د. رشا سمير تكتب: "وقود ثورات النساء"

مقالات الرأي



أشعار نزار قبانى.. مقالات قاسم أمين.. كتابات إحسان عبدالقدوس

المرأة فى الأدب العربى.. صورة لألف وجه

إنها مثل الفراشة ترنو إلى السماء وتخشى أن تحترق بنور الشمس، إنها مثل الحُلم يهفو إليه الجميع ولا يفسرون ملامحه أو يعرفون مذاقه، إنها مثل حُضن القمر.. شفاف هفهاف ولم يصل إليه بشر، إنها مثل الضوء نسعى نحوه ونتلمس الطريق إليه فى عتمة الأحاسيس فلا ندركه، إنها مثل الزهور.. لها ألف لون وألف عطر ومعنى واحد.

هى الأنثى، تاء التأنيث للكلمات الجافة، ونون النسوة فى قصائد الشعر، هى قارورة العطر، هى باريس بين المدائن واللون الأسود سيد الألوان.. نعم هى المرأة، نصف الكون وسره، طعم الأشياء وأماكنها.. كيف يراها الرجال، وكيف يتعامل معها المجتمع، وكيف يسرق الجلاد أحلامها؟.

المرأة صورة واحدة تحمل ألف وجه لقدر واحد، فمنذ بداية الكون وللأبد ستظل المرأة هى نفس الشخص، حتى لو اختلفت الأسماء وتغيرت الأشياء حولها، الحقيقة أن المرأة كانت وستظل دائما الأرض الخصبة التى تمنح للأقلام العنان لتبدع، فالإبداع أصله امرأة.. والحياة أصلها ضلع حواء.

 لطالما تناول الأدباء والشُعراء هموم النساء وأحلامهن، أفراحهن وأطراحهن، حتى امتلأت الرفوف بقضاياهن وقصصهن، وظل أدب المرأة أو الأدب النسوى كما يحلو للنقاد أن يطلقوا عليه هو الأدب الأكثر إغراء والأكثر مبيعا، وظلت على مر الأعوام حواديت النساء هى الجاذبة للنجاح والمثيرة للغط.

الغريب أن أقوى من كتبوا عن معارك النساء هم الرجال، فكان أدب إحسان عبدالقدوس هو شرارة حربها لنيل حقوقها، وكانت أشعار نزار قبانى هى المعول الذى كسرت به المرأة أصفادها لتتحرر، وكانت مقالات قاسم أمين هى الوقود الذى أشعل ثورات حرية النساء.

صورة وألف وجه.. معاناة تتكرر وآلاف الصرخات خرجت من فم واحد، ولأن الأدب والرواية هما المنفذ والمتنفس لأى شخص يبحث عن ذاته بين صفحات الكتب وشخصيات الروايات، فقد تناول الأدب العربى خبايا النساء وحكاياتهن، فمن أدب توفيق الحكيم إلى أدب إحسان عبدالقدوس تعددت النساء لتحكى كل واحدة منهن حكاياتها وأوجاعها، وتوصلت كل الأقلام إلى نتيجة واحدة، أوجاع النساء كانت وما زالت هى القهر.. طموحات النساء كانت وما زالت إلى الحرية.. شكاوى النساء كانت وما زالت من القمع.

وما بين هذا وذاك، هلُموا معى لنكشف النقاب عن وجوه النساء بين صفحات الأدب، وفى 2017.. عام المرأة المصرية، أهديكم صورة الأنثى كما رسمها الروائيون وكما تلقفتها طويلا أيدى السينمائيين.


1- "رمزة ابنة الحريم" بقلم: قوت القلوب الدمرداشية

وُلدت رمزة فى حريم عائلة غنية، ترعرعت بين الجاريات، لم تكن أى منهن تعلم شيئا عما يدور بالخارج، على الرغم من الساعات الطويلة اللائى كن يقضينها خلف المشربيات، كان مجتمع هؤلاء النسوة مغلقاً تماما.

حين أستعيد بذاكرتى تلك الأيام، أتساءل: هل هؤلاء النساء اللاتى عرفتهن وشاركتهن الحياة كن تعيسات؟.. لا أعتقد، لم يكن فى أذهانهن أى معنى للحرية، لم يفتقدن الحرية، كن يمتلكن كل ما يتمنين، كن راضيات بالراحة التى يتمتعن بها، ولكن هناك نساء قليلات جدا-مثلى- لديهن حاجات مختلفة.

إن أمى فى هذه السنوات كانت مثل أى سجينة فى الحريم، تسأل أسئلة ساذجة، تطلب من كل من له علاقة بالعالم الخارجى أن يصف لها الدنيا التى يعرفها.. هذا ما جاء على لسان «رمزة» بقلم الكاتبة قوت القلوب الدمرداشية التى تنحدر من سلالة أحد أمراء المماليك، والتى تكتب باللغة الفرنسية عن المرأة كما رأتها فى عام 1958.

المشكلة أن قضية المرأة فى رأسها طغت على إبداعها الروائى، حيث إن نشأتها فى الحرملك وسط نساء قانعات بائسات جعلتها تتبنى قضاياهن وترتدى رداء المحامى عنهن، فتكتب وكأنها تترافع، لقد شعرت بمعاناة المرأة فى حرملك النساء فتبنت قضية الحرية التى كانت تراها من أهم القضايا التى يجب أن تتولاها أقلام الكُتاب.

والقضية الأخرى التى شغلت الكثير من النساء فى ذلك الوقت هى قضية خلع الحجاب، تلك القضية التى تبنتها هدى شعراوى وقاسم أمين، ليس لوجوب الحجاب من عدمه فى رأيى ولكنها كانت مجرد خطوة للتمرد.. إذن كانت الحرية فى الثلاثينيات والأربعينيات هى المأرب، كان البحث عن الخلاص من عبودية الرجل وسيطرته على المرأة بحجة القوامة المالية أو الدينية هى الحلم والتطلع.

وعلى الرغم من كون الكاتبة قوت القلوب هى ابنة الشيخ عبدالرحيم الدمرداش مؤسس الطريقة الدمرداشية، إلا أنها استطاعت أن تجد حريتها وحرية بنات جيلها من خلال كتاباتها خصوصا «رمزة»، التى هى فى الأصل سيرة ذاتية لامرأة عاشت فى أقفاص الحريم.

تختتم الكاتبة روايتها بجملة توقف عندها التاريخ طويلا، تقول فيها:

«كان هناك منديل أسود ملقى بجانبى بلا اهتمام على المقعد، الحجاب الذى خلعته فى المساء عندما كنت وحيدة قمت بكرمشته بيدى وأنا مملوءة بالكراهية، كنت أفضل أن أرميه بعيدا، ولكن الوقت الذى أتحرر فيه من الحجاب لم يأت بعد فوضعته مرة أخرى، عندما اقترب القطار من القاهرة أخذت على عاتقى أن أستمر فى النضال حتى يختفى من وجوه سيدات الشرق هذا الختم للطغيان الرجالى».


2- بنات عادل حمودة فى العجمى ومارينا

لو أقسم لى الأستاذ عادل حمودة ألف مرة أنه كاتب سياسى محنك، فلن أصدقه، ببساطة لأننى أراه بعيون القارئة التى تملك قرون استشعار لتعرف الفرق جيدًا بين صانع السياسة وبائع الحُب.

عادل حمودة قلم أدبى يعرف كيف يتسلل إلى أحاسيس المرأة ويخبئها بين صفحات كتبه، قلم غاص فى تفاصيل النساء وكتب عنهن بحرفية الصانع الماهر والجواهرجى المُحنك.

لطالما منحه وجوده فى عالم السياسة والاقتصاد فرصة لاقتناص ملامح النساء حوله، ولطالما أفسح له قلمه المجال ليصبح جراحا يشرح المجتمع فى قصص كتبها عن النساء، فهو تلميذ كاتب المرأة أستاذنا إحسان عبدالقدوس، وهو صديق عمر طويل لشاعر النساء نزار قبانى.. فكيف إذن لا يكتب عن المرأة؟.

الصورة التى كتب عنها الأستاذ عادل حمودة فى سلسلة كتبه «بنات العجمى»، «بنات القمر» و«بنات مارينا» مختلفة، أظهرت المرأة الجريئة التى تبادر باقتحام المعركة، المرأة الثائرة التى أصبح لها مخالب، المرأة التى تتحرش وتقترب وتبدأ بإلقاء قذائف الهاون فى معاركها لاصطياد الرجال.

هكذا وصف واحدة من بطلاته بنات العجمى: تبدو مثل جنية من جنيات الأساطير، ولكنها جنية مودرن.. تلبس الجينز وتقود سيارة مكشوفة وترقص على موسيقى الديسكو، ويمكن أن تسافر وحدها إلى أوروبا بطريقة «الأوتوستوب»، فهى من ذلك النوع من النساء الذى يحرق مدينة ليشعل سيجارة.

إنه غرور الأنثى.. الجميلة.. المثيرة.. الصارمة، ذلك الغرور الذى يبتلع أوسع بحارها، وأعمقها، وأخطرها، وهو غرور استفز معظم الرجال، الذين أضافوا جسدها إلى قائمة الطعام، إنها تخشى الحُب.. تخشى أن توقع كمبيالة بالعبودية لرجل يعلبها ويذلها ويبتزها وينهب ثرواتها الجسدية والعقلية، رجل يستعمرها.. ويذبحها.. ويسحبها من الحياة إلى فراش من المسامير».


3- أمينة تصرخ فى وجه إحسان: "أنا حُرة"

بعد أعوام طويلة من وفاة الكاتب القدير إحسان عبدالقدوس، الطبيب الماهر الذى استطاع أن يُجرى عمليات تجميل ناجحة بمشرط الروائى للنساء فى العالم العربى بأسره، خصوصا للطبقة الأرستقراطية التى كان نادى الجزيرة هو ملتقاها.

الكاتب الذى نعتوه بالفجور وتحريض النساء على الفسوق، بعد كل تلك الأعوام الطويلة خرج أبناء الكاتب وأصدقاءه ليفصحوا عن حقيقة صدمت الجميع، فابن «روزاليوسف» الصحفية التى تبنت قضايا المرأة وحريتها كان رجلا متحفظا فى بيته، بل وصل به الأمر إلى حد أنه منع ابنه من الارتباط بفنانة شابة رائعة الجمال.

كما أفصح النقاد عن سر آخر، وهو أن أمينة بطلة رواية «أنا حُرة» جسدت إحسان عبدالقدوس نفسه، الذى وجد حريته فى بيت عمه حين انتقل للعيش معه.. ويبقى السؤال: إلى أى حد نجح إحسان فى رسم صورة مختلفة للمرأة فى ذلك الوقت؟، الإجابة: إلى حد جعل الفتيات تصنع له تماثيل من العجوة وتعبدها، بل يتمنين أن يلتهمونها.

لقد كتب إحسان عن النساء المتحررات، اللائى تحدين المجتمع بملابسهن الخارجة مثل (مادى) فى النضارة السوداء، و(ناهد) فى بئر الحرمان الزوجة التى قهرها زوجها فقررت أن تقهر كل الرجال حتى وقعت فى غرام طبيبها النفسى، و(ناهد) فى دمى ودموعى وابتساماتى، المرأة التى استغل زوجها جسدها ليصعد ويرتقى فإذا بها ترتقى نفس السلم لتحقق أحلامها وأحلام أسرتها على جثة زوجها تاجر الأجساد.

وتظل رواية أنا حُرة لأديب المرأة إحسان عبدالقدوس هى نقطة التحول دائما فى حياة كل أجيال النساء التى تعاقبت وتتعاقب، وتبقى (أمينة) أبدا هى الشرارة لثورة الفتيات على المجتمع، وتبقى رسالة «عبدالقدوس» هى الرسالة التى وضحت المعنى الحقيقى للحرية، التى تصورت الفتيات أنها حرية الملبس واللهو، وهى فى الحقيقة لم تكن سوى حرية العقيدة والمبدأ.

كتب «عبدالقدوس» عن أمينة: «قال لها عباس إن المُطالب بالحرية إنما يطالب بها لأنه يؤمن بشىء يريد أن يحققه، فماذا هو إيمانها؟.. وحاسبت نفسها فوجدت أنها عاشت حياتها كلها بلا إيمان، لم تؤمن بالدين، فلم تحاول يوما أن تُصلى أو تصوم أو تتبع أوامره ونواهيه، ولم تؤمن بالأهداف الوطنية، ولم تؤمن بمبدأ من المبادئ الاجتماعية أو السياسية التى سمعت بها وقرأت عنها، مثل: الشيوعية، الاشتراكية أو الرأسمالية.

ولم تؤمن برجل من الرجال ليخضعها وتضحى بحريتها لتتبعه وتلتصق به، بل كان الرجال كلهم الذين التقيت بهم وجوها عابرة تخضعهم لشخصيتها، لم تؤمن بشىء.. إنما آمنت فقط وطول حياتها بنفسها، لقد كانت أنانية إلى حد ألا تحس إلا بنفسها، فأرادت حريتها لتُطلق هذه النفس وتشبع نزواتها.. ولكن هل هذه هى الحُرية؟!».


4- (امرأة من هذا العصر) بقلم: هيفاء البيطار

وبعيدا عن الأدب النسائى المكتوب بقلم رجالى، وبعيدا عن الحرية التى حاول إحسان ونزار والحكيم أن يستدرجوا إليها النساء ليُطالبن بحقوقهن، ظهرت أقلام نسائية تتحلى بجرأة وتوحش استنكره المجتمع.

وكشرت الأديبات العربيات عن أنيابهن، فكسرن كل الأصفاد وخرجن من قفص الحريم، الغريب حقا.. أن هناك أديبات خشين طويلا أن يعبرن عن مكنون أقلامهن خوفا من اتهام المجتمع ونظراته، وأخريات قررن أن يخلعن كل ثياب الخجل ويكتبن عاريات إلا من مشاعر تُملى عليهن الكلمات، غير مباليات بأصابع الاتهام، فمن أدب ظهرت المرأة على استحياء بين صفحاته إلى أدب حصلت فيه النساء على أدوار البطولة، ومن أدب كان به مسموحات وممنوعات إلى أدب سقطت فيه ورقة التوت عن فصوله.

هيفاء البيطار طبيبة عيون، وكاتبة سورية جريئة استطاعت أن تلفت أنظار النقاد إليها، من حيث تمكنها فى وصف المعارك النسائية ممزوجة بجراح سوريا وحضارتها، لها أعمال عديدة لاقت أغلبها نجاحا وعلى قائمة نجاحاتها جاءت رواية «امرأة من طابقين»، ثم جاءت «امرأة من هذا العصر» فى عام 2006 لترسم صورة أكثر جرأة للأدب النسائى.

كتبت: «مرت الأشهر الأولى للطلاق وإحساسى بجسدى غائب، جسدى الفتى الذى اعتاد الاندماج بجسد يُحبه ويمتعه، كنت وقتها مرضوضة من الصدمة، فأتذكر كل صباح مصيبتى وأعيد إنتاج أزمتى، أشعر كل صباح بأن الحياة تصفعنى، وكم من المرات رغبت فى الانهيار والاستسلام لليأس التام، صار جوع الجسد بعد أشهر طويلة من الغربة يذلنى ويُلح على، فأضطر رغما عنى إلى تخفيفه بإمتاع نفسى مهزومة ومنكسرة عارفة مقدار ضعفى.

كنت أمتع نفسى متخيلة أحمد ملتصقا بى، أستحضر بذهنى جسده الفتى الشهى، لم أكن أعرف من قبل وقاحة الغريزة، إنها تعوى فى قلب الليل وفى ازدحام العمل ووسط الناس مطالبة بحقها فى الإشباع، تُرى ما دواء جوع الجسد هذا؟.. صرت أحتقر نفسى، لقد طلقنى أحمد فبدأ جوع الجلد يولد فى عقلى أفكارا مجنونة، لم لا أقيم علاقة مجنونة مع أحد المتوددين لى فى العمل؟»

5- نساء نجيب محفوظ

لا أعتقد أن هناك أديبا استطاع أن يرسم المرأة بألف ريشة.. وأن يصنع من وجه كل امرأة مئات الخطوط أكثر من أديبنا العظيم نجيب محفوظ.

فالأديب الذى جاء من أكثر المناطق شعبية، حى الجمالية.. حيث الرجال يخبئون النساء تحت عباءتهن، وحيث النساء تقف خلف المشربيات لتلمح خيال «أبو الشريط الأحمر» فتدق قلوبهن، وحيث الفتوات الذين يحمون الحارة بالعصا الغليظة ويبحثون عن الدفئ بين أحضان الغانيات، استطاع هذا الأديب من خلال متابعته لأمه وجاراته وإخوته، أن يلتقط مئات البطلات لرواياته، فرسم صورة للعديد من النساء.

«أمينة»، زوجة سى السيد فى الثلاثية، التى حبسها زوجها بإرادتها البحتة بين أربعة جدران، زوجة لا تعرف إلا سعادة زوجها وأُم لا يرضيها إلا ابتسامة أبنائها، «نفيسة» فى رواية بداية ونهاية، فتاة ساقطة يائسة بسبب فقرها وجهلها ودمامتها، يمتلئ جسدها بالحيوية والرغبة فى الحياة، ولكن وجهها الدميم يخذلها وجهلها يقودها باسم الحُب مغمضة العينين إلى مصير محتوم، حين تُخطئ ويستقر جسدها فى أعماق النيل.

«إحسان» فى رواية القاهرة الجديدة، طالبة شديدة الفقر، تعيش فى أسرة مثقلة بهموم الحياة، تبحث عن طريق للهروب من فقرها فلا تجد إلا جسدها، فتمطى جموحه، وتقرر بعد أن يبيعها البشر أن تمتلك هى زمام الأمور وتصبح قوادة على جسدها، فلا تُعطى إلا ما تسمح به ولا تعتلى صهوة جواد إلا إذا أحبته، فتقع فى قبضة مجتمع أنانى استبدادى يقسو عليها ويلقيها بين أحضان السياسة والمال، وبين هذا وذاك تلعب إحسان دورها ببراعة فى مسرحية عبثية يخرج فيها جميع الممثلين عن النص، ليسقطوا جميعا فى نهاية صراع الرواية.

ويصف «زهرة» فى رواية «ميرامار» بقوله: إنها ابنة الريف.. الفلاحة الجميلة التى تربت على القيم، ولكنها تبحث عن نفسها فى دنيا لطالما حلمت بها، فتهرب من قريتها لتعمل خادمة فى بنسيون ميرامار بالإسكندرية ليطمع فيها نزلاء البنسيون، و«حميدة» بطلة رواية «زقاق المدق»، فتاة شديدة الطموح شديدة الطمع وشديدة الاعتزاز بنفسها، عيونها الجميلة تتطلع إلى ما هو أبعد من الزقاق، فتنظر من خلف الشباك إلى حياة أكثر رفاهية وثراء، وحين تنتقل إلى قلب المدينة بضجيجها تنحرف هى الأخرى وتسقط فى هاوية الخطيئة.

من أمينة وحتى حميدة.. يغير نجيب محفوظ صورة المرأة من الانكسار والخنوع إلى التمرد والثورة، ومن تضحية الأم إلى طموح الأنثى.. يرسم محفوظ تطور العصر فى شخصيات بطلاته وأحلامهن.


6- المرأة وطن نزار قبانى

تاء التأنيث فى حياة فارس الشعر نزار قبانى تمثلت فى أمه وأخته وزهور الياسمين ووطنه دمشق.

لم يكن نزار قبانى مجرد فارس ولا شاعر ولا حتى سفيرًا لبلاده، كان مجرد رجل حمل أبيات شعره على ظهره وجاب البلاد ليحرر النساء ويكسر أصفادهن بأبيات شعره التى كانت ومازالت هى مصدر القوة لنساء العرب.

تعلم من أمه «أم المعتز» أن الأنثى حضارة وقارورة عطر ومأذنة المسجد، تعلم منها احترام النساء، لتنساب الكلمات من بين يديه تحمل أحلامهن وتتغلب على مطامح الرجال فيهن، ويعترف نزار بأن علاقته بالنساء كانت محكومة دائما بأمه التى غمرته بحنانها وحبها منذ نعومة أظافره وحتى صار رجلا.

كان السبب الأول فى فشل علاقاته العاطفية هو فشل كل نساء الأرض فى الجمع بين شخصية الأم وقلب الحبيبة، فلطالما رأى الرجال لصوصا للأجساد ولطالما وصف النساء بكونهن كيانا هشًا ضعيفًا.

يقول نزار: «لا أدرى لماذا يعترينى الشعور أحياناً أن العلاقة بين الرجل العربى والمرأة العربية هى علاقة عقارية، ينطبق عليها كل ما ينطبق على العلاقات العقارية من معاينة ودفع رسوم واستملاك، إن الرجولة كما يفهمها مجتمع الرجال لدينا هى القائمة على الكسر والقمع وإلغاء إرادة المرأة.. النساء كالرجال لسن كلهن قديسات ووادعات وضحايا، فالضحية ليس لها جنس، فقد تكون امرأة شفافة كدموع الكريستال وقد تكون رجلا له شارب وعضلات ويحمل مسدساً.

وحين يقع نزار فى عشق بلقيس ويتزوجها، يجد أمه ووطنه فى عيون زوجته، بل يزرع زهور الياسمين بين جدائل شعرها بأشعاره، وحين تغتالها يد الإرهاب الغاشم وتسقط ضحية صراعات سياسية بين يديه تسقط دنياه وتتحطم أحلامه.. لا يمكن أن تكون أكرم من المرأة، فإن أعطيتها الأمان كانت لك وطناً».. هكذا رأى نزار المرأة وهكذا خلدها بين سطور أشعاره.