طارق الشناوي يكتب: أنا والنجوم.. السينما المصرية الشابة تكتب شهادة ميلادها في "دبي"!!

الفجر الفني

بوابة الفجر


في عز أحزان الوطن، لم يكن ممكنا تجاهل رحيل كاتبا استثنائيا وفنانة لا تنسى، وفنان أثبت أن النجومية ليست بمساحة الدور .

غيب الموت الكاتب الكبير محمود أبوزيد، ثم الفنانة الكبيرة المعتزلة زبيدة ثروت، وقبل ساعات جاءنا خبر الرحيل المفاجئ لأحمد راتب في عز عطائه فلم يغادر الميدان.

سيتذكر الناس لأبوزيد الكثير من أفلامه وعلى رأسها "العار" و"الكيف" و"جرى الوحوش"، كان كاتبنا الكبير دائما ما يضع أمامه قيمة أخلاقية يدافع عنها دراميا، وفي نفس الوقت امتلك قدرة على الجذب الجماهيري خاصة في انتقاء جمل الحوار، التي جعلته دائما على موجة الناس .

آخر لقاء جمعنا قبل أسابيع قليلة في حوار مع الإعلامية لميس الحديدي والمخرج على عبدالخالق في حلقة عن محمود عبدالعزيز، كنت أعتقد حتى تلك اللحظات أن الإيفيهات التي تناثرت في أفلامه من فرط ترديدها شعبيا أنه استقاها من الفولكلور الشعبي، ومن ذاكرة الناس الجماعية وأمثالهم القديمة، وسألته فاكتشفت أنه هو الذي صدرها للجماهير ورددوها بعده، وأشهرها عن الحشيش ((إذا كان حلال أدينا بنشربه.. وإذا كان حرام أدينا بنحرقه))، في السنوات العشر الأخيرة مثل أغلب أبناء جيله من النجوم والكتاب والمخرجين، ابتعد أبوزيد عن المشهد ولكن ظل له حضوره على الشاشات التليفزيونية برصيده، الذي سيمكث طويلا كاتبنا الكبير كلما شاهدنا على الشاشة واحدا من أفلامه ستقول على الفور هذا فيلم أبوزيد، فهو من الكتاب القلائل الذين يتمتعون بمذاق خاص ونادر في الحوار بل ويفرض وجوده ككاتب للنص في الشريط السينمائي، لا يمكن بعد أن تشاهد الفيلم سوى أن تقول إنه فيلم محمود أبوزيد، قال لي في لقائنا الأخير إنه لم يترك أبدا القلم وكتب أكثر من سيناريو في درج مكتبه تنتظر لحظة أن يتغير المناخ السينمائي ليقدمها في فيلم، هل أراد أن يظل على تواصل مع الناس حتى بعد الرحيل؟

وقبل 36 ساعة غابت واحدة من نجمات الجيل الذي بدأ يودع الحياة تباعا، إنها زبيدة ثروت، كانت زبيدة قد اختارت العزلة الفنية والشخصية، لم ألتقيها، ولكني مثل الملايين لم أنس لقاءها الوحيد مع عبدالحليم حافظ نهاية الخمسينيات في فيلم ((يوم من عمري))، إخراج عاطف سالم، كان بينهما نوع من الكيميائية، براءة وجهها كانت مع صوت عبدالحليم أهم أسرار نجاح الفيلم، تمتعت زبيدة بجمال طاغ، وعيون ساحرة، وظل نجاح ((يوم من عمري)) هو الحاجز الأعلى الذي لم تستطع أن تتخطاه بعمل فني آخر، وكما وصفه في أغنية ((بعد إيه)) الشاعر مأمون الشناوي بتلحين كمال الطويل وبصوت حليم ((يوم من عمرى هو اليوم اللي اتهنيت فيه/ واللي بكيت منه وعليه))، نعم كانت لحظة الذروة في بداية المشوار هي أيضا بداية لحظة الانطفاء الفني لتبكي منه وعليه.

ثم كانت المفاجأة الحزينة والخبر الصدمة قبل ساعات، رحيل أحمد راتب، كان دائما في الميدان لم يبتعد عن الساحة، ولم ينساه الجمهور وأيضا المخرجون ولا شركات الإنتاج، آخر اطلالة له هنا في ((دبي)) حيث كان العرض العالمي الأول لفيلم ((مولانا))، دور لا يتعدى ثلاثة مشاهد فقط ملأها إشعاعا وحضورا، كان يؤدي شخصية الشيخ الذي يؤمن بمنهج النقل لا العقل، ويردد أحاديث تخاصم المنطق مثل ((إرضاع الكبير))، ويعود بالناس إلى عصور الجاهلية، هذا هو الفنان الذي يحركه الوعي الفني وليست مساحة الدور، راتب فنان لديه قدرة على هضم الزمن ومفرداته، ولهذ ا ظل محافظا على ألا يسبقه الزمن مع تطور فن أداء الممثل، كان هناك أكثر من مخرج يراهن عليه في البطولة سينمائيا وتليفزيونيا، وذلك في السبعينيات ولكن الناس لم تعترف به بطلا واعترفت به ممثلا موهوبا يمتلك القلوب، البعض عندما تنهار أحلام النجومية والبطولة المطلقة يتوقف به المشوار ويعتبرها نهاية العالم، ولكن لأنه صاحب موهبة حقيقية فلقد تمكن من القفز فوق هذا الحاجز النفسي وأكمل المسيرة، وهكذا كانت له مساحته، في أدوار البطولة المشتركة أو البطل المساعد، ولو وجد دورا له قيمة كضيف شرف ستجده حاضرا أيضا. كانت له ذروة تليفزيونية عندما أدى شخصية الموسيقار محمد القصبجي، العاشق من طرف واحد لأم كلثوم في المسلسل الذي حمل اسم سيدة الغناء العربي، وكان الجمهور من فرط نجاحه في مصر والعالم العربي يطلقون عليه ((قصب)) اسم الشهرة للقصبجي، بل كثيرا ما كانوا يقدمون له العود كي يغني لهم رائعته التي لحنها لأم كلثوم ((رق الحبيب)).

أحمد راتب يستحق لقب فنان مربع، أي أنه عرف النجاح في الوسائط الأربعة، سينما، مسرح، تليفزيون، إذاعة، والأهم أنه كان أقوى من الزمن، عندما لم تهزمه الأيام في رحلة فنية تجاوزت أربعة عقود من الزمان، وظل حتى اللحظات الأخيرة فنانا مطلوبا وله مساحته ويمتلك حضورا وإشعاعا خاصين ستفتقده كثيرا الوسائط الأربعة، لكنه سيظل برغم الغياب الفنان الجميل النبيل الذي يطل علينا عبر الشاشتين.

***

كانت آخر إطلالة لأحمد راتب من مهرجان دبي، وفي هذا المهرجان تأكد لنا أن مصر دائما تملك ذخيرة حية من المواهب لا يمكن أن تتوقف عند نقطة محددة ولا جيل بعينه، الموت ينجب الحياة، زهور تتفتح دائما لنراها عبر الشاشة، وفي مهرجان ((دبي)) كان لنا أكثر من إطلالة لمخرجين يقدمون أفلامهم الطويلة لأول مرة، محمد رشاد ((النسور الصغيرة)) تناولته على هذه الصفحات قبل يومين، وشاهدت في الأيام الأخيرة محمد حماد ((أخضر يابس)) وشريف البنداري ((على معزة وإبراهيم)).

كل شيء تكاد أن تراه ولا تراه هكذا نسجت الإضاءة الشريط السينمائي في ((أخضر يابس)) لتبدو الشاشة وجها آخر لتلك الشخصيات التي تعيش بيننا ولكننا في العادة لا نراهم، أن تكافح البنت للحفاظ على غشاء البكارة يُصبح هدفا لا يمكن التضحية به، وهو المكسب الوحيد الذي حققته بطلة الفيلم التي تقف أمام الكاميرا لأول مرة هبة على، لا نعلم الكثير دراميا عن الشخصية، حيث يمنحنا المخرج المعلومة باقتضاب، هي قد وصلت من خلال ملامحها إلى المنطقة الخطر نهاية الثلاثينيات، ومن هنا يكشف الفيلم في جانب ما عن العنوان أخضر يابس، في الحركة والنظرة والكلمة، هناك شيء يسير بخطوات للجمود قبل أن تصل بنا لنهاية العمر تكتشف أنك لم تعش أبدا الحياة، أن تندم لأنك فعلت شيئا خير من أن تندم لأنك لم تفعله، تلك هي الحكمة التي عادة لا نعرها اهتماما، إذا كنا في النهاية سننتهى إلى التراب، فلماذا لا نجرب أن نعيش؟ الفيلم يضبط إيقاعه على مفتاح الإضاءة الخافت كصورة وتختفي تماما الموسيقى، لأن التعبير بالشاشة يخلق نوعا هامسا من الموسيقى، والشخصيات المحدودة في الفيلم، تبدو أيضا وكأنها تهمس في الحضور، فلا تشى بأي تفاصيل مجانية، تتقدم إليك أيضا في خفوت، لا يوجد في الحقيقة قضية درامية وصراع بقدر ما أنت ترى مأساة إنسانة تعيش الحياة وهى في الحقيقة لا تعيشها، هي ككل فتاة تحافظ على بكارتها تقف في مرحلة عمرية حرجة، من الواضح أنه لايزال لديها بقايا جمال وشذرات قصة حب لابن عمها، ولكن لا شيء أكثر، البداية مع حوض للزهور، نرى الورود تتفتح وهي تسقيها والنهاية بجوار الحوض وهى ذابلة، وتتكرر صورة السلحفاة المائية في حركتها الرتيبة، ونستمع بين الحين والآخر إلى ((تكات)) المترو وعجلاته تضرب على القضبان لحنا واحدا لا يتغير مثل حياة البطلة، وكأنه معادل صوتي لأنين سنوات عمرها المهزومة، نظرات محطمة للبطلة ورحلة يومية على كوبري متهدم وهى في طريقها للعمل، الخيوط الدرامية تتعانق في حدث بسيط واستثنائي، ولكنه يحمل دلالة درامية، الشقيقة الكبرى، مسؤولة عن تجهيز فرح الأخت الوحيدة لتي تصغرها وذلك بعد رحيل والديها، فتبدأ في التواصل مع أعمامها الثلاثة، ولا تحصل على أي دفء من أسرتها الكبيرة، في هذا السياق تكتشف أنها تعاني من مرض نادر لمن هن في مثل عمرها وهو انقطاع الطمث، المفروض لا يزال أمامها الكثير، قبل أن تبرق في أحشائها الأمومة بات علميا من المستحيل أن تعيشها، الزمن سرق منها حتى الفرح الذي تمنحه الطبيعة للبشر أجمعين بأن لديهم طفلا يواصل حياتهم للزمن القادم، لم نعلم الكثير عن حياتها الجنسية ولا الشخصية والعاطفية، ولكنها كما تبدو، بلا أي تجربة، تعمل في محل لبيع الحلويات الشرقية، لنرى التناقض الظاهري بين الحلوى وما تعبر عنه من فرحة والحالة التي تتملك البطلة من فقدان السعادة، وتقرر عندما تتأكد من انقطاع الدورة نهائيا أن تفض ما حرصت عليه طوال حياتها، وهو غشاء البكارة، كل شيء يتداعى وينتهي عمره الافتراضي، الشقة أيضا التي تقطن بها هي وشقيقتها، الجدران فيها آيلة للسقوط، والثلاجات التى تحفظ الحلوى في المحل توقفت وبات لا يجدي معها الإصلاح، كل التفاصيل تقودك إلى أن الزمن انتهى وهم على قيد الحياة، أخضر يابس، مثل هذه الأفكار السينمائية والمعالجة الدرامية الهادئة تحيلني على الفور للسينما الإيرانية، في أفلام مثل التي قدمها الراحل عباس كيروستامي أو أصغر فرهدي، حيث الحدث الدرامي يكاد يهمس بينما الشاشة بكل المفردات تعبر وتنطق بجمال وتدعوك لكي تضيف وتكمل أنت، رأيت ميلاد المخرج محمد حماد، وهو ممسك بكل تفاصيل فيلمه، ويبقي الممثلة التي تقف لأول مرة أمام الكاميرا هبة على، إذا كان التمثيل في معناه العميق هو ألا تمثل، فإن هبة تستحق بلا منازع جائزة أفضل ممثلة.

***

((علي معزة وإبراهيم)) هو مسك الختام مع أفلامنا المصرية التي حملت إبداعا وألقا وطزاجة وفكرا سينمائيا عصريا، الشريط السينمائي، رهان على الحياة والتفاؤل والأمل رغم الحياة الضنينة في كل شيء، شاهدت تقريبا كل أفلام المخرج شريف البنداري القصيرة والتسجيلية، وآخرها العام الماضي في ((دبي)) فيلم ((حار جاف صيفا))، لديه لمحة خاصة في الإمساك بالفكرة، وعندما قرر أن يقدم مشروعه الروائي الطويل الأول، كان يدرك أن هذه الفكرة ستُنجب بالتأكيد سينما، وهو ما أسفرت عنه الشاشة، وهكذا يأتي البطل على، الشهير بعلى معزة، فهي صارت وكأنها ظله الذي لا يفارقه ويطلق عليها ((ندا))، بينما يراها الجميع مجرد معزة، تكمن فيها روح البطل، أدى الدور الممثل الجديد على صبحي، وفي الحقيقة لا يمكن أن تعزل هذه الشخصية عن الممثل، لأن جزءا أساسيا في الفيلم أن تُصدق البطل في ملامحه وتلقائيته ووجهه الذي يُطل عليك لأول مرة، كلها تصب لتأكيد شيء واحد أنه حقا على معزة، يقف معه أحمد مجدي وهو أكثر الممثلين الجدد في جيله حرصا على أن يكون له حضور في هذه التجارب، ربما لأنه أيضا يمارس الإخراج وتكوينه يدفعه لهذه الأفكار السينمائية، وهكذا شاهدناه في ((مولانا)) لمجدى أحمد على فيلم كلاسيكي في بنائه وإيقاع أداء الممثل ثم ينتقل إلى إيقاع عصري، والحقيقة أنه كان مصدقا ومتألقا في الدورين.

القصة لإبراهيم بطوط والسيناريو لأحمد عامر، الذي أقرأ أسمه أيضا لأول مرة، وهو كاتب لديه خيال خصب وقدرة على أن يشع مواقف ضاحكة وساخرة في آن واحد داخل السيناريو، وأيضا يضفي عليها وميضا من الشجن، الفيلم بلا ثرثرة درامية يدخلك في الحدث وتعايش الشخصيتين، من يعيش مع المعزة ومن تهاجمه أصوات تحيل حياته إلى جحيم، تجمعهما رحلة إلى الإسكندرية وسيناء، ونواصل مع الثلاثة المشوار، حتى تأتي الذروة لنكتشف أن المعزة هي خطيبته راندا التي فقدها على كوبري قصر النيل، وفي نفس اللحظة وعلى طريقة تناسخ الأرواح وجد معزة فأصبح لديه يقين أن روح خطيبته قد حلت فيها، فصارت هي التي ترشده وتلهمه وهى أيضا التي تُنقذه من الموت.

يبدا الفيلم بمشهد افتتاحي لضابط الشرطة يؤدي دوره آسر ياسين، نراه يمارس السادية على المواطنين وهكذا يمسك بالدبدوب في يد البطل ويمزقه لمجرد أنه يشك أن به ممنوعات.

وكأن المشهد الذي يبدو للوهلة الأولى خارج السياق، إلا أنه يُكمل في الحقيقة الرؤية، فإذا كان بطلا الفيلم كل منهما يعاني من مأزق نفسي فإن الضابط أيضا يعاني مثلهما، والفارق أن حالتهما لا يدفع ثمنها المواطن.

الخيال الذي يمتزج بالحقيقة يظل هو المسيطر، اختفاء المعزة أو رحيلها يُصبح هو الكاشف أيضا لحقيقتها أو للحكاية المتداولة برغم تجاوزها المنطق، ولكن هناك دائما للعمل الفني منطقه وخصوصيته، حيث يحلم بها كل أفراد الحي الشعبي ونرى صورتها في النهاية مرسومة على السحاب، لتصلنا إلى السماء.

فيلم لا يراهن على الاختلاف، ولكن على الصدق، ويترك بداخلك مساحة لا تنفد من السعادة، ونرى أمامنا المخرج شريف البنداري ممسكا بكل تفاصيل فيلمه.

مهرجان "دبي" منح ثلاثة من المخرجين المصريين شهادة الانطلاق وأيضا النبوغ، وشعرنا حقا بالاطمئنان على حال السينما المصرية التي لا تتوقف على أن تدهشنا وتشجينا.