القرية،  أراد والدي التباهي بمهاراتي في ركوب الدراجة، فحدث أن ارتبكت وسقطت. وبخني والدي بعنف. ركضتُ إلى والدتي مستنجدة وباكية، وأنا أشعر بإحراج العالم كله لأنني أخجلت نفسي ووالدي. هوّنت أمي عليّ الموقف قائلة: "افترضي أنك تقرئين ما حدث لكِ في قصة، كيف كنت تودين أن تتصرف البطلة؟" أربكني السؤال، ولكنني أجبت بسرعة: "البطلات لا يسقطن". ولكنها أجابتني: "البطلات هنّ من يسقطن، ولكن يواجهن سقوطهنّ ويستطعن السير مجدداً والاستمرار، فهنّ لا يخشين ما سوف يقوله الناس عنهنّ".

تصاعد الأحداث
التحقت بكلية الهندسة بناء على رغبة والدي، ودخلت قسم ميكانيكا ضد رغبة والدي. لم أحب الدراسة. كنت طالبة فاشلة دراسياً، ولكنني أحببت تصليح السيارات و تنظيف تيل الفرامل و ضبط التاكيهات وترصيص الزوايا. عندما وصلت للسنة النهائية، أدركت أنني لم أرغب ابداً ان أكون مهندسة، ولكني كنت عنصراً فاعلاً في نشاط الجوالة في الجامعة. حاولت آنذاك تعلّم القفز بالمظلات، ولكنني علمت بتوقفه في الإسكندرية.

العقدة
تذكرت كلام أمي: إذا كنتُ محل البطلة ماذا كنت سأفعل؟ شعرتُ بالضغط الذي تواجه بطلات القصص، فعليهنّ اتخاذ قرارات مصيرية. شجعتني أختي الكبرى، و لأول مرة، قررت ان أسند دور البطولة الى نفسي. تركت الهندسة متسلحة بمهارة إنسانية واحدة: أنني متحدثة لبقة. قررت مواجهة المجهول.

لم يكن الأمر سهلاً، ولكن بطلات أخريات دعمن قراري. عملت فى مجال بيع المنتجات الطبية  وحققت نتائج مذهلة، ثم عملت في مجال السياحة كمسئولة عن الملف الناطق بالألمانية نظراَ لإجادتي اللغة الألمانية بطلاقة حتي ترقيت لدرجة مديرة.

في هذا الوقت من العمر، كنت أودّ التعرف على العالم، ولكن ما حدث هو أن العالم أتى إليّ، و أعاد عملي مع جنسيات من كل انحاء العالم تشكيل شخصيتي تماماً. أدركت أن النساء تجمعهنّ نفس الجذور على مستوى العالم، وأنّ الاختلاف يكمن في البيئة التي تنمو كل واحدة فيها.

في ذلك الوقت، تعرفت أكثر على نفسي، وبدأت الكلمة تتشكل بداخل روحي ووعيي: (أنا أقدر). لم أعد خائفة مما سيحدث بعد، وتحول المجهول إلى مغامرة. هنا تبدأ القصة فى أخذ منحى جديد. فالبطلة – بدأت- لا تخاف أن تكون نفسها.

لأول مرة، أصبحت أقود البيتش باجي فى الطرق الجبلية الوعرة فى الليل، واجهت خوفي من الماء، وتعلّمت الغطس. عرفت أن الغطس هو أن تترك نفسك للغرق والسقوط بانسيابية. تعلمت الذهاب لرحلات لمراقبة النجوم وتسلّق الجبال مع أصدقاء أجانب. وبرغم الانزلاق والسقوط كمتسلقة ساذجة ومبتدئة، كنت سعيدة أنني أتعلم خبرة جديدة، ودائماً أُذكّر نفسي أن البطلات هنّ من يسقطن ويعاودن الصعود!

خلال تلك السنوات، أدركت أن شغفي الأول هو الصحافة والإذاعة، ولذا قمت بدراسة الإعلام والعمل بالقطعة مع الصحف بالتوازي مع عملي بالسياحة حتى استطعت التفرّغ التام للصحافة.

تزامن ذلك مع معرفتي بمكان لتدريب القفز بالمظلات. كنت البنت الوحيدة فى هذه المجموعة والأكبر سناً بينهم. كانت تمارين القفز موترة للوهلة الأولي، و خروجاً جديداً من منطقة الراحة، عودة (للتنطيط). وأهم ما يجب تعلّمه فى التدريب ويشدد عليه المدرب هو (السقطة)، أي كيف تسقط بدون إيذاء نفسك، وكيفية تعلم قواعد السقوط ، بعد انقضاء فترة التدريب لابد من القيام بقفزة البرج في نادي الجلاء بالقاهرة .

هل وقفت على حافة الشرفة فى الدور الرابع من قبل، ثم قفزت في الهواء بقوة وثقة؟ هذا ما يحدث بالضبط فى هذه القفزة (قفزة البرج) كما يسمونها، وعليك تكرارها ثلاث مرات، حتي يتأكد المدرب من أنك (تقدر). لم يكن الأمر بالنسبة لي اختبار قفزة ثقة للمظلات، ولكن قفزة ثقة لكل ما تعلمته خلال السنوات الماضية، وهو اختبار قدرتي على الوقوف على الحافة والقفز. في لحظة وقوفي على الحافة للمرة الأولى واستعدادي للقفز أدركت أن ما يخيفني ليس القفز ولكن السقوط، ولكن كلمات أمي كانت تهمس في أذني في كل مرة.

بدايات جديدة
 أود أن أشير إلى أن أهم ما تعلمته هو أننا اذا وضعنا أنفسنا كأبطال، ولم نرضَ عن تصرفات البطلة، يمكننا دوماً إضافة بعض التفاصيل وإدخال بعض المتغيرات. ربما التعرّف على اشخاص جدد، أماكن جديدة، فعل تصرف جديد. الأهم هو إعادة التعرّف على نفسك حتي تحبي بطلة قصتك. ينبغي ألا نخشى السقوط بل نطور مهاراتنا فى تعلّم كيفية السقوط بدون خسائر. 

تخبرني صديقتي ضاحكة انني أشبه بطل الفيلم الذي كان يردّد:" مش يمكن لمَّا أجرب أطلع بعرف!" وأنني حولت حياتي لتجربة كبيرة.

أهم ما تعلمته فى فن الكتابة أن السيناريو الناجح هو الذي يجعلك تتساءل ماذا سيحدث بعد. أما إذا كانت القصة نهايتها متوقعة، فهي تفقد جاذبيتها. لذا فالنهاية مفتوحة في هذه القصة: ما سيحدث بعد ذلك سأعرفه في السنوات القادمة. ولن يكون ما سيحدث نهاية، بل بداية جديدة في كل مرة، الثيمة الرئيسية لها هي: سأسقط وأعاود النهوض.