"بهاء.. الحب فى زمن الثورة".. 90 عاما فى رحاب العقل المستقل

العدد الأسبوعي

الكاتب أحمد بهاء
الكاتب أحمد بهاء الدين


فى رحاب استاذى الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين قضيت ثلاث ساعات من الرقى والدفء، فبمناسبة مرور 90 عاما على ميلاده أقامت مؤسسة روزاليوسف احتفالا يليق ببهاء القيمة والقامة، ودونما اتفاق مسبق اختار جميع المشاركين أسلوب أستاذ بهاء.. الإيجاز المعبر والعمق السلس المبسط والموضوعية والجوانب المتعددة فى شخصية بهاء.. أدار الندوة المحاور مفيد فوزى، وشارك فى استعادة أيام بهاء وقيمه وأهدافه ومشروعه قمم المجتمع مصطفى الفقى وحلمى التونى ومحمد سلماوى ومحمد فائق ونبيل زكى ويوسف القعيد ولويس جريس وزياد بهاء الدين وليلى بهاء الدين وإبراهيم المعلم ويحيى قلاش ومحمد أبو الغار ومحمد عبد القدوس.

خلال الاحتفالية الرائعة تحدثوا عن بهاء الكاتب المستقل البعيد عن أى سلطان.. القومى العروبى.. المحب للفنون والحريص على تقديمها للمواطن.. العادى أو الناس بمعناها الواسع بنص تعبير بهاء، فعلى الرغم من أنه صاحب مشروع متكامل إلا أنه كان دوما يضع الناس والقارئ نصب عينه.. دائم السؤال ماذا يقول الناس وبما يفكرون وما هو الجديد الذى يشغل بالهم.. بهاء اتفق مع عبد الناصر فى مبادئه وتوجهاته دون أى علاقة خاصة بعبد الناصر إلا الرغبة فى إقرار العدل والجمال والاستقلال الاقتصادى والسياسى.

وبمناسبة الاحتفالية أعد الزميل رشاد كامل كتابا بعنوان «مقالات لها تاريخ» اختار بذكاء مقالات متنوعة من فكر وكتابات الأستاذ بهاء، كما قدم رشاد سيرة ذاتيه للأستاذ من كتاباته وكتابات أصدقائه، فبهاء لم يترك مذكرات.. ربما لأنه كان مشغولا بالناس أكثر من انشغاله بنفسه، ولذلك لم يتوقف بهاء عن الكتابة للناس إلا لمرضه فقط، لم يترك مسئوليته ككاتب ولم يستأذن يوما فى الانصراف، وقد كان مقاله اليومى «يوميات» أهم وأكثر مقال فى الصحافة المصرية والعربية تأثيرا.

وقد كنت أتمنى أن تتناول الاحتفالية جانبا هاما فى كتابات واهتمام بهاء، وهو القضايا الاجتماعية وفى القلب منها المرأة حقوقها وتطورها، فوحده بهاء انتبه بعد ثورة 23 يوليو إلى حتمية التطور الاجتماعى، وتأثير الثورة والتغييرات السياسية والاقتصادية على وضع المرأة فى المجتمع، وله مقالات بديعة وعميقة ورقيقة فى هذة القضية سواء فى مجلة صباح الخير أو أخبار اليوم فيما بعد وأخيرا فى مجلة نص الدنيا.

كان بهاء يبشر بالمرأة الجديدة التى لا تدور فى فلك رجل يحميها سواء كان أبا أو زوجا أو شقيقا.. امرأة لا تقف أنوثتها فى وجه طموحاتها ومشاركتها فى المجتمع.. امرأة لا تقيم بجمالها أو لون بشرتها، وإنما بعقلها وطموحها وعطائها.. رفض أن يتحول الحب إلى عبودية للمرأة وإنما علاقة سوية يسودها الالتزام من الجانبين، وله مقال شهير وعنيف على غير عادته بعنوان «لا يا شيخ».

فى هذا المقال يواجه الشيوخ الذين لا يرون فى المرأة سوى جسد وشهوة وقطعة لحم.. عورة يجب حسبها فى منزلها، وهو مقال صالح للتعاطى الآن بعد انتشار الفكر السلفى المتشدد المتخلف.

والحقيقة أن كل مقالات الأستاذ بهاء تتحدى الزمن وعابرة للعصور والأنظمة، وحين تقرأ مختارات من مقالاته التى نعيد نشرها فى هذا الملحق لم تشعر إلا بالتفاعل التام من جانب بهاء مع مشاكلنا الحالية وأزماتنا السياسية الاقتصادية والاجتماعية التى نعانى منها ونكتوى بنارها.

شكرا لكل من ساهم فى هذه الاحتفالية الرائعة، وشكرا لأستاذ بهاء الذى ترك لنا هذا الكنز من الأفكار التى تأخذ بيدنا، وتجيب على أسئلتنا الحائرة، وتؤنس شوقنا إليه وإلى كتاباته.


كيف تولد الأحزاب؟

تنفرد مصر - دون سائر بلاد الأرض «الديمقراطية» - بطريقة فذة فى تكوين الأحزاب.

فالطريقة المألوفة فى العالم أجمع أن يخرج الزعيم من صفوف الشعب، ينشئ حزبه ويجمع حول دعوته الجماهير، ويظل يكافح على رأس حزبه حتى يصل إلى الحكم.. أما فى مصر فالزعيم يصل أولا إلى الحكم، ثم ينشئ لنفسه بعد ذلك حزبا!

وكثيرة فى مصر الأحزاب التى ولدت هذه الولادة غير الطبيعية، منها التى ماتت ومنها التى لاتزال تعيش.

فما مغزى هذا الوضع المقلوب؟

مغزاه أن هذه الأحزاب لا تظهر نتيجة للأسباب الطبيعية التى تملى وجود الأحزاب.. كمصلحة مشتركة ومستقبل واحد يجمع بين جماهير معينة ويدعوها إلى التكتل فى حزب يعبر عن رأيها.. أى أن هذه الأحزاب ليس لها مفهوم اجتماعى أو اقتصادى يربط به الناس، وليست لها رسالة دائمة يمكن أن تعيش عليها زمنها المقدور.. إنما هى محاولات فردية لقوم منعزلين فعلا عن الجماهير، منقطعين عن فهم حركة تطور التاريخ، تخدعهم كفاياتهم الذاتية والظروف الوقتية التى دفعت بهم إلى السطح، فهم يتخذون الأحزاب لا لشىء إلا لكسب الصفة «التمثيلية» التى لابد منها فى نظام برلمانى!
وطبيعى جدا أن تموت هذه الأحزاب بأسرع مما يقدر أصحابها، ولنضرب مثلا بحزبى الاتحاد والشعب، أنشئ الأول بتشجيع من وزارة زيور، وأنشأ الثانى إسماعيل صدقى، وهو فى الحكم وزاد صدقى فأنشأ لحزبه دستورا وصنع بدستوره برلمانا، وظن أن التجربة يمكن أن تعيش.. ولكن مات الحزبان، وزعماؤهما على قيد الحياة!

خاتمة هى مصير كل حزب، لم يخرج من صفوف الناس ولكنه هبط عليهم! فيظل دائما غريبا عنهم ليس لحياته مظهر إلا الاجتماع بين جدران ناد أنيق فى أحد شوارع القاهرة الراقية، والوثوب إلى مقاعد الحكم فى بعض الظروف.. وبفضل الظروف لا بفضل تأييد التابعين!

فما أحرى من يريد أن ينشئ فى هذا البلد حزبا أن يسأل نفسه قبل أن يقدم: هؤلاء الملتفون حوله.. هل يلتفون حول فكرة راسخة أم حول سلطان؟ هل لهذا الحزب مذهب يمكن أن يكون عقيدة للملايين؟ هل له رأى كامل واضح فى تنظيم شامل للمجتمع أم أنه يحقق حاجة وقتية، جزئية، فحسب؟ هل له خطة مستقبلة يمكن أن يعيش عليها سنوات لا يقاس إليها عمر الزعيم مهما يكن مديدا؟! وأى فئات الشعب تلك التى يمكن أن تلتف حوله؟

ثم ليأخذ، من يريد أن ينشئ فى هذا البلد حزبا، هذا الدرس البسيط على الطبيعة: إن الشجرة الراسخة الوارفة لم تهبط على الأرض، ولكنها كانت بذرة خرجت من باطنها!

وإن حزبا بلا جذور تودى به أى ريح.

(28 إبريل 1952 روزاليوسف)


الأنوثة.. والرجولة!!

كتبت فى الأسبوع الماضى كلمة عن تدخين السجاير..

وقد تلقيت رسالة طريفة من فتى وفتاة، قالا إنهما خطيبان، يتبادلان الحب العميق ولكن شيئا واحدا يهدد حياتهما الزوجية المقبلة، هو: تدخين السجائر!

والمشكلة أنها «هي» تدخن بانتظام، فى حين أنه «هو» لم يذق طعم السيجارة فى حياته! وهى تعتقد أن من حقها أن تدخن، لأن التدخين ليس كالخمر التى تذهب بالعقل مثلا، إنما هو مجرد هواية أو مزاج كشرب القهوة أو الشاى.. وهو يقول إن التدخين ينافى الأنوثة التى يجب أن تتوافر فى المرأة.. وأنه لا يطيق أن يجلس مع زوجته وأصدقائه فى مكان عام، فتخرج من حقيبتها علبة السجاير والكبريت وتوزع السجاير على الحاضرين ثم تشعل سيجارتها، فى حين أنه هو لا يدخن!

كتب إلىَّ الخطيبان هذه الرسالة وطلبا منى أن أؤيد أحدهما..

وقد اخترت أن أنضم.. إليها!.

فليست هناك أى صلة بين تدخين السجاير، وبين الأنوثة أو الرجولة.

إن الأنوثة معنى نحسه نحن الرجال فى المرأة، وهو معنى دائم التغيير.

كانت «الأنوثة» مثلا فيما مضى هى الشعر المرسل الطويل، والثياب المعقدة الواسعة، والجسد «المربرب» البدين.. أما اليوم فإننا نرى الأنوثة متوافرة فى الشعر القصير والثوب البسيط والجسم المتسق الرشيق!

كانت «الأنوثة» التى ترضى الرجل هى أنوثة البنت «الخام» التى تسبل أهدابها حياءً وتتلمس مناسبة لتبدى حمرة الخجل فى خديها، وتجلس بين الناس صامتة لا تعرف مما يدور حولها شيئا.. فأصبحت الأنوثة التى تجذب أنظار الرجال أنوثة المرأة التى تعرف وتفهم.. وتتكلم.. أنوثة المرأة الناضجة لا الفجة الساذجة.

وكانت المرأة الشرقية- ولعلها لا تزال- تعتقد أن من الأنوثة أن تكون «غامضة»، محجبة النفس، مليئة بالأسرار.. إلى آخر هذا الكلام الذى تردده الحكايات القديمة.. ولكن العصر الحديث جعل هذه الصفات مبتذلة كريهة لا تمت للأنوثة بصلة.. «فالغموض» معناه فى الواقع أن عقل المرأة جاهل ونفسها «معقدة» وروحها غارقة فى الظلام، معناه أن المرأة لا تعرف ماذا تريد بالضبط، أو هى تعرف ولكنها-بسبب ما تراكم فى نفسها من عقد- لا تريد أن تعترف به، فتعلن أنها تكره فى حين أنها تحب، وتصد وقلبها مقبل، وأصبحت أنوثة المرأة الجديدة المستنيرة- المستنيرة العقل والنفس- تقوم على الصدق والبساطة والصراحة... تعرف ما تريد بالضبط.. وتطلبه فى شجاعة.. فهى تضع يدها فى يد الرجل، وتشترك معه فى رفع الجدار الذى يفصل بينهما، لا أن تقيم بدل الجدار جدرانا أو أن تحاوره فى لعبة «كالاستغماية» تجهد الطرفين، وتنهك أعصابهما.

إلى هذا الحد تغير معنى «الأنوثة».. شكلا وموضوعاً!.. تغير كما تغير أسلوب الكتابة مثلا.. كان أسلوب الكتابة البليغ قديماً يمتلئ بالاستعارة والمجاز والتشبيهات والكنايات أسلوب كله تعقيد وغموض.. وزخرفة ثقيلة فى السجع.. فأصبح الأسلوب البليغ الآن هو الأسلوب السهل البسيط الموجز المباشر، الذى يقودك إلى الهدف من أقرب سبيل!

كذلك كانت «الأنوثة» قديماً تبدو للناس فى حشد معقد من الاستعارات والتشبيهات فى جو من الغموض والخفاء والإبهام فأصبحت هذه الأنوثة شيئا ثقيلا على النفس وأصبحت الأنوثة المحببة هى التى تقدم نفسها فى بساطة، وصدق وإيجاز!

وكما تغير معنى الأنوثة، فقد تغير معنى «الرجولة» أيضاً.

كانت الرجولة فيما مضى معناها أن يكون الرجل مفتول العضلات عريض المنكبين، يستطيع أن يصرع عشرة رجال بضربة واحدة من يده!!.. وهذا هو معنى الرجولة الذى تقدمه لنا أفلام رعاة البقر مثلاً، ولكن المجتمع الآن ليس كمجتمع رعاة البقر!!.. حيث كان الرجل يكسب حياته ويؤكد تفوقه وشخصيته بذراعه.. إنه مجتمع تتفوق فيه صفات العقل والعلم والثقافة والكفاية الشخصية والخلق.. ويبرز فيه المهندس والطبيب والعالم والمحامى.. فلم يعد مظهر الرجولة فى الجسد الفارغ والقدرة على العدوان، ولكن فى الأفق الواسع والعقل الفاهم، والإحساس بالمسئولية والقدرة على النهوض بها.

كان معنى «الرجولة» فى الزواج مثلا أن تخاف الزوجة رجلها وترتعد منه وتكون فاقدة الشخصية إزاءه!! كانت النصيحة القديمة تنصح للزوج أن يذبح قطة أمام زوجته ليلة الزفاف فترتعد وتظل تخشاه طول العمر، ولم يكن هذا شيئا تأباه المرأة، بل كانت تحبه وتريده، لأنها نشأت عليه، ومن النساء من كانت تربط معصمها مثلا لكى تزعم لصاحباتها أن زوجها ضربها.. تباهيا برجولته!!

أما الآن.. فالرجولة فى الرجل هى أن يحترم زوجته.. أن ينمى شخصيتها لا أن يقتلها.. ذلك أنه واثق من نفسه ومن شخصيته.. فهو لا يخاف على نفسه من نمو الشخصية فى زوجته.

كانت الرجولة فى الرجل هى أن يعاقب وأن ينتقم وأن يكون أنانياً.. فأصبحت فى أن يصفح وأن يتجاوز فيما لا يتعارض مع مبادئه بالطبع!!

كان الرجل قديما، إذا تركته زوجته مثلا، طاردها بحكم الطاعة، وأرغمها على أن تعيش معه، فى خدمته.. وكان هذا يعد فى عين المجتمع «رجولة»، لأنه استعمل قوته وأرغمها على البقاء فى حوزته.. أما الآن.. فإن المجتمع المتحضر لا ينظر إلى هذا التصرف على أنه رجولة.. بل يرى الرجولة فى ألا تقوم علاقته الزوجية إلا على أساس الاختيار.. أن تكون الزوجة باقية بملء حريتها فإن رأى الزوج أقل سحابة تعكر سعادتها معه.. أو تغريها بالانفصال عنه.. سرحها.. بإحسان!!

ولعلنى استطردت، ولكننى لم أبعد كثيراً عن سؤال الخطيبين العزيزين.

فلا تحزن يا سيدى إن أصرت زوجتك على أن تدخن السجاير.. إن هذا لن ينقص من رجولتك ولن يذهب بأنوثتها كما أن السفور وقص الشعر والتعليم وارتداء الثياب البسيطة لم يذهب بأنوثة المرأة.. كما ظن البعض عندما كانت هذه كلها أشياء جديدة فى عيوننا كتدخين السجاير!!

أغسطس 1955


درس فى المبادئ.. كل عين لها ثمن!

ما هو مبدأك؟..

هل أنت اشتراكى؟ أم رأسمالى أم فاشيستى؟..

هل أنت مؤمن أم ملحد؟.. هل أنت «وجودى» لا تؤمن إلا بوجودك وبنفسك وبحريتك أنت فقط، أم اجتماعى تؤمن بوجود الآخرين أيضًا؟

ما هو مبدأك فى السياسة.. وفى الدين، وفى الحب، وفى الأسرة؟

أغلب الظن أنك ستهرش رأسك فى حيرة وتقول: ليس لى مبدأ معينا أو: أننى لم أفكر فى ذلك من قبل، أو سوف تهز كتفيك وتقول: وأنا مالى!

ولكن «أنا مالى» هذه مبدأ أيضًا، إنها مذهب فى الحياة واسع الانتشار فى مصر!.. مذهب سوف أحاسبك عليه بعد حين!

إن كل واحد منا له مبدأ، أراد ذلك أم لم يرد..

فلو أنك وضعت ثلاثة من الناس - مثلاً- فى موقف واحد.. فقد يتصرف كل واحد منهم بطريقة معينة، لماذا؟.. لأن كل واحد منهم يكمن فى نفسه مبدأ معينا، أو فلسفة معينة أو أخلاقا معينة..

أو.. إذا دخل ثلاثة من الناس لرؤية فيلم سينمائى واحد، فكثيرًا ما يخرج كل واحد منهم برأي.. لأن كل واحد منهم ينظر إلى الفيلم بمنظار خاص به.. واحد أعجبته إنسانية القصة مثلاً فخرج راضيًا والثانى افتقر السيقان العارية فى الفيلم فخرج ساخطًا لأنه ضيع وقته والثالث لا يوافق على التوجيه الاجتماعى فى الفيلم فهو لا ينقده..

المبادئ إذن ليست شيئًا ميتًا يرقد فى بطون الكتب، ولكنها شىء حى يسكن فى كيانك دون أن تدري.. وتحت تأثير هذه المبادئ التى تسكنك تسخط وترضي، تشقى وتسعد، تكره وتحب!

وليست المبادئ شيئًا خاصًا بك كفرد فحسب.. لقد لعبت هذه المبادئ دورًا أساسيًا فى حياة العالم كله.. قدمت ناسًا فى مواكب التاريخ.. ودفنت ناسًا فى ترابه!

الحروب والثورات الخنادق التى حفرت وأقواس النصر التى أقيمت، كانت كلها تجلبها المبادئ!

ومنذ أقدم الزمان، والمجتمعات تحاول أن تصوغ مبادئها فى قوانين.

فى أقدم قانون عرفه العالم وهو قانون «حمورابى» المحفور على قاعدة تمثال، تجد أول سطر يقول: إذا فقأ إنسان عين إنسان ثرى وجب أن تفقأ عينه، فإذا فقأ عين إنسان فقير وجب أن يدفع قطعة من الفضة»!

عين الغنى ثمنها عين، وعين الفقير ثمنها قطعة من الفضة فحسب.. أليس هذا مبدأ.. ألا يدلنا هذا المبدأ على كثير من الأوضاع التى كانت سائدة فى ذلك المجتمع القديم؟

وألا ترى - أخيرًا- أن دراستنا للمبادئ فى هذا الباب سوف تفتح عيوننا على حقائق كثيرة، ونجعل قلوبنا تنبض لأشياء جديدة.. مثيرة؟..

«بهاء»
يناير 1956


قبل إقرار الميزانية.. الاقتصاد فى خدمة السياسة

نكتب هذه السطور قبل أن يقدم معالى وزير المالية أولى ميزانياته إلى البرلمان، وما نحسب إلا أن الوزير الجديد سيكون مجددا فى ميزانيته، لا يضع نفسه فى القوالب القديمة التى كانت تقيد الأولين، وما نحسب إلا أنه سيتجنب تلك النظرة «المصرفية» التى ينظر بها البعض إلى الميزانية باعتبارها مجرد حساب متوازن بين الإيراد والمنصرف، فلم يعد التوازن شيئا يطلب فى الميزانية لذاته، بقدر ما أصبح مطلوبا منها أن تحقق فى النهاية نوعا من التوازن المعقول بين شتى الطبقات.

وقد أصبح الإحساس قويا وعاما بأن المشاكل المستعصية التى تعانى منها مصر، لم تعد تجدى معها الحلول الجزئية التي كانت تنهض بها بعض الحكومات، فقد كانت هذه الحلول الجزئية تترك دائما الفرصة أمام هذه المشاكل كى تستمر وتقوى، ولما كانت الميزانية هى المقياس الحقيقى لحالة الإصلاح، فيمكننا أن نقول إن الميزانيات السابقة ساهمت - على غير قصد - فى الإبقاء على الظروف التى تنمو فيها جراثيم هذه المشاكل وتحتفظ بضراوتها.

والذين يطالبون بعد ذلك بحركة إصلاح عميقة شاملة، يعلمون أن المال هو أهم العقبات، وأن ميزانيتنا بصورتها الحاضرة عاجزة عن القيام بهذه المطالب، فهى من ناحية أقل مما ينبغى لمطالب دولة تعيش فى القرن العشرين، وهى من ناحية أخرى غير عادلة.

أما عجز الميزانية فعلاجه فى البحث عن موارد أخرى لها، فبالرغم من كل ما يتردد ويقال، فإننا نرى أن أرض الضرائب عندنا مازالت أقل إذا قيست بغيرها فى سائر الدول، وقد أصبح من القول الشائع الآن أن الضرائب قد أصبحت ثقيلة مرهقة وأنها كادت تذهب برءوس الأموال أو تنفرها وتكرهها على الفرار من مصر، ولكنه قول لا يجد تصديقا من الرأى العام، فمن المعلوم جيدا أن الضرائب فى مصر أقل بكثير منها فى سائر الدول، والأرقام معروفة ولا تحتاج إلى بيان، فليس من المعقول أن تفر رءوس الأموال إلى الخارج لتستجير من الرمضاء بالنار.

فسلع الترف الاستهلاكية التى تبعثر عليها الأموال لماذا لا تحتمل ضريبة عادلة؟ وهذه الأرباح الاستثنائية لماذا ترفع الضريبة عنها، وهى مازالت بعد أرباحا استثنائية؟ والأرباح غير الموزعة لماذا لا تفرض عليها ضريبة كذلك؟ والضريبة العقارية التافهة لماذا لا ترتفع، وتتصاعد؟

فبراير 1949