عبدالرحمن سليم يكتب: «الباشا» موظف مدني

مقالات الرأي

عبد الرحمن سليم
عبد الرحمن سليم


لفنجان قهوة آخر اليوم، قدرة حقيقية على الانفصال عن ذلك العالم الممل، خصوصًا لو تناولته في أحد مقاهى وسط القاهرة، فتداخل صوت أم كلثوم مع احتضان غروب الشمس لمياه النيل ساحر.. هذا ما فعلته، حاولت فقط الانفصال للحظات عن عالمي، الذي صبغه عملي كصحفي بالكآبة، فالانخراط في تفاصيل معاناة الناس أمر مرهق.

تذوقت قهوتي باستمتاع مفرط، فأبى تليفوني ذلك، وكالعادة نسيت أن أغلقه لنصف ساعة فقط -فترة وجودي بالمقهى-، ماذا أفعل؟ الرقم غريب لكنه مميز جدًا، سأرد:

- ألو

- أستاذ عبدالرحمن سليم

- أيوة يا فندم مع حضرتك

- أنا فلان الفلاني من طرف فلان

- أه يا فندم.. تحت أمرك

- أنا بقالي أسبوع دايخ علشان أعمل فيش وتشبيه 

- أسبوع علشان إيه.. ليه عليك أحكام جنائية؟

- لاء خالص والله، بس مواعيد الموظفين مش تمام، طيب بص، حضرتك فين وأنا أجيلك؟.. أنا جنب الجرنال اللي أنت شغال فيه

- لاء أنا مشيت من الجرنال.. تعالى لي التحرير، أنا قاعد في قهوة كذا.

انتهت المكالمة وبعد أقل من 10 دقائق وصل الرجل، وبدأ في شرح الأمر، قال: أنا متقدم لوظيفة في شركة قطاع خاص، وزي ما انت عارف لازم أجهز فيش وتشبيه حديث، وبقالي أسبوع مش عارف أطلعه، مرة رُحت قسم الشرطة التابع ليه طلع ما فيهوش فيش كومبيوتر، فبعتني لقسم تاني، وصلت هناك حوالي الساعة 1:30 الضهر قالولي شطبنا عدي علينا بكرة.

فضلت على الحال ده يومين أروح القسم الساعة 1 أو 1:30 ألاقيهم بيقفلوا ويقولوا لي عدي علينا بكرة، قررت أروح أعمل الفيش في أي قسم تاني غير ده، فوجئت بإني لازم أعمل الفيش في القسم اللي البطاقة بتاعتي تابعة ليه، مثلا بطاقتي صادرة من المنصورة وأنا نقلت القاهرة من سنة، ولأني ما غيرتش البطاقة على العنوان الجديد لازم أطلع الفيش من المنصورة.. طب ده كلام؟، ورغم كده رُحت، لكن فوجئت بإن الموظفين بيشطبوا الساعة 1:30.

انتهى كلام الرجل، استوعبت ما قاله، فقررت البحث في الأمر لأقف على حقيقة ما يدعيه، مررت على أكثر من قسم شرطة داخل القاهرة والجيزة؛ لاستخراج صحيفة الحالة الجنائية -الفيش والتشبيه- الخاصة بي، ذهبت في المواعيد التي ذكرها الرجل في الفترة من الساعة 1 حتى 1:30 ظهرًا، فوجدت تكدسًا كبيرًا في وحدات استخراج الـ«فيش والتشبيه» بأغلب أقسام الشرطة، فقررت الذهاب في الساعة الـ8 صباحًا، فهذا هو الموعد الرسمي لبداية أعمال الموظفين الحكوميين.. في محاولة مني لحضور المشهد كاملا.

راقبت ما يحدث في كل قسم باهتمام، وجدته واحدًا وكأنه يتم بتعليمات للجميع، فوحدات استخراج صحيفة الحالة الجنائية بجميع الأقسام التي مررت عليها عشوائيًا تبدأ العمل في الـ9 صباحًا تقريبًا، رغم فتح أبوابها منذ الـ8 صباحًا، وتضم كل وحدة موظفين مدنيين، أحدهما لأخذ بيانات المواطنين وتصويرهم بالكومبيوتر، والثاني لتسليم «الفيش» المستخرج، والوقت بين طلب استخراج الفيش واستلامه 24 ساعة فقط، وبالإضافة إلى الموظفين المدنيين يوجد شرطي مسلح، يتولى التنظيم والحماية، وتسليم طلبات المواطنين باستخراج الفيش في أخر اليوم للقسم، والعكس.

الغريب أن المواطنين أنفسهم هم من يتولون عملية التنظيم، فالشرطي يقول للجميع: «كل 10 يجمعوا بطايقهم ويشكلوا مجموعة، علشان الدخول بالدور، أول مجموعة ثم الثانية والثالثة وهكذا»، ظل الأمر هكذا حتى الساعة الـ1 ظهرًا، فإذا بالشرطي يطلب من المواطنين عدم تجميع مجموعات أخرى لأن الوحدة تنهي أعمالها يوميًا في الساعة الـ2 ظهرًا، وبالتالي كل مواطن يأتي بعد الساعة 1 يقال له «عدي علينا بكرة»، رغم إلزام الدستور لكل موظفي الحكومة بالعمل يوميًا 8 ساعات كاملة، تبدأ في الـ8 صباحًا وتنتهي في الـ4 عصرًا.

ذهبت إلى قسم الشرطة الذي يتبعه محل سكني وطلبت استخراج «فيش»، وعدت في اليوم التالي لاستلامه حوالي الساعة 2:10 ظهرًا، تعمدت الوصول بعد الموعد الذي تغلق في الوحدة أبوابها، فوجدت الأبواب مغلقة بالفعل، طرقت الباب بقوة، فرد علي مجهول من الداخل: هو انت مش شايف الباب مقفول؟.. عدي علينا بكرة، فقُلت له: أنا جاي أستلم الفيش بتاعي، فأجاب: قفلنا، احتديت عليه وقُلت: الساعة لسه 2.

يبدو أن جملتي الأخيرة استفزته، ففتح الباب ليقول لي: مش قولتلك قفلنا، اتفضل امشي وتعالى بكرة استلم فيشك، قُلت له: هاستلم النهارده طالما مواعيد العمل الرسمية ما خلصتش، فأقسم الموظف لي بالله أنه لن يسلمني «الفيش» اليوم، سألته: هو الباشا مأمور القسم؟ -رغم معرفتي الشخصية بالمأمور-، فرد بـ«عنجهية»: لاء الباشا موظف مدني، قُلت له: جهز الفيش بتاعي، 5 دقايق وهيجيلك عسكري المأمور تسلمه له، فابتسم الموظف لي بسخرية.

ذهبت إلى مكتب مأمور القسم وأبلغت العسكري برغبتي في مقابلة المأمور، وأخرجت له الكارنيه الصحفي الخاص بي، وبعد استئذان المأمور دخلت وقصصت له ما حدث كاملا، فتفهم الأمر وأرسل في طلب الفيش الخاص بي، ووعد بحل هذا الأمر، وإعادة الانضباط في المواعيد بوحدة استخراج صحيفة الحالة الجنائية بالقسم، هذا في قسم شرطة واحد، فماذا عن إعادة الانضباط في المواعيد لباقي وحدات استخراج «الفيش والتشبيه» بباقي أقسام شرطة جمهورية مصر العربية؟