سليم الهواري يكتب: هل آتاك حديث الخال "فهمي عمر"

مقالات الرأي

سليم الهواري
سليم الهواري


يقول مفكر صيني: "أردت أن أحدث تغييرًا في العالم، وعندما كبرت قليلًا، اقتصر الحلم على مدينتي، وعندما رأيت الواقع، اقتصر الحلم على أفراد عائلتي".

وهذا ما أراده الخال فهمي عمر رئيس الإذاعة المصرية الأسبق، والأب الروحي لقبائل الهواره بصعيد مصر، بنى نفسه ومن ثم عائلته وأخيرًا قبيلته، حتى حُفر اسمه في لوحة شرف قبائل الهوارة، بداية بهمام سيبك وإلى همام ابن يوسف شيخ مشايخ الهواره، وأخيرًا الخال، مقدمًا ثمن لتلك المهام التي استنفذت منه عمره وحياته وفلذة كبده معًا، إلى أن انتصرت عليه الحياة ليقدم لها أثمن التضحيات، دون مقابل، إلا اسمه المخلد في دفاتر التاريخ وجدرانه.
ولد فهمي عمر في قرية الرئيسية بمركز نجع حمادي بمحافظة قنا في السادس من مارس عام ١٩٢٨، هو واحد من صفوة الإذاعيين الكبار الذين أقاموا صرح الإذاعة المصرية، اشتهر بلقب المذيع الصعيدي بسبب لهجته المحببة للقلوب، وحصل على ليسانس الحقوق عام ١٩٤٩، وتقدم لاختبارات الإذاعة المصرية، وتم تعينه في وظيفة مذيع خارج الميكروفون عام ١٩٥٠ بسبب لهجته الصعيدية، وفى صباح الثالث والعشرين من يوليه عام ١٩٥٢ فتح الإذاعي فهمي عمر الميكروفون لأحد ضباط الثورة المصرية، وهو أنور السادات (الرئيس الراحل) ليلقى أول بيان للثورة المصرية.

قدّم ثلاث حفلات لنجمة الغناء العربي أم كلثوم، وقدّم برنامج "ساعة لقلبك"، أشهر البرامج الإذاعية، والذي قدّم فيه عبد المنعم مدبولي وعبد المنعم إبراهيم وفؤاد المهندس ومحمد عوض وأمين الهنيدي، خيريه أحمد نبيلة السيد، ومحمد يوسف، وفؤاد راتب، وفرحات عمر، ويوسف عوف، وأحمد الحداد، أولئك الذين أصبحوا فيما بعد نجوم الكوميديا في مصر.

لم يقف مشوار فهمي عمر عند هذا الحد، بل قدّم أيضًا برنامج "مجلة الهواء"، أحد أشهر البرامج الإذاعية، وهو صاحب أول تعليق وتحليل لمباريات دوري كرة القدم في مصر قبل ظهور التليفزيون؛ فتميز بأسلوب شيق ورشيق في تقديم تحليل المباريات، وهو أيضًا المؤسس الحقيقي لإذاعة الشباب والرياضة، حيث قام بتغطية ست دورات أولمبية، وعُين رئيسًا للإذاعة المصرية عام ١٩٨٢، كما ترشح لعضوية مجلس الشعب وظل نائبا في البرلمان منذ عام ١٩٨٧ إلى عام ٢٠٠٠، فضلًا عن أنه كان عضوًا بمجلس إدارة نادي الزمالك، ورغم "زملكاويته"، إلا انه استطاع أن يكتسب حب الجميع بحياديته، إذ جمع كل عشاق كرة القدم حول ميكروفون الإذاعة، ولقُب بـ"شيخ الإعلاميين الرياضيين".

وببساطة لن أتناول قيمة الخال أو إنجازاته؛ فالكلمات أضعف من وصف معانيها، ولكن سأروى لكم قصة طفل لم يتجاوز عمره الخامسة عشر بعد، يرى الأهل والمقربين، وغيرهم يتحدثون عن الخال، يقولون في همس إنه قادم من القاهرة، سيأتي الأسبوع المقبل، وينتظره النواب والباشاوات وكبار العائلات الأخرى، نعم، فهو قادم والكل يتساءل عن قدومه، فما لهذا الطفل إلا أن ينتظر قدومه مثلهم ويتساءل فى خفوت: "لماذا كل هذه التساؤلات؟" (يأتي متى؟ هل سينتظره فردًا واحدًا؟ لما يكون حديث معظم المجالس في القرى يدور حول ذلك الشخص؟)، على أية حال سأنتظر الخال مثلهم لأرى ماذا سيحدث"، ولكن لم يتوقف الأمر على الانتظار، ولكن تخطى ذلك بنصائح والد الطفل وتعليماته التي لا تنتهي, عندما يأتي الخال اذهب وقبّل يديه فإنه كبير العائلة، وإن سألك عن شيء كن وقورًا في كلماتك، ولا تظهر بمظهر الطفل الصغير حتى لا يؤخذ عليك من كبار اليوم أنك من الصاغرين، وهنا فقط يقرر الطفل الاستعداد كليا للقاء الخال، شأنه شأن غيره من ناس قريته.

لم يدرك الطفل الصغير لماذا عليه لقاء الخال، ولكن وما العتب، فدائما ينصاع الأطفال إلى رغبات الكبار والسير معهم لأنهم على صواب، وانتظر ذلك الطفل شقي القلب، الخال القادم من القاهرة، وظل يراجع التنبيهات جيدا التي أملاها عليه كبار قومه في محاولات منهم لإظهار محبتهم للخال واحترامهم له في تعليم الصغير أدبيات التعامل مع الخال، فلا تدخل لتلقى السلام إلا وهو صامت عن الحديث، ولا تنسى أن تُقبل يديه حين تصافحه، وأياك والنظر إليه نظرات حادة، لا تكن فظًا في كلامك معه، ولا تجيب إلا ما عن ما يسأل عنه، كن حسن المظهر، وأن طلب منك الجلوس تأدب في مجلسك.. وهكذا أعد الصغير العدة، ليس خوفا ورهبه، ولكن ليفوز وحده دون أقرانه من الصغار بحسن استقبال الخال.

هكذا تربى جيل من الصغار في تلك القرية الصغيرة الكامنة في حضن الصعيد على معاملة فارس الإذاعة المصرية، وكبير عائلته وزعيمهم، لقد وضع فهمي عمر أساسًا لمعظم العائلات الصغيرة في تلك القرى، فبدلا من وجود شخص تجد أكبر همومه لا تساوي شيئا، تحول إلى وكيل للنائب العام، أو ضابط أو مهندس، لمجرد أنه رأى ما تفعله كبار القوم وهم في حضرة الخال، لقد جعل هذا الرجل التنافس بين الأطفال قبل الكبار، في انتزاع مكانة لهم بين المجتمع المصري، ليس لحيازته مركز مرموق في الدولة، ولكن لأنه صبح رمز يحتذى به، وتسير على دربه أجيال منذ صغرها، والطريف أن ذلك الصغير حين اكتملت لديه مراحل الشباب الأخيرة، لم ير في تقبيل رأس الخال مانع بجوار يديه، فقد علم لما كان يفعل ذلك في صغره .