عادل حمودة يكتب: عار النواب ورشاوى المحليات فى قضية "الكافيهات"

مقالات الرأي



■ نحاسب سائق القطار المهمل على قتل أبرياء ولا نحاسب رؤساء الأحياء على نفس الجريمة التى تقع فى الكافيهات

■ القانون الذى يقول إن محافظ القاهرة لا أحد فوقه يحكم بغرامة هزيلة عند فتح الكافيهات المخالفة لا تزيد على مكسب ساعة واحدة فى أكثرها تواضعا

■ عار أن يطالب نواب فى البرلمان بتقنين أوضاع الكافيهات المخالفة على طريقة المصالحة مع الفاسدين بلجنة إدارية تمثل اعتداءً من السلطة التنفيذية على السلطة القضائية


تحترف الأجهزة الرقابية فى مصر ــ بوسائل تكنولوجية متطورة ومذهلة ــ اختراق المؤسسات والشخصيات الفاسدة المختبئة وتأتى بها ولو كانت فى بطن الحوت.. لكن.. المثير للدهشة.. أنها تتجاهل المؤسسات والشخصيات الفاسدة المنتشرة حولها.. وتمر عليها صباح مساء.. وتتلقى التحية من أصحابها.. وربما.. تعاملت معها دون تفتيش فى ذمتها القانونية.. أو سجلاتها الإجرامية.

تنجح هذه الأجهزة بسهولة فى الإيقاع بفاسدين كبار ومسئولين أكبر دون تردد.. وتجرجرهم إلى مراكز التحقيق قبل أن تدفع بهم إلى محاكم الجنايات لينالوا ما يستحقون من عقاب.. لكنها.. فى الوقت نفسه تترك مئات من الكافيهات «الاسم المودرن للقهاوى» بلا تراخيص إدارية.. لتخرج منها سحب أدخنة الشيشة» المرضية بلا التزمات بيئية.. وتتصرف مع روادها ببلطجة سافرة دون عواقب جنائية.. ولتزحف على الشوارع الرئيسية والجانبية وتسدها وهى تخرج لسانها للمواجهات الأمنية.

بين كل كافيه.. كافيه.. وبجانب كل كافيه.. كافيه.. وخلف كل كافيه كافيه.. وتحت كل كافيه كافيه.. حتى أصبحت مصر غابة من الكافيهات.. وفى الغابة كل شىء مباح ــ بحكم قانون الأنياب والمخالب ــ حتى القتل.. وهو ما حدث مع ضحية كافيه مصر الجديدة محمود بيومى شهاب الدين الذى دفع حياته ثمنا رخيصا لمناقشة حول فاتورة المشاريب».

كانت مصر كلها تشاهد مباراة منتخبها القومى فى نهائى كأس الأمم الإفريقية فى حالة من التوافق الاجتماعى والسياسى لم تحدث منذ ثورة يناير 2011 وفى حالة من الاطمئنان النفسى والأمنى لم تشعر بها منذ ضربها الإرهاب.. لكن.. تلك اللحظات الرائعة النادرة تبددت بالطعنات التى تلقاها شهاب الدين فى صدره.. لتكشف جريمة القتل عن جريمة أكبر.. جريمة فساد مسئولين فى الأحياء كلها.. تركوا الكافيهات تتكاثر دون سند قانونى واحد.. ولا يمكن أن يحدث ذلك دون رشاوى تدفع لهم.. وتخرسهم.. وتعميهم.. فهم لا يرون.. ولا يسمعون.. ولا ينطقون.. ولا يشمون.. ولو كانوا قد انتفضوا بعد أن وقعت الفأس فى الرأس فهذا لا يمنع أنهم شركاء فى الجريمة.. تجب محاسبتهم قبل محاسبة القتلة الذين نفذوها.

لأن القانون يحاسب سائق القطار المهمل الذى يتسبب فى قتل أبرياء ولا يحاسب رؤساء الأحياء على نفس جريمة الإهمال التى تؤدى أيضا إلى قتل أبرياء.. الجريمة واحدة.. ولكن عقابا هناك وتكريما هنا.

استيقظت الأحياء متأخرة.. فكانت مثل سيارة إسعاف تصل إلى المصاب بعد وفاته.. أو مثل سيارة إطفاء تصل إلى الحريق بعد أن يلتهم كل ما حوله.. أو مثل شخص سافر لأداء فريضة الحج بعد انتهاء طقوسها.

والمؤكد أن هناك أجراس إنذار دقت من قبل.. لكن.. أهل الكهف فى الأحياء أغمضوا عيونهم عمدا.. وسدوا آذانهم عمدا.. ودخلوا فراشهم بعد صلاة العشاء.. وادعوا أنهم غارقون فى سبات عميق لن يستيقظوا منه إلا إذا قامت القيامة.

لقد تقدم أستاذ القانون الدولى الشهير (والعميد الأسبق لكلية الحقوق جامعة الإسكندرية) الدكتور هشام صادق بعشرات البلاغات والشكاوى لمسئولى حى كفر عبده ضد الكافيهات التى انتشرت كالسرطان فى الحى الهادئ الذى يسكنه.. وضاعفت سيارات الزبائن من صعوبة المرور.. وصعب على فتاة أن تمشى بمفردها دون أن تتعرض للتحرش لفظا أو لمسا.. وجلس اللصوص عليها يرقبون أصحاب الشقق التى سيسرقونها.

أصر الرجل ــ الذى ساند مصر فى كثير من قضاياها الخارجية ــ على إزالة الكافيهات من حوله.. إذا كيف يسكت وهو رجل قانون على مخالفة القانون ؟.

وأمام عناده.. تهددت حياته من أصحاب سوابق يسمونهم حراس أمن.. ومن شباب مدمن باعوا له المخدرات فى الكافيهات.. وقدم الرجل سرنجات الحقن أدلة على صدق بلاغاته.. ورغم ذلك لم يجد من ينصفه.

لكن.. ما أحزنه أكثر.. أن لا جهة محلية أو أمنية واحدة نجحت فى مواجهة إمبراطورية الكافيهات.. فالمكاسب التى تحققها تمنحها قوة الرشوة.. وتجعلها تتحمل بسهولة إعادة بناء ما يهدم منها فى ساعات قليلة وقبل أن يلحظ أحد ما جرى لها.. خاصة أن الضربات التى توجه إليها ضربات خفيفة.. تكتفى عادة بزجاج الواجهة فيسهل تغييره.

إنها ضربات مائعة لا تزيد فى الحقيقة على تسديد خانات وبلاغات ليرفع الصغار للكبار ما يفيد بأن الأمور تحت السيطرة.. تمام التمام.

لقد عشت هذه التجربة بنفسى عندما استيقظت ذات يوم لأجد ثلاثة كافيهات فى المربع السكنى الذى أعيش فيه ليتحول الشارع الهادئ فى مصر الجديدة إلى مولد لا ينفض.. وما زاد وغطى وجود صالة أفراح فى نفس العمارة.. بجانب أكشاك ومعارض سيارات ومحلات عصير احتلت الرصيف وشجع ذلك سيدة جاءت ببوتاجار تقلى فوق نيرانه طعاما تبيعه لمن يشاء.. ليتحول الشارع إلى مولد.. مولد وصاحبه حاضر.

ورغم أن الحى يقع على بعد دقائق من المشهد إلا أن رئيسه السابق عزل نفسه فى مكتب يصعب الوصول إليه وأغلقه على نفسه وراح يلهو بمشاهدة شاشة الكاميرات التى زرعها خارج المبنى.. لكن.. سبحان الله لم تر كاميراته الكافيهات ومعارض السيارات.. ولم تسمع صخب قاعة الأفراح.. وكان يرد على شكوانا ــ إذا ما نجحنا فى الوصول إليه ــ بجملة واحدة بيروقراطية سخيفة : هاتوا لى دليل.. وكان الدليل الذى يحتاجه ــ على ما يبدو ــ جثة قتيل شاب يفقد حياته ومستقبله بلا مبرر.. كما حدث فيما بعد.

ودون تعمد جاءت السيرة فى حوار تليفزيونى كنت أتحدث فيه عن التمييز فى القانون الذى يخلق الفساد وضربت مثلا بما يحدث فى شارعى وفى اليوم التالى فوجئت بمجموعة من شرطة المرافق تكسر واجهات الكافيهات وتعطى تماما بتنفيذ المأمورية وقبل العشاء كانت أنوار الكافيهات مضاءة من جديد تخرج لنا لسانها فى سخرية.

لست ضد الكافيهات.. لكننى.. ضد زرعها عشوائيا دون تراخيص إدارية وصحية وبيئية ومراجعة جنائية كافيهات سرطانية ، إذا لم تقتل السكان من حولها بالحرق أو الدخان أو الصخب.. قتلتهم بالسكين.

ومن العار أن نسمع نوابا فى البرلمان يطالبون بتقنين أوضاعها الخاطئة على طريقة الغرامات التى نقبلها من العمارات المخالفة لشروط البناء.. أو على طريقة التسويات والمصالحات الإدارية التى نجريها مع فاسدين أدينوا جنائيا.. فى حالة غير مسبوقة تتجاوز فيها السلطة التنفيذية السلطة القضائية وتجور عليها بما يخالف دستوريا مبدأ فصل السلطات واستقلالها.

ما بنى على باطل فهو باطل وما أقيم على غش يجب أن يعاقب ولا يجوز إهانة القانون بإجباره على إصلاح ما فرضه الفساد.. جرأة.. ووقاحة.

إن القانون الذى يرى محافظ القاهرة المهندس عاطف عبد الحميد أنه لا أحد فوقه قانون هزيل لا يقوى على صلب طوله فهو لا يعاقب إلا بغرامة من خمسة إلى عشرة آلاف جنيه إذا ما فتح المقهى الذى أغلق إداريا كما ينص على أن غرامة فض الشمع الأحمر لا تزيد عن خمسين جنيها.. ولعل سيادة المحافظ لا يعرف أن أقصى غرامة فى هذه الحالة تسددها أرباح ساعة واحدة فى غالبية الكافيهات بما فيها الأكثر تواضعا.

وفى مقابل غرامات تقل عن مكافآت منفذى القانون تخسر الدولة مليارت الجنيهات سنويا بسبب فوضى الشوارع التى تفرضها إمبراطوريات الكافيهات ومعارض ومنادى السيارات.

إن غالبية دول العالم تؤجر مساحات من شوارعها للمقاهى والمطاعم المفتوحة بما لا يعتدى على حق المشاة فى الأرصفة كما أنها تحدد موعدا لإغلاقها وإن سمحت لمن يشاء بالسهر مقابل ضريبة متصاعدة على كل ساعة إضافية.

كما أنها لا تسمح إلا بوجود عدد مناسب منها فى كل شارع ولا تترك السيطرة تنفلت من بين أصابعها كما يحدث عندنا حيث أصبحت الكافيهات النشاط الاستثمارى الأكثر إغراء وأصبح المعسل الصناعة الوطنية الوحيدة التى نشتهر بها.

ولكن.. كالعادة.. سيقف أصحاب المصالح والموظفون المرتشون ضد كل ما يقلل من مكاسبهم.. وستكون حجتهم مغرية أمنيا.. دعوا الشباب الذى يعانى من البطالة يستهلك نفسه بنفسه على المقاهى وهو ينفث غضبه مع دخان الشيشة.

وهى حجة مدمرة اقترح أن تكون على جدول أعمال الدورة الجديدة لمؤتمر الشباب.

لكن.. قبل ذلك لابد أن نعترف بأن مسئولى الحى فى مصر الجديدة شركاء فى جريمة قتل شهاب الدين بتحضير مسرح الجريمة بما يغرى بارتكابها.. ولو كنا قد نشطنا بإزالة بعض الكافيهات المخالفة من باب إبراء الذمة فإن الواجب يفرض علينا محاسبة المسئولين عن تركها تأديبيًا إن لم تكن جنائيا.

وما أن تنتهى الهوجة ستعود الكافيهات غير المرخصة إلى ما كانت عليه.. وفى انتظار ضحية جديدة.. تحيا إمبراطوريات البلطجة حرة مستقلة.