شيماء أحمد تكتب: حكايات "عسافية" على بحر غزة (العودة)

الفجر الفني

محمد عساف
محمد عساف


يقف حائرًا أمام الحدود، ينظر إلى بلاده عبر حاجز صغير، يلتفت حوله فيجد علامات الحزن والأسى ترتسم على وجوه أُناس يحسبهم غريبين ولكن إذا تمعن فيهم النظر يجدهم قريبين منه حد الدم، ملامحهم تشبهه نظراتهم تبرز مدى الأسى في قلوبهم، ينتظرون دورهم ليعبروا إلى بلاد يعيشون فيها كالغرباء، ينظر حوله يجد أن ملامح البلاد قد تغيرت، أين أنا ياتُرى؟ أليس هذا معبر بيت حانون؟ نعم يا أخي ولكنهم يطلقون عليه الآن "إيريز"!.. أنظر حولك هل تجد أي شئِ عربيِ غيرنا؟ وهنا يكون الصمت أبلغ من الكلام، نعم الكل من حولنا تنفر منا حتى أسماء البلاد تغيرت.

 

هذه زيارة خيالية اكتبها كما تخيلتها من سرد الفنان محمد عساف لتفاصيل زياراته الدائمة لقطاع غزة، وذلك خلال لقائي به في زيارته الأخيرة للقاهرة.

 

أدخل إلى بلادي مثل الغريب في نهار يشبه في كآبته الليل الحزين، أنظر إلى أرض العزة غزة الأبية فتترقرق دموعي على فراقها "رُغماً عني يا فاتنتي" فلولا الاحتلال ماكُنت منكِ خرجت فأنا أشتاق إليكِ وأنا فيكِ، استنشق هواءكي النقي بقوة ليضمد الجراح التي في صدري وأغلق عليه بذراعي لكي يظَل محفوظاً بقلبي.

 

أمر بالسيارة وأجوب الشوارع التي غاصت فيها الآلام وكَثٌرت فيها الأحلام لأرى البيوت المُهدمة من أثر القصف، تشير إلى أطفال يلعبون بالحجارة وتحدثني هل تتذكر؟ نعم أتذكر طفولتي المسلوبة، أتذكر المخيم والحصار، كل بيت أكلتَ فيه وبعد ساعات صار حُطام، كل صديق لَعبتُ معه وفي الصباح التالي ودعناه عريساً إلى السماء، لم يكن في مخيلتي أبداً أنني سأتذكر بيت تميم البرغوثي في قصيدة "القدس".

 

"أحسبت أن زيارة ستزيح عن وجه المدينة يابني حجاب واقعها السميك، لكي ترى فيها هواك !

هناك كل فتى سواك

وهي الغزالة في المدى .. حكم الزمان ببينها

مازلت تركض خلفها .. مذ ودعتك بعينها

فارفق بنفسك ساعة .. اني أراك وهنت

 

وفي طريقي إلى منزل عائلتي أقف عند ميناء غزة أتحدث مع الأمواج، نعم أنا "محمد عساف" الذي خرج من رحم المعاناة، الذي هز بصوته أوتار القلوب فأصبح نجماً بفضلك يامحبوبتي، أنا ابن المخيم الذي لطالما حَلُم بالغناء وتعلمين أن الأحلام لدينا مقصوفة أعمارها متى وُلدت ومُعلقة في أرجل الطير يجوب بها السماء، مُحرم عليها أن تلمس الأرض وكأننا وُلِدنا للأحلام والتحقيق فناء.

 

عُدت إليكِ يا غزة بعد رحلة طويلة أُثبت فيها للعالم أن الفلسطيني عز الرجال، في الصباح يكدح ويعمل من أجل لقمة العيش وبالحجارة يقاتل الأعداء، وفي الليل بين الأصدقاء في جلسة سمر يتحدث عن البناء.

 

نعم أنا عساف الذي شاءت الأقدار أن يتحدث عنه الجميع ولكني أرى الجميع فيكي يا غزة، أشتاق لحضنكِ الدافئ وجلسة على البحر في ليالي الشتاء الباردة مع الأصدقاء نغني ونرسم الأحلام، كان في مخيلتي أنني سأصبح موظفاً أعود للمنزل فأجد زوجتي تنتظرني بابتسامتها الساحرة وأطفالي يقفون في الشرفة يُلوحوا لي بعد يوم عمل شاق، ولكن القدر رسم لي طريقاً مختلفاً، جعلني بصوتي حاملاً للقضية ومرسالاً إلى العالم بأكمله وكل هذا بفضلك يا أرض الأنبياء.

 

وفور وصولي للمنزل أرتمي في حضن أمي الدافئ الذي فيه بدايتي ونهايتي، أجدها تُحضر لي ما لذ وطاب من الأطعمة، آآآه يا أمي لو تعلمين كيف اشتقت للسحر الذي يخرج من بين أيديكِ فالطعام لدينا ليس إشباع للبطون ولكنه يعبر عن هويتنا الفلسطينية، فالزيت والزعتر في الصباح كفيل بأن يجعلني أُحلق في السماء.

 

أجلس بين إخوتي و أتذكر طفولتي وصباي، هنا لَعبنا وضَحكنا، وهنا تشاجرنا وبكينا، ولكني الآن بعيد  ، غُربتي هي سر قيودي، بت أكتب يومياتي بعيداً عن هذا الدار، يأتي الكل ليراني وأريد أن أرى الكل ولكني من الوقت مابت أملك إلا القليل، عذراً يا أهلي ويا أصدقائي فلتحقيق الحُلم أثمان، لقد اشتقت إلى جلستي معكم دون أي مراد فقط الحب يجمع بيننا وهو خير رباط.

 

سأعود لكم من جديد، سأعود لكِ ياغزة في يوم سماؤه صافية تضحك فيه الشمس على الغيوم، سأعود لأجدد الذكريات وأرسم الأحلام، فإلى لقاء قريبِ !


لقراءة الجزء الثاني حكايات "عسافية" على بحر غزة (الحارة)

اضغط هنــــــــــــــــا