عادل حمودة يكتب: كيف تكسب الحكومة ملايين الدولارات سنويا دون مجهود؟

مقالات الرأي



ربما لا يعرف أحد أن المكتب الذى كان يجلس عليه جمال عبد الناصر وهو رئيس جمهورية هدية سيسيل دى ميل بعد أن سمح له عام 1956 بتصوير فيلمه الوصايا العشر فى الأقصر وأبو رواش وبنى سويف بل أمده بكتائب من الجيش المصرى ليمثلوا جنود فرعون الذين يطاردون اليهود وهم يخرجون من مصر.

جسد شخصية النبى موسى النجم شارلتون هيستون وفاز الفيلم بجائزة أوسكار عن مشاهد شق البحر وحقق إيرادات تتجاوز المليار دولار حسب ما ذكرت سيسيليا دى ميل ابنة المخرج السينمائى العالمى فى كتابها عن أبيها الذى أرسلت نسخة منه مؤخرا إلى رئاسة الجمهورية بها صور نادرة عن مصر تستحق الاحتفاء بها.

لم يكن تصرف عبد الناصر غريبا فقد كانت مصر بآثارها النادرة وأسواقها القديمة ومناظرها المميزة بلاتوهات مفتوحة ومغرية لصناع السينما فى هوليوود منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضى.

كان تصوير الأفلام الأجنبية نوعا من الدعاية السياحية المجانية التى ننفق عليها اليوم ملايين الدولارات بلا طائل كما أنها دليل على استقرار الحياة السياسية فى البلاد.

ما الذى يحلم به وزير سياحة أكثر من أن يأتى إلى الأقصر نجمان مثل روبرت تايلور وإلينور باركر لتصوير فيلم مثل وادى الملوك الذى عرض عام 1955؟.

وكم شخص فى العالم جن بزيارة مصر بعد أن شاهد روجر مور (جيمس بوند) فى فيلم الجاسوس الذى أحبنى عام 1977؟.

وكم تساوى صور ميا فارو وبيتر ستينوف وهما يقفان تحت سفح الهرم أو يداعبان أبو الهول قبل تصوير فيلم الموت على النيل عام 1978؟.

أكثر من ذلك.. أمدت أطقم الفنيين الأجانب المصريين الذين شاركوا فى تلك الأفلام بخبرة تتجاوز ما تعلموه فى معهد السينما أو فى أفلام السبكى.. بجانب إطلاعهم على أحدث تقنيات التصوير والخدع السينمائية ولقطات الإثارة والأكشن.

وجاءت هذه الأفلام بفرص ذهبية لممثلين مصريين شاركوا فيها ليصبحوا نجوما عالميين مثل خالد النبوى الذى شارك شون بن ونعومى واتس فيلم «لعبة عادلة» قبل أن يطير إلى هوليوود ليشارك فى بطولة فيلمى «مملكة السماء والمواطن».

وقبله فتح صناع فيلم وادى الملوك باب العالمية أمام تحية كاريوكا ورشدى أباظة لكنهما لم يستغلاها.

كما أن الأفلام التسجيلية المثيرة عن الآثار الفرعونية التى صورتها قنوات مثل: ناشيونال جيوجرافيك وديسكفرى كانت سر شهرة الدكتور زاهى حواس.

وبالطبع.. كان تصوير الأفلام الأجنبية فى مصر يدر ملايين من الدولارات التى نحتاجها دون مجهود يبذل.. ودون أن نمد أيدينا طلبا لقروض تزيد من متاعبنا الاقتصادية ولا تخفف منها.. ودون أن نوقد أصابعنا العشرة شمعا لمستثمرين يتدللون ويشترطون.

لكن.. البيروقراطية المصرية الموهوبة فى وضع الحواجز والمسامير فى طريق الخير أفقدت بعثات التصوير الأجنبية أعصابها.. وكادت تطيح بما تبقى من عقلها وصبرها.. فهاجرت بعيدا عن خلقتها القبيحة وتصرفاتها الغبية.

تراجع عدد الأفلام الأجنبية التى تصور فى مصر من خمسة أفلام فى العام إلى فيلم واحد كل عدة سنوات.

فى عام 1981 صور فيلم جاليبونى بطولة ميل جيبسون وانتظرنا 24 سنة ليأتى إلينا جورج كالونى لتصوير فيلم سيرينا الذى شارك فيه عمرو واكد عام 2005.. وبعد ثلاث سنوات جاء هايدين كريستينيس وصامويل جاكسون لتصوير فيلم جامبر.. وفى العام التالى جاء ميجن فوكس وشيا لابوف لتصوير الجزء الثانى من فيلم المتحولون.. وبعد ست سنوات جاء توم هانكس لتصوير فيلم وصية لأجل الملك.

وليس هناك أسوأ من البيروقراطية المصرية فى اختراع الحجج القاتلة التى تردم هذا الكنز المتفجر بالعملات الصعبة.

مرة تدعى أنها أفلام تسىء إلى سمعة مصر وتشوه صورتها دون أن تدرك أنها لن توقف إنتاج الفيلم بالسيناريو الذى ترفضه إذا ما منعت تصويره.

ومرة ثانية تصر على تحصيل جمارك على معدات التصوير بما يكلف شركات الإنتاج مبالغ إضافية تجد صعوبة فى استردادها وهى تخرج من البلاد.

ومرة ثالثة تطلب تأمينا بملايين الدولارات بدعوى حماية أماكن التصوير من العبث ولو كانت صحراء مفتوحة.

ومرة رابعة تراقب نجوم الفيلم أمنيا وكأنهم قتلة أو تجار مخدرات أو مهربى آثار.

ومرة خامسة تعطل استخراج التصاريح اللازمة لعدة شهور ينفد فيها صبر أكثر المنتجين تحملا.

وإذا ما قرر منتجو تلك الأفلام التبرع بمعداتهم المتطورة إلى معهد السينما فإن سخف البيروقراطية يصل إلى مداه بمطالبتهم بتسديد جمارك عنها.

هاجرت بعثات تصوير الأفلام الأجنبية من مصر إلى تونس أحيانا وإلى المغرب غالبا بما فى ذلك الأفلام التى تدور أحداثها فى مصر.

مثل فيلم المريض الإنجليزى الذى فاز بتسع جوائز أوسكار فى سنة إنتاجه (1996) وأخرجه أنتونى منجيلا ولعب بطولته كريستين سكوت وجوليت بينوش ورالف فاتتيس وصور فى تونس رغم أن أحداثه تدور فى القاهرة والصحراء الغربية خلال الحرب العالمية الثانية.. واضطر منتجه إلى بناء ديكور لفندق مينا هاوس مضحيا بمزيد من التكلفة بعد أن سدت الإجراءات العقيمة كل الطرق فى وجهه للتصوير فى مصر.

ومثل فيلم جوهرة النيل الذى أنتج عام 1985 ولعب بطولته مايكل دوجلاس وكاثرين ترنر ودانى ديفيتو ووجد منتج الفيلم فى المغرب من التسهيلات ما لم يجده فى مصر التى تختطف فيها البطلة قبل أن ينقذها البطل.

بل إن المسلسل الأمريكى الذى أنتج عن السادات عام 1983 ومثل شخصيته لويس جوست جونيور صور فى تونس وظهر فيه المصريون وهم يرتدون ملابس شعبية تونسية مضحكة وربما لهذا السبب رفض مجلس الشعب عرضه فى مصر.

وما يضاعف من حد السخرية ويزيد من شدة الألم أن المغرب نحتت فى الصحراء معابد وتماثيل فرعونية لتوفر على منتجى الأفلام التاريخية عناء وغباء التصوير فى مصر.

لقد نجح المغرب فى استقبال أطقم تصوير (20 /30) فيلمًا سنويًا ليصبح ذلك البلد الهادئ الودود المكان الأكثر جاذبية للمنتجين والمخرجين من جنسيات أمريكية وبريطانية وفرنسية.. بل.. مصرية أيضا.. فقد اختار صناع فيلم الوعد المغرب لتدور فيه الأحداث المثيرة فى الفيلم الذى كتبه وحيد حامد وأخرجه محمد ياسين ولعب بطولته آسر ياسين وروبى ومحمود ياسين.

صور فى المغرب فيلم لورنس العرب الذى قدم عمر الشريف للسينما العالمية.. وفيلم جوهرة النيل.. وفيلم المومياء.. وفيلم جلادياتور.. وفيلم لعبة الجواسيس الذى انتقل طاقم تصويره من حيفا إلى الدار البيضاء بسبب الانتفاضة الفلسطينية.. وفيلم الإسكندر الأكبر الذى شهدت مالطا تصوير المشاهد التى كان يجب أن تصور فى الإسكندرية.. المدينة التى سميت باسمه.. وفيلم مملكة الجنة.. وفيلم بابل.. وفيلم القناص الأمريكى.. والفيلم الخامس من مجموعة مهمة مستحيلة التى صور واحد منها فى دبى.. وغيرها من الأفلام التى جعلت مليارات المشاهدين فى العالم يحفظون اسم «موروكو» ويقعون فى هواها ويتمنون زيارتها.

وكل ما فعلت السلطات المغربية لجذب تلك الصناعة الساحرة إليها أنها درست التجربة المصرية بدقة متناهية وتجنبت كل ما أدى إلى فشلها.. سهلت الإجراءات الإدارية.. خفضت تكاليف النقل الجوى على شركتها الوطنية إلى الثلث.. أدخلت الأسلحة والمعدات والذخيرة دون خوف.. وأعفت الاستديوهات من الضرائب.. وافتتح الملك محمد السادس بنفسه آخرها.. ستديو سنسيتا بمدينة ورززات منذ نحو العام وأمر القوات الجوية والبرية بتنفيذ كل ما يطلب منها. وبسبب ذلك الاهتمام الفائق الرعاية شهد المغرب فى العام الماضى تصوير 19 فيلما روائيا و79 فيلما وثائقيا و11 فيلما قصيرا و15 مسلسلا تليفزيونيا بقيمة إنتاج وصلت إلى 100 مليار دولار.

والأهم.. أنه بفضل الصورة الساحرة للمغرب التى روجت لها تلك الأفلام زاره 10 ملايين سائح فى العام الماضى أنفقوا 18 مليار دولار. وفى الوقت نفسه تراجعت ميزانية الدعاية السياحية هناك حتى أنها لم تعد تتجاوز المليون دولار. وكل ما يغرى بالتصوير فى المغرب موجود فى مصر.. الشمس.. الصحراء.. البحر.. الجبال.. بل.. يزيد عليها أن مصر شهدت منذ فجر التاريخ الحوادث المؤثرة التى يتعرض لها كثير من هذه الأفلام.

لكن.. ما ينقصنا هو الجرأة فى تحطيم أصنام البيروقراطية بقوة حكومة جريئة.. واثقة من نفسها.. تعرف كيف تعظم ما تحت يدها من موارد ومميزات دون خوف أو ارتعاش.

ومشكلة الحكومة أنها جزر منعزلة.. يحكم كل منها مسئول يخاف على كرسيه لو اتخذ قرارا مفيدا.. الرقابة على المصنفات تخشى اتهامها بتشويه سمعة مصر.. والجمارك تخشى اتهامها بالتفريط فى الحصيلة.. والأمن يشعر بأنه ما فيه يكفيه ولا ينقصه صداع حماية نجوم أجانب.. والثقافة حائرة.. لا تعرف رأسها من رجليها.. والنتيجة صفر للجميع.

والمثير للدهشة أننا بعد ذلك نتساءل: لم تراجع تأثير مصر الإبداعى فيمن حولنا؟.