د. نصار عبدالله يكتب: يوميات ضابط فى حرب اليمن "2"

مقالات الرأي



فى يوم 29 ديسمبر 1962 توجه الأستاذ محمود مبروك مطمئنا إلى منطقة تجنيد الإسكندرية بمعسكرات مصطفى كامل واثقا من أنه سوف يحصل على شهادة الإعفاء من الخيمة العسكرية ، مثلما حدث مع جميع معارفه من مواليد نفس السنة التى ولد فيها (1941) والذين لم يصبهم الدور، وبعد توقيع الكشف الطبى عليه تم تسليمه المهمات العسكرية ما أثار دهشته فسأل الرقيب المسئول عن مبرر تسليمه المهمات العسكرية مادام سوف يخلى سبيله باعتباره معفى من التجنيد نظرا لأنه من مواليد 1941وأجابه الرقيب : هو احنا مجانين نسلمك المهمات ومش واخدين بالنا من إنك من مواليد 1941.. لازم أنت من مواليد النص التانى من السنة قال: أيوه أنا من مواليد أغسطس .ـ تبقى أصابك الدور..النص الأول هو اللى معفى!.. هكذا انهارت فجأة كل خططه لبناء المستقبل الذى كان يحلم به وبدأ يتهيأ لأيام قادمة مختلفة تماما .فى أول يناير 1963 بدأ حياته العسكرية كمجند فى مرحلة التدريب الأساسى، ثم تقرر إلحاقه بمدرسة الضباط الاحتياط التى تخرج فيها برتبة ملازم لكى يخدم فى إحدى كتائب المشاة التى تقرر فى نفس العام أن تشارك فى (العملية 9000) وهو الاسم الكودى الذى أطلق على المهمة التى كلفت بها القوات المسلحة المصرية للوقوف إلى جانب الثورة اليمنية فى مواجهة الإمام البدر والقبائل الموالية له التى كانت تحارب من أجل إعادة الإمامة إلى سلطة الحكم فى اليمن ، وفى 18مارس 1964 تحركت الباخرة التى كانت تقل القوات المصرية من ميناء الأدبية بالسويس متجهة إلى ميناء الحديدة ، واستغرقت رحلتها يومين ، حيث نزل الجنود إلى الميناء وأقاموا معسكرا أحاطوه بالسلك الشائك فى انتظار أن تصدر إليهم الأوامر بالتحرك إلى صنعاء عبر طريق الحديدة- صنعاء الذى يعد معجزة هندسية فهو يصعد بشكل دائرى حول جبل تقع الحديدة فى قاعه عند السفح بينما تقع صنعاء على القمة ..وهو طريق تدور حوله روايات غير مؤكدة بعضها أقرب إلى الأساطير..لعل أكثرها طرافة فيما يحكى لنا المؤلف أن الإمام يحيى حميد الدين والد الإمام أحمد كلف مهندسا صينيا بإقامة الطريق فى مقابل ستة وعشرين مليونا من الجنيهات الإسترلينية، وقد استغرق العمل المضنى عشر سنوات من التخطيط والتنفيذ الذى قام به ألوف المهندسين والعمال ..وبعد وفاة الإمام يحيى وقبل انتهاء العمل، جمع الإمام أحمد المنجمين ليقرأوا طالعه ، فأجمعوا على أن هذا الطريق سوف يكون شؤما عليه وسببا فى زوال ملكه!.. وذهب المهندس الصينى إلى الإمام يهنئه باكتمال العمل ويطالبه بقيمة المقاولة، لكنه فوجئ بالإمام يقول له: «أنا لا أريد هذا الطريق المشئوم!.. فضلا عن أنى لم أطلب منك إنشاءه ..ونزل الكلام كالصاعقة على رأس المهندس لكنه تماسك وقال: سلفكم كلفنى بنفسه بالمشروع، ووزير أشغالكم وقع العقود مع شركتى ..حينئذ أمر الإمام باستدعاء الوزير وأمر بأن يضرب عنقه أمام المهندس، ونفذ الأمر فى الحال!.. تقول إحدى الروايات إن المهندس لم يحتمل هول المنظر فسقط ميتا بالسكتة القلبية.. بينما تقول رواية أخرى إنه خرج من اللقاء فى حالة هستيريا، وقاد سيارته وهو مشتت التفكير ما أدى إلى انقلابها وسقوطها إلى قاع جوف سحيق. أيا ما كان نصيب هذه الحكاية من الصحة، وأيا ما كان حقيقة ما حدث بالفعل فإن الشىء الحقيقى المؤكد هو أن حكم آل حميد الدين الذين أسموا أنفسهم بالأئمة وآمن بهم عامة البسطاء من الناس، لم يكونوا فى حقيقة الأمر إلا نموذجا للطغيان فى أعتى صوره.