حسام زيدان يكتب: القتل بسرعة 1126 كيلو متر في الساعة

مقالات الرأي

حسام زيدان
حسام زيدان


صباح مشمس كان.. السماء صافية.. ثمة فتاة تخرج أمام بيتها تنظفه كعادتها كل صباح، وصبي صغير يجد المسير إلي مدرسته، وعجائز يفتحون شبابيك بيوتهم القديمة يتلقون نسمات الصباح.. رجال ونساء ذاهبون إلى عملهم، وسيارات تسرع براكبيها إلي أعمالهم.. إنها المدينة، وليست أية مدينة فهي ذات موقع إستراتيجي على ساحل المحيط الهادي. 

الزمان قبل اثنين وسبعين عاماً، أحد أيام شهر أغسطس عام 1945م وتحديداً في اليوم السادس منه، وللدقة فهي الساعة السابعة والثلث صباحاً.. مدينة هيروشيما اليابانية، وهي أحد المواقع الإستراتيجية لجيش الإمبراطورية، المقاومة اليابانية كانت علي أشدها، وترفض تماماً الاستسلام لشروط أمريكا، فالحرب العالمية الثانية علي أشدها والضحايا بالملايين، مثل صمود اليابان حجر عثرة أمام الولايات المتحدة الأمريكية، فكان القرار من "هاري ترومان" بإلقاء القنبلة الذرية فوق "هيروشيما". 

انطلقت الطائرة "انيلوجاي بي 29" من إحدى القواعد الجوية الأمريكية بالمحيط الهادي وهي تحمل "ليلتل بوي" أو الولد الصغير، وهو الاسم الكودي الذي أطلقه قواد العملية علي القنبلة التي تبلغ عدة أطنان، الواجهة كانت اليابان، الحمولة هي أول قنبلة نووية بالعالم، الغرض إلقائها فوق أول مدينة تصلح لأن تكون هي حقل التجارب الأمريكي لتجربة هذا السلاح. 

كان شرط تفجير القنبلة أن يري طاقم الإطلاق الهدف بأعينهم، أي يجب أن تكون السماء صافية خالية من الغيوم، وقد تم تحديد مدينة هيروشيما بواسطة طائرات الاستطلاع لأنها كانت تتمتع بجو رائق وسماء صافية وشمس مشرقة، ظن أهلها معه أن الأجواء تصلح للخروج والتريض والتنزه، وهم لا يدركون بالموت المحلق فوق رؤوسهم. 

اقتربت الطائرة وحددت هدفها وسط المدينة، وكان خبراء أمريكا يقدرون أن المواطنين المدنيين سيلجأون إلي الملاجئ تحت الأرض كما هي العادة في الغارات الجوية، مما سيقلل من عدد الضحايا المحتمل. 

إلا أن اليابانيون لما شاهدوا الطائرة خرجوا يستطلعونها، فهي طائرة منفردة، فضية اللون، تعكس ضوء الشمس في مشهد خلاب بديع، ظنها الجميع أنها مجرد طائرة استطلاع، وهم لا يدركون أنها تحمل "القتل". 

رأي ملاحو الطائرة الأرض ظاهرة، وحددوا هدفهم، ودون تردد أطلقوا القنبلة، وكما هو مخطط تم التفجير علي ارتفاع 500 متر من سطح الأرض، وذلك لزيادة المساحة التدميرية للقنبلة، فعند وصول اليورانيوم إلي كتلته الحرجة تخرج منه طاقة تعادل ما يخرج من سطح الشمس، وقوة انفجارية تولد موجة تدميرية بسرعة 1126 كيلو متر في الساعة. 

70 ألف مدني ياباني قتلوا في العشر ثوان الأولي للإنفجار، من كانوا في مركز الانفجار اختفوا تماماً، المباني في مساحة 1500 متر تهدمت، المصابين البعيدين عن مركز الانفجار تجاوز عددهم 70 ألف آخرين، الجرانيت والفولاذ والزجاج والحديد احترقوا وتحولوا إلي كربون، تهدم أكثر من 60 ألف مبني، الأضرار بلغت 5 كيلومترات في كل الاتجاهات، شظايا الانفجار من قطع زجاج ومعدن أصابت من كان على بعد 19 كيلو متر من مركز الانفجار. 

الانفجار تولدت عنه 1176 درجة مئوية انطلقت فوق رؤوس 350 ألف ياباني، ولم تكتف أمريكا بهذه الدماء فهي تريد إلقاء قنبلة أخري فالأولي هي لتجربة الانشطار النووي، والثانية ستكون لتجربة الاندماج النووي، ولم يتردد الأمريكيون وقاموا بإسقاط قنبلتهم الثانية، والتي أعطوها اسماً كوديا آخر وهو  "الرجل البدين" فوق نجازاكي، وكانت آثارها مدمرة، تجاوزت خيال مصنعيها، وتجاوز ما أحدثته القنبلة الأولي في هيروشيما. 

أرسل الأمريكيون في هدوء أعصاب وبرود أسطوري طائرة مع الطائرة المسئولة عن التفجير كي تلتقط مشاهد متقنة للانفجار وتسجل آثاره، ثم أرسلت فرقها لتدرس الآثار التي تخلفت عن القنبلتين. 
قبل التفجير بأيام كانت روسيا قد أبقت بثقلها ضد اليابان، هاجمت اليابان بمليون جندي في منشوريا، وهنا بدأت اليابان تفكر جدياً في الاستسلام، لأنه لو انتصر الدب الروسي عليها فسيزيل الإمبراطورية اليابانية ونظامها الحاكم من الوجود، أما الاستسلام لشروط أمريكا فسيحافظ علي هذا النظام، واحتدم النقاش بين مسئولي الإمبراطورية حول هل يكملون الحرب أم يجنحون للسلم. 

لم يتوان الأمريكان عن خوض التجربة كاملة، وتم إلقاء القنبلة علي نجازاكي، بالرغم من كونهم يعرفون أن إلقاء القنبلتين لم يكن له التأثير المطلوب في سير الحرب، فاليبانيون لن يستسلموا، ودخول الروس الحرب كان هو صاحب الأثر الأكبر في التأثير علي القيادات اليابانية والتي رجحت أن الإستلام الغير مشروط هو ما سيدفع سيدفع الإدارة الأمريكية للإبقاء علي النظام الإمبراطوري الياباني. 

يعلم الأمريكان كما يعلم العالم أجمع الآن أن إلقاء القنابل النووية علي اليابان لم يكن له دوراً في استسلامها، فاستسلام الإمبراطورية اليابانية كان للإبقاء علي نظامها وفقط، ولو كان إكمال الحرب في مصلحة النظام الإمبراطوري لم تكن للتتوقف أبداً، والهجوم الروسي كان هو السبب الرئيسي في إعلان الاستسلام لشروط أمريكا، فهذا هو الضمان الوحيد للنظام الإمبراطوري للاستمرار. 

يعلم الأمريكان تماماً أن استسلام اليابان كان قادماً لا محالة وأنه لا جدوي عسكرية من إلقاء قنبلة أخري أو حتي أولي، والتي لن تحصد سوي أرواح المدنيين الأبرياء، ولكنها فقط فرصة لتجربة السلاح الجديد، ورصد تأثيراته علي البشر، والحجة الجاهزة إنها الحرب وإنه لا مكان للإنسانية، ولا وقت للمشاعر النبيلة فقط إضرب كي تنتصر. 

جريمة قتل واضحة ارتكبتها أمريكا، إطلاق قنبلة فوق رؤوس المدنيين وحصد مئات الآلاف من الأرواح بلا أي مكسب عسكري، في عشر ثوان اختفت مدينتين بإنفجارين خلفا أكثر من مائتي ألف ما بين قتيل وجريح، فقط كي يستطيع العم سام التأكد من فاعلية وفتك سلاحه الجديد، حيث تم القتل هنا بسرعة 1126 كيلو متر في الساعة، وفي ثوان اختفي آلاف البشر وكأنهم لم يولدوا قط.