عادل حمودة يكتب: ضريبة وأنا سيدك

مقالات الرأي



■ حكومة مفلسة لكنها لا تفتش فى مليارات دفاترها القديمة

■ كثير من التشريعات التى تحكم العالم تحتاج مصحة نفسية لعلاجها من الجنون


فى فرنسا يمنع القانون الزواج من الأموات.. وفى ماليزيا يجرم القانون ارتداء ملابس صفراء.. وفى فينسيا يسجن من يطعم الحمام.. وفى أستراليا لا يسمح للقاصر بممارسة الجنس إلا فى حضور ولى الأمر.. وفى تايلاند يعاقب من يخرج من بيته دون ملابس داخلية.. وفى مصر يعد «الصويت» فى الجنازات جريمة عقابها غرامة مالية.

لكن.. لا أتصور قاضيا واحدا حكم ضد امرأة لأنها صوتت فى جنازة.. فالتشريع هجره العقل قبل أن تهجره المحاضر والمحاكم.

على أن فى قانون العقوبات مادة مثيرة للدهشة تحرم على الزوج سماع دعوى زنى ضد زوجته إذا سبق له أن زنى فى مسكن الزوجية.

وفى قانون الضريبة العقارية تعفى منها المساكن غير منتهية التشطيب دون وضع حد أقصى لمدة التشطيب ودون تحديد ما هو الحد الأدنى للتشطيب الذى يلغى الإعفاء.

إن من السهل فى مصر إصدار التشريعات.. تشريعاتنا سريعة التحضير.. لكنها.. صعبة التنفيذ.. ويمكن دون مجهود يذكر التحايل عليها.. والتهرب منها.. وفى الوقت نفسه تصدم الحكومة فى توقعاتها ونتائجها.

لقد قدرت الحكومة عائد الضرائب العقارية فى الميزانية التى وافق عليها مجلس النواب بتسعة مليارات جنيه.. لكن.. ما جمع منها حتى الآن لا يزيد على 450 مليون جنيه.. ومهما كان الاجتهاد فى التحصيل فإن نهاية عام الميزانية لن يأتى فى أفضل الأحوال بأكثر من نصف المتوقع.

وكنت أتوقع أن يحفز محصلو الضريبة العقارية الناس على دفعها.. لكن.. أول ما يقترحونه على كل من يأتى إليهم هو أن يطعن على تقدير الضريبة.. ويؤجل الدفع إلى ما بعد الطعن الذى غالبا ما يأخذ شهورا طويلة قبل النظر فيه.. ربما.. يكون القانون نفسه قد تغير.

ويبدو.. أن حماس موظفى الضريبة العقارية لكثرة الطعون سيعود عليهم بمكافآت أكبر لتعدد لجان الطعون.. خاصة أن كل ما يتحمله الطاعن لا يزيد على 55 جنيها.. وهو مبلغ لم تعد قيمته تذكر بالنسبة لأصحاب العقارات التى قدرت بيوتهم بملايين.

ولا يزال موظفو التحصيل يعتمدون على دفاتر عريضة.. لا تجد المساحة الكافية لها عند فتحها فى حجرات ضيقة.. تزدحم بالمحصلين.. ويندر وجود مقاعد للجمهور الذى جاء لسداد الضريبة.. كما أن بعض المأموريات تقع فى أدوار عليا فى مبان بلا مصاعد.. تقطع أنفاس من يصل إليها.. فالحكومة لا تملك سوى القهر فى الحصول على ما تريد.. ضريبة وأنا سيدك.. والمواطن مجبر على الرضوخ.. فليس أمامه سبيل آخر سوى الشكوى لسيدنا الحسين أو السيدة العذراء.

وأتصور أن الموقف نفسه سيتكرر عن تطبيق قانون القيمة المضافة.. ستحلم الحكومة بمئات المليارات.. لكنها.. ستصحو على وهم الحصول عليها.

أما السبب فهو أن التشريعات تخرج من مجلس النواب دون لائحة تنفيذية.. اللائحة التنفيذية تترك للجهاز البيروقراطى الذى يضعها على هواه.. ويفسرها حسب فهمه.. كما أن كثيرًا من المواد القانونية تبدو غامضة وعصية على التفسير.

وقد استمعت لملاحظات منطقية على قانون الضرائب العقارية من المأمورين المكلفين بتحصيلها.. لكن.. لا أحد استمع إلى وجهات نظرهم قبل إقرار القانون فى زمن الإخوان الذين لم يتلقوا الخبرة الكافية فخرج القانون مصابا بشلل الأطفال يحتاج لأطراف صناعية كى يقدر على الحركة.

والأهم.. أن فى دفاتر الحكومة مليارات لا تعرف كيف تجمعها.. ولو جمعتها.. ربما لا تحتاج إلى فرض ضرائب جديدة.. تشوه سمعتها.. وتهدد شعبيتها.

هناك على سبيل المثال الغرامات التى تفرضها المحاكم فى القضايا التى تنتهى منها.. وفى تقدير وزارة العدل أن المتأخر منها لا يقل عن سبعة مليارات جنيه.. لم تحصل منها أكثر من 350 مليون جنيه.. أما السبب فهو أن أسلوب التحصيل لا يزال يعتمد على المحضر الذى يطرق الباب طالبا السداد.. وغالبا ما يجد المسكن مغلقا رغم وجود أهله فى داخله.. فمن السهل تضليله من البواب.. أو الحارس.

وفى بعض القضايا التى تنتهى منها المحاكم الاقتصادية قد يصل المبلغ المطلوب تحصيله إلى 50 مليون جنيه.. وربما يزيد إلى المائة.. ويكفى أن يقنع رجل الأعمال المحضر أحيانا بترك السداد سنتين أو ثلاث سنوات مقابل أن يتقاضى المحضر مبلغا من المال يصل إلى 50 أو 100 ألف جنيه.. وخلال تلك السنوات يستثمر رجل الأعمال مبلغ الغرامة.. ويسددها من الأرباح التى جناها.. أو على الأقل سداد جزء منها من تلك الأرباح.

هنا.. يكسب رجل الأعمال دون مجهود.. ويكسب المحضر دون تزوير.. فكل ما فعل هو أنه أجل المطالبة.. وتأجيل المطالبة أمر شائع فى البيروقراطية المصرية.. يصعب اكتشاف فساد أحد.. ولو كشف فلا عقاب أكثر من خصم يوم بسبب الإهمال.

وليس هناك حل لتلك الكارثة إلا برمجة الغرامات على الكمبيوتر.. وهو ما فكر فيه أحد مساعدى وزير العدل فى وقت سابق.

وضع مشروعا متكاملاً لتحصيل السبعة مليارات بأن توضع فى كل محكمة ثلاثة أجهزة كمبيوتر.. وكل ما نحتاجه وضع هذه الأجهزة فى 18 محكمة.. ليكون عدد الأجهزة المطلوبة 54 جهازًا.. ويرتفع العدد إلى 60 لو وضعنا فى الإدارة المختصة فى وزارة العدل ستة كمبيوترات أخرى لتكتمل الشبكة.. على أن ترتب كل محكمة أولويات سداد الغرامات فتبدأ بالأعلى (الغرامات التى تقدر بالملايين) وتنتهى بالأدنى (الغرامات التى تقدر بالجنيهات) خاصة أن مجهود المطالبة بالملايين هو نفس مجهود المطالبة بالجنيهات.

وحسب ما عرفت فإن تكلفة المشروع لم تكن لتزيد على ربع مليون جنيه.. ربع مليون جنيه يمكن أن تأتى بسبعة مليارات جنيه.. لكن.. الوزير أيامها لم يجد فى بنود الميزانية ما يسمح بشراء الكمبيوترات.. وراح يدلل على من يموله.. وتدخلت وزارة التنمية المحلية لتحصل على قيمة الكمبيوترات من جهة ما فى الجامعة العربية.. لكن.. وزارة التنمية المحلية اشترطت أن تشرف على تنفيذ المشروع وأن تحصل من وزارة العدل على جزء من نصيبها دون أن تقترب مما يذهب إلى وزارة المالية.

إنها البيروقراطية المصرية المزمنة التى جعلت من كل وزارة أو مؤسسة جزيرة معزولة عن غيرها.. وهى بيروقراطية نجحت فى القضاء على نظم حكم بدت لنا أكثر تماسكا وثباتا.. كما أنها أضاعت على الدولة كثيرًا من الأموال كان يمكن أن تغنى الحكومة عن الاقتراض وسوء السؤال.

على أن مشروع وزارة العدل انتهى إلى الفشل لسبب آخر أهم هو أن الموظفين يصعب عليهم وقد تجاوزوا سن الأربعين أن يستوعبوا تكنولوجيا الكمبيوتر.. وهو ما يعنى حكما بالإعدام على تطوير الجهاز الإدارى.

ولا شك أن هناك مليارات أخرى فى جهات حكومية متعددة تلقى نفس المصير.. ولاشك أن هناك موارد مادية فى كل مكان على خريطة البلاد مهملة رغم قيمتها التى تتجاوز مئات المليارات.

الحقيقة أن الحكومة لا تتشطر إلا على المواطن الذى يقع تحت ضرسها تستنزفه.. وتفتك به.. وتجعل منه صورة أخرى من إفلاسها.

والمؤكد.. أن ترك هذه الموارد ضائعة دون مجهود فى تنميتها وترك الغرامات مهملة دون مجهود فى تحصيلها جريمة فساد متكاملة الأركان.. لكن.. من يجرؤ على توجيه الاتهام إلى الحكومة؟.. من يجرؤ على رفع إصبعه فى وجهها.. وتعليق الجرس فى رقبتها؟

إننا أمة غنية.. لكن.. أغلب المسئولين لا يعرفون.. وإذا عرفوا لا يتحركون.. وإذا تحركوا لا يستوعبون.. وإذا استوعبوا لا ينجزون.