د. رشا سمير تكتب: نار «الدولار» تحرق الثقافة والإبداع

مقالات الرأي



أنا هاعمل لنفسى كتاب.. أعمل لك معايا!

■ سعر طن الورق ارتفع 6 آلاف جنيه.. والـ«رُزمة» أصبحت بـ280 بدلا من 140 جنيها


ساعات وينتهى عام ٢٠١٦ بحلوه ومره، ساعات وينتهى عام من الأزمات والكبوات والكثير من الأمل.

تعودنا أن نودع الأمس بغصة على أمل أن يكون الغد مختلفا، وتعودنا أن ننظر للماضى وكأنه زوجة الأب بغلظتها وشرها، وننتظر الآتى وكأنه عروس جميلة نشتهيها.

لقد كان عام ٢٠١٦ بحق عامًا قاسيًا على الصعيد الاقتصادى والسياسى والإنسانى، نزفت سوريا، وبكت ليبيا، وتحاملت مصر، رحل أوباما، وخسرت كلينتون، وانتصر المليونير المهرج برئاسة أمريكا.

الأكيد أنك لو سألت أى مواطن مصرى بسيط عن ذكرياته لهذا العام، لقال لك إنه كسب أشياء وخسر أشياء أخرى، ابتسم أياماً وانهزم أياماً، تحامل وتحايل، فاز وخسر، ولكن..

كان تعويم الجنيه وجنون الدولار الحدث الأعظم لهذا العام، الخطوة الأكثر جرأة وقسوة، الخطوة التى كنا نتمنى أن لو لم تكن، فعلى الرغم من أنها خطوة حملت معها الأمل إلا أن تأثيرها كان واضحا على كل شىء، بدءًا من مصاريف المدارس والجامعات وحتى حزمة الفجل.

لكن.. لو كان للاقتصاد تأثير على حركة البيع والشراء، هل من الممكن أن نقول إن له نفس التأثير على الثقافة والنشر، وهل هذا التأثير سيكون تأثيرًا مباشرًا أم غير مباشر، كيف أثر ٢٠١٦ على الثقافة، وكيف تأرجح سوق الكتاب بسبب تلك الهزيمة الاقتصادية؟.. سؤال له ألف وجه وإجابات عديدة.

دعونا نغوص فى بحور النشر والأدب للعام الماضى، لعلنا نخرج بإجابة واضحة..


من يقرأ ولمن؟

تتأرجح الإصدارات الأدبية ما بين الروايات ومجموعات القصص القصيرة والدواوين الشعرية والدراسات الأدبية، ويبقى السؤال الذى يطرحه العام وكل عام.. من يقرأ ولمن؟

ينقسم القراء إلى عدة فئات، أولها بحسب تصنيف الناشرين السيدات اللاتى يبحثن عن أنفسهن فى بطلات الروايات، الأكيد وبحسب القوة الشرائية، أن الفتيات والسيدات هن أكبر فئة تشترى روايات، من منطلق أنهن يمتلكن الوقت المُتاح للقراءة، علاوة على المساحة المزاجية والرومانسية التى تدفعهن إلى البحث عن العشق والحُلم بين صفحات الكُتب.

ويأتى الشباب فى الفئة الثانية، والحقيقة هم يمثلون القوة الشرائية الأكبر للكُتب، وهو ما جعل دور النشر تتجه لإرضائهم ونشر المواضيع التى تجذبهم وتخاطبهم بلغتهم، فالعناوين الشبابية هى الباب الكبير الذى يدخل منه الناشرون باحثون عن الربح المادى، وأغلفة الكُتب المثيرة الجذابة تمثل هى الأخرى سببًا مهما يساهم بشكل كبير فى الرواج للعمل الأدبى.

وعلى الرغم من تعدد الإصدارات الأدبية للعام الماضى، من شعر إلى نثر إلى أدب رحلات وقصص قصيرة، إلا أن الروايات ما زالت هى الحصان الرابح على أرفف المكتبات وعلى الأرصفة وعلى مواقع التواصل الاجتماعى، ثم يأتى بعدها الأدب الساخر، الذى أستطيع أن أطلق عليه بضمير مستريح لقب «أدب التيك أواى»، أو «أدب الكافيهات»، الذى نجح فى استقطاب الشباب الفارغ، ويُعانى من تعثر واضح فى استيعاب وقراءة اللغة العربية، فيبحث عن شىء خفيف يأخذه إلى مرتبة المثقفين.


أنا هاعمل كتاب.. أعمل لك معايا

هناك مجموعة كبيرة من الكتب كانت مكتوبة بلغة ركيكة وعامية، بل من الممكن أن نقول إنها أحيانا تنزلق إلى منطقة اللاشىء، حققت نجاحا كبيرًا وتصدرت قوائم الأكثر مبيعا، على الرغم من أن محتواها ضعيف جدا.

فمثلا هناك كتاب صدر فى عام 2016 لكاتبة شابة، اسمها سُهى الفقى، بعنوان «شكلها سافرت»، عن دار «دون» للنشر، والتى اشتهرت فى الفترة الماضية بمساندتها للكتاب من الشباب وتبنى إصداراتهم، الكتاب لاقى نجاحاً لا بأس به، حتى أن الشباب يذهبون للسؤال عنه فى المكتبات، بل تم تزويره على الأرصفة، ما يعنى أنه عنوان أحدث ضجيجا.

الكتاب عبارة عن سرد ليوميات الكاتبة ومواقفها الحياتية بلغة دارجة مُبسطة، ولكنها لغة شباب الكافيهات، للأسف الكتاب بلا محتوى ولا يرتقى لمستوى العمل الأدبى، ولكنه محاولة موفقة لشابة استطاعت أن تتواصل مع أبناء جيلها، وأنا أعتبره ذكاء أدبياً يُحسب لها، فلو كتب توفيق الحكيم اليوم لما قرأ له أحد، ببساطة لأن لكل عصر أوانه ومفرداته، وبالتالى كتابه وفنانيه والتطور سمة الإبداع دائما.

إنه تجربة لا تختلف كثيرًا عن كتاب «حبيبتى» الصادر عن دار «دون» أيضا، الذى قرر أحد مغنيى الراب من الشباب وهو زاب ثروت إصداره، لشعور مُلح بداخله أنه يستطيع النجاح كروائى، الحقيقة أن المُغنى الشاب اكتظ حفل توقيعه بالشباب لدرجة جعلت الخيمة من شدة التدافع تقع على رءوسهم، والحقيقة الأكثر مرارة هى أن روائياً بقامة محمد المنسى قنديل لم يحظ فى حفل توقيعه برُبع العدد الذىحضر لمطرب الراب.

كتاب زاب مُضحك وبلا محتوى، لدرجة أن الكاتب ترك صفحات بيضاء للقارئ كى يكتب تعليقاته بنفسه، وهو ما يعنى قطعا أن عدد صفحات الكتاب لم تصل لعدد الملزمات الكافية لاستكمال الكتاب، فتركوا الصفحات بيضاء «قال يعنى حركة»، هذا لا يمنع أن زاب ثروت من مغنيى الراب الممتازين الذين أسمعهم أنا باستمتاع، ولكن من قال إن كل إنسان ناجح فى مجال ما يجب أن يصبح روائيا ليستكمل الصورة؟

هذه الكُتب وغيرها أوصلت القراء لتدشين هاشتاج بعنوان: #أنا هاعمل لنفسى كتاب.. أعمل لك معايا!


الروايات والدراما

عادت مؤخرا الدراما التليفزيونية والسينمائية مرة أخرى للبحث فى عالم الروايات عن أعمال تصلح لأن تتحول إلى دراما ناجحة، وهذا الموضوع ذو شقين، إما أن يُضيف العمل الدرامى للرواية ويروج لها، وإما أن يأخذ العمل الرواية إلى هاوية الفشل.

فعلى سبيل المثال، رواية «هيبتا» للكاتب محمد صادق، والصادرة عن دار الرواق، تعتبر رواية ضعيفة أدبيا، وتعانى من عثرات الحبكة والمحتوى بشكل واضح، وأقر أغلب من يقرأون بحق بأنهم لم يستطيعوا الانتهاء من فصل واحد فيها، وذلك على الرغم من كونها الحصان الرابح لدار النشر، حيث تلقفتها أيدى الشباب وذاع صيتها، وحين تم تحويلها إلى عمل سينمائى استطاع المخرج باختياره لمجموعة أبطال من الشباب، قادرين على النفاذ بسهولة إلى قلوب المتفرجين، أن يحقق نجاحا دراميا كبيرا، ما أضاف للرواية دون شك، وساهم لها فى المزيد من الرواج.

وهذا ما حدث على النقيض لرواية عملاقة أدبيا، وهى رواية «ساق البامبو» للكاتب الكويتى سعود السنعوسى، والصادرة عن دار نشر متميزة هى الدار العربية للعلوم والنشر، رواية نجحت فى إمتاع قارئها أدبيًا، بلغتها القوية والمتفردة، وقدمت للقارئ روائياً من نوع متميز، قادر على الإمساك بتلابيب الفكرة ومعالجتها، إلا أن الرواية حين تحولت لعمل درامى تليفزيونى لم تحظ بنجاح كبير، لأن تناولها تليفزيونيًا لم يكن بجودة الرواية.

إذن هى عودة درامية للأعمال الروائية، وهو ما يؤكد أن مصر بها أقلام قوية تستحق الاهتمام بها، ويبقى السؤال.. من يصنع نجاح الرواية الكاتب أم الدراما؟


دور النشر والروائى

النجاح لا يكمن فى الكاتب وحده، ولكن الناشر أيضًا شريك فيه، فالناشر هو من يُقدم الكاتب ويقوم بعمل الدعاية اللازمة له للنجاح، هذا بخلاف شرط آخر أكيد لتحقيق النجاح وهو القدرة على التوزيع.

هناك دور نشر مصرية لها تاريخ طويل، مثل الدار المصرية اللبنانية، لصاحبها الأستاذ محمد رشاد، ودار الشروق لصاحبها المهندس إبراهيم المعلم، وتأتى بعدهما أسماء أخرى، مثل دار عين للنشر، لصاحبتها الأستاذة فاطمة البودى، كما ظهرت على الساحة دور نشر جديدة ناجحة، مثل «دون» و«اقرأ» و«كيان»، واستطاعت دار كيان للنشر والتى يملكها الأستاذ محمد جميل صبرى وزوجته نيفين التُهامى فى أن تحقق انتشارًا كبيرا فى مدة قصيرة، ووجدت لنفسها مكانا وسط الناشرين بقوة.

وعلى الصعيد العربى، هناك دار الساقى للنشر، والتى تهتم بالأعمال الروائية وتحتضن معظم الكتاب العرب من الأسماء الكبيرة، فتنتقى أعمالها بشكل صنع لها الريادة الواضحة فى عالم النشر، وتلحقها دار الآداب، والدار العربية للعلوم والنشر، وهناك صراع دائم بين الروائيين والناشرين، فصاحب الإبداع الحقيقى لا يقبل التعديل ولا المساومة، وله وجهة نظر تدفعه للتشبث برأيه وأحيانا ينتهى الأمر إلى صدام أدبى.

فوجهة نظر الناشر تنبع من كونه مقامرًا يغامر بنقود، يرميها فى السوق وينتظر من ورائها الربح، والروائى يسعى للربح الأدبى، فهو ما يحقق له الارتواء والنجاح الحقيقى، اللهم إلا بعض الكُتاب الذين لا يبحثون سوى عن المادة، وهؤلاء ينطفئ نجاحهم بنفس سرعة وصولهم إليه.


تحديات النشر وركود السوق

بعد تعويم الجنيه وقفز سعر الدولار أصبح النشر فى خطر حقيقى، ما يهدد الإبداع، ولكنه من وجهة نظرى كروائية فرصة أفضل لبقاء الأصلح، فدور النشر التى كانت تطبع أى شىء وكل شىء يجب اليوم أن تنتقى الأعمال الجيدة التى قد تحقق نجاحاً، فلم تعد نظرية «اطبع الكتاب وارميه فى السوق» هى النظرية الصحيحة، فالتكلفة العالية جدا للنشر سوف تجعل الناشرين يعيدون حساباتهم فى الاختيارات.

سعر الورق والأحبار قفزت قفزة هائلة، طن الورق قفز من متوسط 9 آلاف جنيه إلى 15 ألف جنيه، ما يعنى أن رزمة الورق زادت من 25- 30%، الرزمة زادت من 140 جنيهاً إلى ما يقرب من 280 جنيهاً، إذن المأساة هى مأساة كاتب وقارئ وناشر، فالكاتب والناشر سوف يتحملان نتيجة انخفاض القوة الشرائية وإقبال أقل بكثير على أعمالهما، والقارئ لم يعد يحتمل مع ارتفاع سعر السكر والزيت والبنزين أن يدفع ما يقرب المائة جنيه فى كتاب ورقى، يستطيع أن يجده مقرصنا بصيغة الـpdf على الإنترنت، أو يجده متاحا على الأرصفة برُبع سعره فى المكتبات، ما يجعله يراجع نفسه ألف مرة قبل أن يشتريه من المكتبة.

هذا هو التهديد الحقيقى لصناعة الكتاب فى مصر، بالإضافة إلى أن انتشار أى كاتب، حتى لو كان عربيا لا يكون إلا بوصوله للسوق المصرية حيث القوة الشرائية الأكبر.


الجوائز

حتى الآن جائزتى البوكر العربية للكتاب وجائزة الشيخ زايد هما الجائزتان الأكثر شهرة وقيمة فى الوسط الأدبى، وهما الجائزتان اللتان يطمح إليهما معظم الكُتاب، على الرغم من أنه مؤخرا بدأت تظهر ملامح بعض المجاملات لكتاب بعينهم وبعض دور النشرالكُبرى، بسبب المصالح المشتركة والعلاقات المتشابكة التى باتت تحكم كل شىء، كما أن هناك شيئاً من التسيس الذى أصبح واضحا من خلال بعض الجوائز.

فالسياسة بين الدول جعلت الجوائز تخضع لخلافات واتحادات بعينها، كما أن هناك رفضاً أحيانا من بعض معارض الكتاب العربية لأسماء روايات لها علاقة ببعض الدول التى تختلف مع سياستها، مؤخرا ظهرت فى الأفق جائزة «كاتارا» للرواية العربية وهى الجائزة التى تُعطى أعلى مبلغ مادى حتى الآن، وتصدر عن مؤسسة قطر للثقافة، والتى أرادت بها دولة قطر الهيمنة على سوق الكتاب ومنافسة الإمارات ثقافيا.

فازت بجائزة كتارا لعام 2016 عدة روايات، هى: خمسون غراما من الجنة لإيمان حميدان (لبنان)، وأرواح كليمنجارو لإبراهيم نصر الله (فلسطين )، وأولاد الغيتو لإلياس خورى (لبنان)، والأزبكية لناصر عراق (مصر)، وراكب الريح ليحيى يخلف «فلسطين»،

أما جائزة البوكر العربية للكتاب، فقد فاز بها الكاتب الفلسطينى ربعى المدهون عن رواية «كونشرتو الهولوكوست والنكبة»، كما فاز الكاتب المصرى عادل عصمت بجائزة نجيب محفوظ للأدب لعام 2016 عن روايته «حكايات يوسف تادرس»، وفاز الروائى إبراهيم عبد المجيد من مصر بجائزة الشيخ زايد للكتاب عن كتابه «ما وراء الكتابة».


تزوير الكتب

لاشك أن تزوير الكتب والروايات كان وسيظل هو التحدى الأكبر لسوق الكتاب والناشرين، وما زالت المسئولية ملقاة على عاتق اتحاد الناشرين العرب الذى مازال الناشرون يحملونه وزر التزوير وعدم القضاء عليه، فما زالت منافذ البيع على الأرصفة متوافرة بكثرة بل باتت تنافس بخطورة المكتبات، خصوصا مع حالة الركود التى أصابت السوق بعدما أصبح سعر الورق والأحبار من الأشياء التى ارتفعت ارتفاعًا جنونيًا. وما زال الردع فى تنفيذ القانون هو الحل الوحيد للقضاء على تلك الظاهرة، فلو أصبحت الغرامة والحبس هما عقاب كل من يتم القبض عليه متلبسا ببيع كتب مزورة لأصبح القضاء على تلك الظاهرة يسيرا.


معرض القاهرة الدولى للكتاب

ونحن على أعتاب معرض القاهرة للكتاب، ما زالت إخفاقاته تطاردنا كل عام وما زالت الدولة متمثلة فى وزارة الثقافة تقف مكتوفة الأيدى أمام الحالة المزرية التى وصل إليها أكبر وأعرق معرض كتاب فى المنطقة العربية..

مع ارتفاع سعر الإيجارات انسحب عدد كبير من الناشرين الذين لم يستطعوا المشاركة أمام حيتان سوق النشر.. وبات المشارك فقط هو من يمتلك رأس المال الضخم وروح المجازفة، ولكن إلى متى يظل المعرض يقام وسط الأتربة وفى صالات عرض مكشوفة فى حين أن هذا الوقت من العام تتعرض عادة البلاد لعواصف هوائية وأتربة تتسبب فى تعرض الكثير من المعروض للتلف من الأمطار.

كما أن العرض المكشوف يعانى مريدوه من التراب والاتساخ وسوء العرض، بالإضافة إلى أن الناشرين العرب الذين يتكبدون أموالا طائلة لا يتم توفير أبسط الخدمات لهم مثل الحمامات النظيفة والمقاهى النظيفة، لدرجة أن أحد الناشرين فى العام الماضى طلب أرفف لرص كتبه فلم توفر له إدارة المعرض طلبه البديهى جدا، فاضطر إلى أن يذهب لأحد النجارين ليفصل له أرففاً على نفقته الشخصية.

من المؤسف والمخزى أن تتوسع وتكبر كل معارض الدول العربية الصغيرة وما زالت مصر مهد الثقافة والحضارة تقيم معرضا يمثل أقوى قوة شرائية على مستوى الدول العربية بهذا السوء فى التنظيم والتردى، ما المانع لو تمت خصخصة المعرض، ما المانع لو تولاه أحد رجال الأعمال وصنع منه معرضًا حضاريًا يعيد لمصر ريادتها على المستوى الثقافى، مصر رحم الكُتاب والمفكرين.