محمد حسن عبد الله يكتب: ( جرة عسل ) من غير تشاؤم

ركن القراء

محمد حسن عبد الله
محمد حسن عبد الله


( جرة عسل )
من غير تشاؤم ..
 لا يزال حديث الموت يستحق إضاءات تؤكد على أنه أمر حتمي ، وينبغي إدخاله في حساباتنا مهما كان الموقف من الحياة ذاتها ، ودرجة الإيجابية في مواجهتها . 
 الروائي الناقد الإنجليزي الشهير ( إي . أم . فورستر ) في مقدمة كتابه عن " أركان الرواية " حصر حقائق الحياة في خمس ( الميلاد – الطعام – النوم – الحب – الموت ) ورأى – بحق – أن كتاب الروايات لم يهتموا بغير عنصر واحد هو ( الحب ) فلم نشاهد أطفالا يولدون في الروايات ، وكأنما يظهرون في سياق الرواية ، وكأنهم وصلوا في طرد بريدي !! وكذلك لا نشاهد أبطال الرواية يأكلون ، أو وهم نيام ، وكذلك فإن الموت يهبط كصاعقة ، أو يتسلل كموجة دون أن يوضع تحت الأضواء . أما الموضوع الجدير باهتمام الروائيين فهو ( الحب ) وحده ، وقد برر " فورستر " للروائيين هذا الانحصار ، والانحسار في موضوع واحد ، بأن ( موضوع الحب ) دون غيره قادر على أن يحمل في أطوائه موضوعات أخرى على جانب من الأهمية والخطورة ، ويستطيع الحب وحده أن يطويها في سياقه دون افتعال يذكر : كأن يقوم الحب بين مختلفين في الدين ، أو في الطبقة ، أو في الثقافة والفكر ، أو في المستوى الاجتماعي والثروة ، أو الجمال ، أو الجنسية ، أو العمر ، أو المعتقد السياسي ... هذه كلها قضايا شائكة يصعب طرحها – فنيا – بصورة مباشرة في قضية محددة بسياق روائي ، غير أن القارئ ( المتلقي ) سيتقبلها حين تتجسد في علاقة حب بين رجل وامرأة !!
 وهذا حق ، ولكنه ليس كل الحقيقة ، فقد دلت عصور الرواية بعد فورستر ( وقد لقيته واستمعت إليه حين جاء إلى جامعة الكويت أستاذا زائراً في رحلته بين إنجلترا والهند عام 1969 ) بما يعني أن فنون الرواية طرحت موضوعات لا تقوم دعامتها الأساسية على تشابك العلاقات الغرامية بين فتى وفتاة ، أو رجل وامرأة . وقد تكون الروايات السياسية والروايات التي تأخذ موضوعها من التاريخ صالحة لأن تبرهن على ذلك . 
 هناك كُتاب اهتموا – في رواياتهم – بالموت من الناحية الطقوسية ( إجراءات ما يسبق موارة الجثة – الدفن ) ونذكر في هذا المقام رواية " كفاح طيبة " لنجيب محفوظ ، ففي سلسلة المعارك المتصلة بين جيش مصر والهكسوس هُزم أول من تصدى للمقاومة ( سكننرع ) وفي معركة تالية انتصر خليفته وابنه ( كاموس ) وفي لحظة زهوه بالنصر واستعراض ميدان المعركة نهضت فجأة ( جثة ) من بين قتلى الهكسوس وطعنت الملك المنتصر طعنة أودت بحياته !! لقد حُملت جثة الملك الشهيد البطل إلى المعبد وأجريت لها الصلوات الواجبة بعد عملية التحنيط والإعداد التي احتاجت إلى عدة أسابيع ، وكان هذا كله يجري قبل أن يتولى ابنه ( أحمس ) رئاسة الدولة وقيادة الجيش لتتم على يديه عملية إجلاء الهكسوس عن مصر نهائيا .
 وفي رواية : " خذها .. لا أريدها " للأديبة الكويتية المتميزة ( ليلى العثمان ) صورت في صفحاتها الأخيرة مراسم وطقوس الدفن المسيحي ، بما يجعل منه عملا جماليا يجمع بين وقار الموت ، واعتباره بشارة لحياة متجددة يعيشها من نراه فاقد الحياة بين أيدينا في حين أنه يتمتع بها في رحاب خالقه سبحانه وتعالى . وفي هذه الرواية لليلى العثمان ارتدت المتوفاة فستان زفافها وسكبت زجاجات العطر على جثمانها ، فكانت تزف عروسا بمعنى الكلمة ، وإن كانت فاقدة الحياة الأرضية . 
 أما أحمد شوقي في مسرحية " مصرع كيلوباترا " فقد سبق الجميع بأن جعل من رحيل كيلوباترا بإرادتها عملا محاطا بالكبرياء ، وبالشموخ ، وبالجمال ، وأخشى أن أقول : وبالحياة كذلك !!