فرح الهاشم تكتب: حكاية الشال الأحمر

ركن القراء

بوابة الفجر


داهمني شعور غريب هذا الصباح يشبه الحنين، فأعدت قراءة قصيدة نثرية لرولاند بارت تحت عنوان "أحب، لا أحب" يعدد فيها كل ما يحبه وما لا يحبه، ثم  تذكرت اني قرأتها للمرة الأولى في بيروت في ليلة شتاء باردة لا اذكر في أي سنة ولكنني أتذكر برودة الشتاء جيدًا.

 

واذكر إنني أمضيت معظم أيامي هناك في حالة اكتشاف لنظريات سياسية وفلسفية أثناء جلوسي على إحدى درجات سلم كلية الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية الأمريكية، وكانت تقاطعني خطوات أقدام زملاء يمرون بسرعة، ولكن لم تكن تمنعني من إكمال القراءة.

 

 كنت آنذاك أتعلم مبادئ اللغة الفرنسية واستمع الى سيرج جينزبورغ وأنا امشي ما بين منطقتي الحمرا والجميزة ليلا أو نهارا، كنت أعيد سماع الأغنية ذاتها أكثر من مرة وأشاهد أفلام جودار لنفس السبب، وأراقب شفاه أنا كارينا تتحرك وأحاول فهم ما تقول وأعيد المشهد أكثر من مرة، كنت اقضي الساعات وأنا أشاهد فيلما واحدا، فتوطدت علاقتي بالأفلام الفرنسية القديمة.

 

أعدت اكتشافها من وجهة نظر أخرى بعد مشاهدتي لأكثر من خمسين فيلما لجودار وتروفو ووايرك رومير وشانتال اكيرمان واغنس فاردا واكتشفت خلالها بان عدم فهمي للغة المحكية ساعدني في فهم اللغة السينمائية بشكل أعمق ووزع انتباهي على حركات الجسد والشفاه والعيون وما يدور حول الممثل حتى المشاهد الصامتة لباريس بالأبيض والأسود كادت أن تكون قصيدة. 

 

اخرج من ذاكرتي وأعود الى شقتي الصغيرة المطلة على شارع ريفولي، أقف حافية القدمين أمام النافذة، انظر الى ما خلفها، فأرى أناسا هنا وهناك احدهم يقرا كتابا عن الماركسية فابتسم وأقول لنفسي "هناك شيوعي في بنايتي.. جميل جدا".

 

ابتسم مجددا عندما المح سيدة عجوز تقطع الجزر ببطء على أنغام إحدى أغاني اديث بياف، فأعود إلى قهوتي ومطبخي الصغير، وانظر الى زوايا منزلي، لأقرر أن اخرج.

 

كثيرة هي الأشياء التي تشغلني هذا الصباح لكن جاري الألماني الذي كان يهبط درجات السلم الخشبي بسرعة في وقت مبكر هذا الصباح أشعرني بالانزعاج قليلا وأحسست بأنه يوقظ باريس من نومها الهادئ، أسال نفسي أين أنا؟ وأتذكر إني أمام هذا المنزل بالقرب من شارع المعبد الشهير والنهار مازال في بدايته، ولكن البدايات  تتشابه مع النهايات عندما يكون الفقر صديقي الدائم، وددت بان ابدأ يوما واحدا في هذه المدينة بلا دموع، بحثت في عشر مكتبات عن دفتر كبير بورق ابيض غير مسطر وجدت أنواعا مختلفة من الدفاتر بأسعار تتراوح ما بين عشرة و اثنتي عشرة يورو، كنت في حاجة الى دفتر خاص باللغة الفرنسية اكتب فيه مذكرات يومية كما طلبت مني أستاذة الأدب الفرنسي واكتب فيه يومياتي لاجرب لغتي، وكتبت " Je suis seul.. أنا وحيدة .. أحب القهوة.. J'aime Le Café .. Tu me Manques افتقدك.. ذهبت الى السينما ولم اخرج منها بعد Je suis allé au Cinéma mais Je ne suis pas parti Encore J'aime Le Painاحب الخبز Rue due Temple est Bondé de Gens   شارع المعبد مزدحم"، جمل قصيرة ومبعثرة على صفحات دفتر كلفني خمسة يورو، لم يكن لدي غير تلك العملة الورقية الزرقاء خمسة يورو فقط لا غير.

 

كنت اعد خطواتي ما بين منزلي و شارع ريفولي وأحس بان كل من الشارع يعلم بما في جيبي لم استطع ان ابتعد عن المنطقة، و لم استطع ان ابقى في مكاني، اخترت ان اشتري الدفتر وأؤجل فطوري الى يوم اخر فثمن الدفتر يضاهي ثمن فطور فرنسي، وهناك ايام نحتاج فيها ان نؤجل الإفطار من اجل شئ اخر ابتسمت، للمرة الثانية او الثالثة لا اذكر، أحسست بان هذا الدفتر أنقذني من جوع آخر.

 

 أكملت طريقي الى الجامعة، جلست في صف فارغ، في انتظار الآخرين .. لم يات احد كان من المفترض ان نقرا اليوم “مرحبا ايها الحزن” لفرنسواز ساجان، ولكن ربما لم يكن  هناك احدا يهتم بالحزن مثلي، جلست  للحظات كتبت جملا بفرنسيتي المتواضعة على الدفتر الازرق، قررت ان يكون يومي بلون دفتري .

 

في ذلك اليوم، كنت قد وعدت مخرجا بولنديا عجوزا بان اساعده في تحضير العشاء لسهرة  تحدث عنها في رسالته الي عبر الايميل٫  لم استطع ان ارفض طلبه، فقد قررت مساعدته في تحضير ما يمكن تحضيره من  طعام دون مقابل لانه  الصديق  الاول الذي تعرفت عليه في باريس ليلة راس السنة

 

جلس المخرج  المتقاعد على كرسيه في مطبخه القديم، واخذ يراقبني وانا اغسل العدس والأرز لتحضير طبق لبناني جنوبي يسمى “مجدرة”، امضيت حوالي الساعتين واكثر في تحضير عدة اطباق لبنانية فيما هو يحدثني عن سهراته السابقة وايامه المغادرة الى غير رجعة. وكيف حاول الهروب من باريس لانها مدينة غالية جدا وهي مدينة للاغنياء وليست للفقراء ولم تعد مدينة الفنانين  و الكتاب او المثقفين  بل اصبحت مدينة مادية وباردة.

 

 اكمل حديثه وتطرقنا معا الى  الحب  والسياسة وقضية فلسطين و اخبرني بانه جده كان يهوديا وعاش طوال حياته في بريطانيا ورفض الذهاب الى الدولة الصهيونية ثم تذوق ملعقة من المجدرة.

 

وقال: ”اتمنى ان اذهب الى فلسطين، لطالما كرهت اليهود ودولتهم التعيسة، واضاف.." جيراني في الطابق السفلي لبنانيون، ولكن لم اسمع عن المجدرة الا منك”.

 

اجبته: "هناك نوعان من اللبنانين في باريس “ من يحمل “مجدرته” معه ومن يحاول ان يخبئها تحت “البوف بورنغيون” او الباغيت” احتضنت الرجل العجوز وودعته. و اكملت طريقي  وحملت معي رائحة البصل  التي كان تفوح من ملابسي وكل من يعلم اهمية البصل للمجدرة سيعرف معاناتي مع رائحة البصل الذي رافقني طوال تلك الليلة.

 

في محطة القطار هاتفني احد الاصدقاء ودعاني لحضور راقصة لبنانية فرنسية في مسرح المينيليمونتون ذكرني بمسرح الجميزة في بيروت ووافقت على الفور علما باني لا املك سوى دفتري الازرق ووشاحي الاحمر وتذكرة مترو وجيب فارغ.

 

+++

 

“هذا ما قلته لصديقي ونحن في طريقنا الى المسرح”

 

 ركضنا قليلا وانفاسنا تسابقنا،  و البرد قارس واخرجت عدة كلمات متقطعة بصعوبة فلم اشعر بشفتي حتى وجدت نفسي جالسة ودخان سيجارة الصديق يملا المكان فهو يعمل في السينما ويدخن كثيرا ويحب التقاط اللحظات الغريبة ودائما ما اراه ورا ء عدسة هاتفه يحاول تصوير كل شيئ ويحوله الى لقطات سينمائية.

 

ابتسم وبادرني قائلا

 

“لا املك سوى ستة يورو فقط”

 

ضحكنا سويا لم نشعر بحاجة الى المال في تلك اللحظة. اكتشفنا اننا نشبه بعضنا.

 

على الاقل هو يتحدث العربية. لكنه يتقن الفرنسية فهو مغربي يعيش في فرنسا منذ ولادته.

 

واسمه بكر.

 

 يكفي اننا نملك لغتنا.

 

فهذا يمنحنا الشعور بالامان في بلد اوروبي كاننا نملك سرا كبيرا لا احد يعرفه غيرنا.

 

هذه الحميمة لا يعرفها سوي المتحدث بالعربية.

 

جلس كل واحد منا على كرسيه في منتصف القاعة وما ان بدات الراقصة بتحريك جسدها شعرت انها ترقص لبيروت. بيروتها المختلفة تماما عن المدينة التي نعرفها لكنني افهمها تماما.

 

كانت خلفية المسرح تعرض شريطا عن الحرب الاهلية سيئة الذكر والراقصة تتحرك ببطء شديد وكانها تتالم حزنا علي مدينة فقدت الكثير. من معالمها وبهجتها.

 

بعد مرور ساعة على العرض. اكتشفت انا وصديقي بكر   ان هناك نوعا ثالثا من اللبنانين  في باريس هؤلاء الذين يعيشون في كبسولة زمنية توقفت عند لحظة هروبهم من بيروت في منتصف السبعينات.

 

 انتهت المسرحية. .. قررت ان اعود الى المنزل سيرا  على الاقدام  بسبب اغلاق المترو مبكرا. فجاة وجدت نفسي امام سيدة شقراء كانت تسير خلفي  شعرت بالخوف للحظة واكملت  طريقي مسرعة  واحسست بانها تلحق بي.

 

و فجاة بادرتني قائلة 

 

“اعلم انك قرات كتابي”

 

نظرت اليها لاتبين ملامحها فوجدت انها تشبه صورة امراة كنت اقرا عنها كثيرا في كتب  قديمة وهي كميل كلوديل ، بدات بالتحدث معي باللغة الفرنسية،وحاولت ان اجيبها على اسئلتها باقتضاب. كانت تبدو متعبة وجهها شاحب.

 

سالتني

 

“هل انت بمفردك في باريس؟” هززت راسي بنعم

 

 ثم اكملت حديثها قائلة “ انا بمفردي  هنا، ايضا هربت من مستشفى، لا اذكر اسمه، ولكنني امضيت الساعات الثلاث الاخيرة متنقلة من قطار الى اخر حتي وصلت هنا

 

 كانت الساعة الواحدة صباحا،  بدت لي باريس كمدينة  مهجورة، اعطيتها وشاحي الاحمر، وقلت لها

 

 “منزلي ليس بعيدا من هنا هل نكمل الطريق معا فالبرد قارس لا يرحم.

 

امسكت بيدي فاحسست بدفء يدها . واردفت قائلة” “باريس صارمة. خصوصا مع المراة. لا اريدك ان تعودي الى المنزل لوحدك، ساكمل طريقي معك، انا كميل  كلوديل وانت ما اسمك…؟

Portrait of Camille Claudel 

Portrait of Camille Claudel 

 

حاولت كلوديل انت تحتضنني. غمرتها واحسست انها ليست من هذا الزمن، او ربما هي مختلفة، ففستانها الرمادي شفاف للغاية ولا يلائم شتاء هذه المدينة الصعبة. قالت انها في طريقها الى مونماتر  لتبحث على منزلها  ثم وقفت في منتصف ساحة بوازينير …

 

اعتقد ان منزلي في مكان ما هنا، لذلك من الافضل انت تاتي معي.

 

لم اتردد في الذهاب مع تلك المراة، لا اعلم لماذا، احسست بانها صديقتي منذ زمن بعيد، وكانها تعرفني جيدا، امسكت يدي ومشينا سويا و ابتسمت عندما اعطيتها وشاحي الاحمر. بعد دقائق وجدت نفسي في مونماتر السحرية

 

وبالاخص امام محطة اباسي، صعدنا ادراجا كثيرة، اكملنا طريقنا في الصعود نحو "السكر كور" .. كنيسة القلب المقدس،.

 

كان الهدوء يعم المكان فلم اسمع الا ضربات قلبي تتصارع مع نفسي المتقطع السريع وانا اصعد تلك الدرجات العالية وكلوديل تسبقني بعدة درجات، كانت تضحك وتردد كلمات ..

 

مكتب البريد لا زال هنا، السلالم لم تتغير .. ومنزلي خلف تلك الشجرة، وصلنا بعد دقائٍق ..   لم استطع حبس انفاسي فسلالم الساكر كور كثيرة. جدا  ومع كل قفزة تتبعثر الافكار وتسقط خلفك حتى تصل الى النهاية .. ثم  تقف  لتاخد ما تبقى من انفاسك وتنظر الى باريس من فوق  وكانك محلق فوقها.. ..

 

تقف كلوديل والهواء يداعب الشال الاحمر حول  عنقها.

 

“ باريس جميلة من بعيد... جئت هنا منذ عدة سنوات ومكثت لمدة اسبوعين. لم اكن سعيدة. ولا اعلم اين رحلت. ولكني افتقد منزلي وتماثيلي.

 

لقد قمت بتحطيمها ورميها من فوق هذه الحافة. حتى تحولت الى حطام عند وصولها الى الدرج الاخير.”

 

تسمرت في مكاني، ابتسمت، لم اصدق ما سمعت، ركضت نحوها وغمرتها ثم بكيت.

 

“لطالما احببت تماثيلك يا كميل كلوديل. احببت نظرتك للمراة، فلا احد يرى جمال المراة مثلك.” امسكت بيدي ورجتني بان اتوقف عن البكاء ثم اكملنا طريقنا في اتجاه الشجرة تلك..  كانت شجرة وحيدة قديمة جدا خلف كنيسة "الساكر كور” وقفت  كميل امام باب خشبي احمر قديم، اطرافه متشققة واطرافه تتفتت كلما لمسه احد.

 

دخلنا الى منزل قديم. كانت هناك كنبة بنفسجية اللون كبيرة الحجم امام نافذة تطل على باريس. دخلنا على ضوء الشموع وكان البيت لم يهجر قط. جلست كميل على الكنبة البنفسجية واخذت تضحك بصوت عال وترددت اصداء ضحكاتها  في ارجاء المكان .

 

جلست على كرسي خشبي في الزاوية و نظرت الى بقية اشياء في المنزل. لم يكن هناك  اي مجال للتحرك بحرية فقد ازدحم المكان بتماثيل معلقة  لاجساد بلا رؤوس  ومجسمات غير مكتملة.

 

كل شيء كان مثاليا كما الحلم. جلست بين تلك التماثيل المصنوعة من الطين او الحجر.

 

“لا اعلم اذا كنت في  حلم ام حقيقة ولكنني اردت ان اقول لك بانك نحاتة عظيمة واغرمت باعمالك … “؛ قاطعتي قائلة

 

“ اعلم كل شيء عنك، واعلم انك تحبين تماثيلي،  لذلك اريد ان  اشكرك لانك اوصلتيني الى منزلي وعلى هديتك لي هذا الوشاح .. هل تعلمين بان لوني المفضل هو الاحمر؟”

 

“لطالما رغبت بان اعيش في باريس و اقع في حب فنان او كاتب، اعجبت برودان، واحببته بجنون، وودت ان اكون ملهمته و اصبحت كل شيئ في حياته واصبحت باريس مجرد خلفية لقصة حب معقدة بيني وبينه، ولكنني لا اعلم ماذا حدث له عندما نجحت كنحاتة . تغير معي كليا، واصبح باردا وفجاة تحولت باريس الى مدينة متوحشة. حاولت الهروب. من ذلك المصح .

 

 هل تعلمين بان رودان حاول قتلي ؟ ووالدتي ادخلتني الى مصح للأمراض العقلية لانني شككت لحظة بان فنانا كبيرا يحاول قتلي بسبب موهبتي.؟

 

هل تعلمين بان حياتي اصبحت مهمشة منذ اللحظة التي دخلت فيها الى هذا المصح ولم استطع البقاء هناك لذلك قررت الهروب. فلا احد يعلم اني في باريس غيرك"

 

أكملت كميل حديثها، وهي تبحث عن وعاء وضعت  ماء ومادة غريبة تشبه الطين تستخدم لصنع الوجوه. وجلست على الأرض ثم بدأت بتكوين وجه بلا ملامح، وبصمت انتظرتها ان تتكلم، لم تكمل حكايتها و قالت لي: "اريد ان أحفظ وجهك واتذكرك لانك الصديقة الوحيدة لي في باريس الآن، اريد ان ابقي وجهك معي في هذا المنزل قبل ان تعودي الى منزلك".

 

لزمت الصمت ونظرت إليها، بدأت كميل بتشكيل ملامحي وقالت لي اري نفسي في عينيكي ارى هذا الحزن الأزلي وكانه شئ اساسي نحتاجه قبل ان نختار باريس مدينة إقامة لنا، تابعت تشكيل ملامح وجهي.

 

وخلال دقائق أصبح وجهي  كاملا بين يديها.

 

أنها الساعة السادسة والنصف صباحا،، أيقظتني خطوات جاري الألماني نفسه، فتحت عيناي نظرت حولي ثم أكملت نومي .