طارق الشناوي يكتب: نجاة... "الضوء المسموع" فى زمن القبح

الفجر الفني

بوابة الفجر


لم ينل الزمن أبدا من صوتها، لا تزال قادرة على أن تجد لها مساحة مترامية الأطراف فى القلوب، عاد إلينا فى الساعات الأولى من 2017 صوت قيثارة الحب لنتفاءل بعام جديد تبدأ صفحته الأولى مع (الضوء المسموع)، كما وصفه الشاعر الكبير كامل الشناوى.

فترة صمت طالت 16 عاما، أعلنت فيها عن طريق صديقتها الكاتبة الكبيرة سناء البيسى اعتزالها، كانت نجاة منذ العام الماضى، قد قررت أن تعاود اللقاء مع الجمهور فى لحن (كل الكلام) للشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى وتلحين طلال، وهو الاسم الحركى للملحن السعودى الأمير خالد بن فهد، كعادتها فكرت نجاة وتراجعت أكثر من مرة وسافرت لليونان العديد من المرات، حيث تم التسجيل الصوتى هناك فى سرية شديدة تحت قيادة الموزع يحيى الموجى الذى قاد الفرقة الموسيقية.

نعم قبل ثلاثة أعوام استمع الناس إلى نجاة وهى تغنى «سماكى يا مصر» بعد تولى الرئيس السيسى الحكم، أكثر من فضائية أشارت وقتها إلى أنها قد شاركـت بصوتها مع الملايين فى احتفالات مصر، والحقيقة أن الأغنية سجلتها قبل 17 عاما، أى فى زمن مبارك وكانت تغنى لمصر، ضمن شريط احتوى عددا من الأغنيات جمعت بين صوتها والأبنودى بتلحين الموسيقار سامى الحفناوى، ولكن الأغنية لم تنل وقتها الذيوع فاعتقد البعض عند عرضها أنها قدمت للسيسى. نجاة عادت مع (كل الكلام)، لتؤكد أن الكلام لم ينقطع بعد مع عشاقها وهم الملايين الذين يطوقون لسماع الصوت الذى لم يعرف يوما النشاز، نجاة هى ثانى مطربة مع فيروز لا تزال فى الساحة، ولا يزال بينهما والجمهور حالة دافئة من التواصل.

نعم لا تتوفر إعلاميا وهذا الأمر ليس له علاقة باعتزالها، ولكن تلك هى قناعتها الشخصية، فهى تؤمن أن الفنان يعبر عنه فقط فنه، حتى لو نشر خبر عار من الصحة لا تكذبه وتترك الأيام هى التى تتولى التكذيب، عدد لقاءاتها الإذاعية أو الصحفية لا تتجاوز اليد أو على أكثر تقدير اليدين فهى لا تميل لخلق جسور عبر «الميديا» تفضل أن يتم ذلك فقط من خلال الأغانى.

من الواضح أن قرار الاعتزال لم يأت عشوائيا ولا رد فعل للحظة انفعالية، تعاملت مع القرار وكأنها تقف على خشبة المسرح تؤدى وصلة غنائية، فهى بإحساس مرهف تعرف متى تُعيد «الكوبليه»، دائماً ما تلح عليها الجماهير لكى تقدم له «الكوبليه» مرة أخرى، لكنها نادراً ما تستجيب.. وإذا حدث فتستطيع أن تراهن مسبقاً أن الإعادة أجمل وأرق وأصدق وأن تصفيق الجمهور سوف يعلو ولن يكف عن المطالبة مردداً.. أعد!!

واظن أن نجاح الطاغى عبر (اليوتيوب) لـ(كل الكلام) هو رسالة قوية تؤكد لنجاة أن قلوب الناس لا تزال تنتظر سيدة القلوب والستار لن يُسدل، والناس لن تكف عن طلب (أعد).

امتلكت نجاة تلك «الكاريزما» التى يدعمها الجمال.. إنها الجاذبية الاستثنائية، التى تمنح الجمال حياة تضفى عليه شعاعاً من نور.

تعلمت أصول الغناء قبل أن تتعلم قواعد النطق، عندما كانوا يعلمونها المشى.. كانوا يقصدون أن تخطوا من عتبة البيت إلى عتبة خشبة المسرح، لتقف على كرسى حتى تطول الميكروفون وتغنى.. الأطفال فى عمرها يحذرونهم من تجاوز سور الشرفة.. لكنهم كانوا يحذرونها من تجاوز حدود المقام الموسيقى.. الآباء والأمهات يطلبون من أبنائهم أن يشربوا كوب اللبن قبل النوم.. كانت هى تأخذ قبل وبعد النوم أكواباً من الأنغام.. سنوات عمرها الزمنى هى نفسها سنوات غنائها.. فهى تتنفس أوكسجين الحياة المعطر بالسيكا والصبا والبياتى والنهاوند!!

نجاة ليست مجرد موهبة منحها الله صوتاً عبقرياً.. لقد أحاطت هذه الموهبة الربانية بذكاء فى الاختيار، وظلت لديها القدرة على انتقاء كلمات الأغانى بالعامية والفصحى وتجاوز فقط رصيدها من الفصحى 20 قصيدة، تعاملت مع كل الأجيال الموسيقية بداية من الشيخ زكريا أحمد، مرورا بعبدالوهاب والسنباطى والطويل وبليغ والموجى والشريف وصدقى وهانى شنودة حتى صلاح الشرنوبى وسامى الحفناوى، صوت لا يغنى فقط بتألق، ولكنها ملهمة للملحن والشاعر وتمنح الكلمة والنغمة بإحساسها الكثير من الظلال.

نعم شريط (الفديو كليب) الذى أخرجه هانى لاشين لم يكن لائقا بالأغنية فلقد استعاره من فيلم قديم لنجاة (ابنتى العزيزة) لحلمى رفلة، وتحديدا أغنية (ليلة م الليالى فاتونى)، كنت أتمنى أن يستعين بلقطات متفرقة من أفلامها القديمة ليصنع معادلا موضوعيا مرئيا يتوافق كصورة مع (كل الكلام )، ولكن صوت نجاة وأداءها الرائع كانا قادرين على أن يحلقان بنا بعيدا عن حدود الصورة، ولا نزال نحلق مع (الضوء المسموع) التى لا يوافيها حقها (كل الكلام)!!