سليم الهواري يكتب: أولئك هم المنكسرون

ركن القراء

بوابة الفجر


ضاقت علينا الأرض بما رحبت يا أمي، زاد الغلاء غلاء فوق غلاؤه ، وزاد الفقير فقرًا على فقره، برد الشتاء يا غالية يتسلل داخل جسده، تلك القشعريرة تلتهم عظامه تحت جلده المثلج، يعلو الغني بماله فوق عبيده الجائعون، وأصبحت وجبة الغذاء المليئة بالبروتين مقدسه، لا تأتي  كل يوم كسابق عهدها.

 لن أنسى ذلك اليوم الذي جاء فيه إلى تكية الدراويش، وقد جاء لزيارتها عددًا كثيرًا من الزوار ذلك اليوم، وكان القاضي ذو الوجه العريض والقامه القصيرة والهيبة المقدسة يتوسط أولئك القوم، أصحاب النفوذ بالمنطقة، فقد كان بكلمة منه يستطيع أن يلقى بأحدهم في السجن، وكان الفقير يا أمى يجلس بعيدًا يتأملهم، يريد أن يتصبر بكلمات من قاضي الحضرة، كلمة تعينه على مشاق الأيام والبرد المراقص بين أصابع قدميه، فتلك العباءة البالية المظهر لم تستطع محاربة رصاصات البرد التي تشبع هواه برئتيه.

قال القاضي وهو يلقي ثمرة التين في فمه، إن مصر الآن تعج باللاجئين الذين هربوا من الجيش المغولي، ونحن نوفر لهم ملاذًا أمنًا، ولاريب في أن هذه المدينة جوهرة، لكن يجب أن لا ننسى أن المدن تشبه البشر، وتمر بمرحلة الطفولة والمراهقة ثم إلى مرحلة الكهولة، فهي الآن تتهاوى إلى أخر شبابها، لكن من يعرف كيف ستكون المدينة بعد ثماني سنوات؟، سيعكر الخونة الوثنيون صفونا بأسم الدين المزعوم منهم والدين منهم براء، ولكن هل يمكن أن يتجاوز أولئك الحدود بعد أن قمنا بدحرهم وشل أذرعهم؟ سأل القاضي القوم في استكمال منه لحديثه.

أجابه رجلًا من سادة القوم جالس على مقربة منه، وقال فى خفوت لا أظن أنهم يعودوا، العصر الأن هو عصر النهوض، فاليوم مصر تولد من جديد، المصانع والمزارع والأمن والنهوض التعليمي والاقتصادي والإجتماعي أيضا ولا أظن أن يتم مصالحة مع المنكسرون، خصوصًا بعد كسرتهم في توجيه الدفه إلى بر الأمان.

أجاب أخر في صوت جعل الفقير يستمع إليه في انتباه، لقد لقينا من عمرنا ما نشفق على الأجيال التي تأتى بعدنا أيها القاضي الجليل فأذكر أن ابى يومأ أراد شراء بقرة من السوق فأعطاني جنيهًا، وقال هاتها على عجل وقد كان أتيته بالبقرة وكان ثمنها تسعون قرشا أم الأن فمن المحال التفكير فى شراء قفص من الطيور لتربيته كالسابق خاصتا وأن نائب السلطان قضى على تجارة الطيور فى البلاد باستيراده من بلاد الروم امتنانا لقيصرها.

التفت القاضي إليه وقال له أن الذين يبحثون عنه فقط، هم الذين يستطيعون إيجاده، وصمت قليلا ثم أضحت على قسمات وجهه ضحكة أسمعت من به صمم، وتابع فى غلظه قائلآ، لا أعنى البحث عن الطيور طبعآ، ولكن أقصد الأيمان فمن يجد الأيمان يفقد لذته بكل شئ حوله، هكذا يقولون للفقراء حتى يصبروا على دنياهم بدينهم، ونظر الى ذلك الرجل الفقير الذى يتخذ مكان بعيدا عنهم، وكأنه كان يعلم بإنصاته إليه.

أراد أحد الحاضرين حول القاضي إظهار صوته وسط الحاضرين فقال فى وقار، يا سيدي القاضي لن يعود المنكسرون الى الحكم، ولو كان فيهم الدمشقي و صنع لهم نار حارقه كالتي القيت على الصليبين أثناء الحروب الصليبيه، ولكن، سأقول كما ردد الفرنجه.

وهنا فقد وقف الفقير على قدميه، وخرج عن صمته الذى إعتاد عليه طيلة الجلسة قائلآ، سلام عليكم وعليهم وعلينا، وحين ألتفت جميع الجالسون اليه، أبتسم فى خفوت وقال، وما ظلمونا ولكن كانوأنفسهم يظلمون، فسأله القاضى فى إمتعاض من تقصد بالظالمون أيها الشريد؟، فأجابة الفقيروقال، المنكسرون يا سيدى ومضى فى طريقة وسط ذهول من الحاضرين.