"الست ديدي".. ألمانية أحبت "البحاروة" فوهبتها الحياة (صور وفيديو)

بوابة الفجر


"يعمل إيه التعليم في وطن ضايع؟"، على النقيض من هذه الجملة وعلى إحدى ضفاف نهر النيل بعزبة البحاروة بمدينة العياط، استقرت مواطنة ألمانية واتخذت من قطعة أرض زراعية مكانا لطالما حلمت به في طريقها للبحث عن خدمة الآخرين، آمنت منذ اللحظة الأولى لخروجها من ألمانيا في طريقها إلى "أم الدنيا" بأن "الله في كل مكان".





"ديانا ساندور" أو ديدي كما يناديها الأطفال، ألمانية الملامح مصرية الهوى، اختار الله لها عزبة البحاروة مكانا لاستكمال رسالتها السامية في خدمة الآخرين، بعيدًا عن اللون والجنس والدين، فتركت كل شيء إيمانًا بالعمل التطوعي، وكانت واثقة من قدرتها على إكمال المشروع الذي بدأت فكرته بكلمة من أحد الأصدقاء عن حاجة العزبة لمدرسة، ليست مدرسة تقليدية يتلقى فيها الأطفال "أ ب"، وإنما إلى أخرى قادرة على تنمية الذات.





"ديدي" سيدة لا تملك شيئًا سوى المال، وقفت وحيدة أمام مشايخ وعمداء العزبة، وبنظرات ريبة وأخرى انبهار وثالثة إعجاب، استطاعت أن تقتنص منزلا بالقرب من إحدى ضفاف نهر النيل رغم المضايقات التي تعرضت لها في البداية كونها غريبة عن المكان، وكسبت ثقة أهل العزبة وساعدت الأطفال في تعلم الانجليزية، وتحول البيت الصغير إلى مدرسة أطلقت عليها "نهر النيل"، يأتي إليها القاصي والداني.



 


كانت أول العقبات التي واجهت الوافدة ذات الملامح الأوروبية مع قدومها بعد ثورة يناير، هو العقل المصري الذي أطلق لنفسه العنان لكي يضع تفسيرات لماذا هي هنا؟ ولصالح من؟ ومن الذي يمول؟، أسئلة مشروعة لكن إجابتها كانت سهلة وبسيطة وضعتها السيدة في وجه الزائرين، وهي "الله في كل مكان".


"أحمد" أحد أبناء العزبة يقول: "ديدي ناس كتير كانوا بيضايقوها؛ عشان مش عارفين هي هنا بتعمل إيه، العيال كلهم كانوا يروحوا عندها وميروحوش الكتاب؛ عشان عندها ألعاب وبقوا يحبوها".


ويضيف أحمد: "لما جت ديدي هنا في الأول باع لها الأرض واحد اسمه صالح، واشترط عليها إنه يكون الغفير بتاع الأرض؛ عشان يسترزق، بس استغلها وكل شوية يطالبها بفلوس، بس ناس كبيرة اتدخلوا وخلصوا الموضوع".







رفضت التعليق على المضايقات التي كانت تتعرض لها قائلة: "هذا في الماضي، يجب أن ندعه كما كان ولا نخوض فيه أو نتذكره مرة أخرى".

 

"ديدي" تستيقظ كل صباح، لتستقبل زائريها من الأطفال عند الباب الأمامي بابتسامة أوروبية وبوجه ذي حمرة داكنة لا يخلو من الحب، ترتدي جلبابًا أحمر، قالت إنه المحبب إليها، يلتف حولها الأطفال وكأنها  الأم تريزا.






اصطحبتنا ديدي في جولة داخل مدرستها، فكانت البداية مع الغرفة التي تقع إلى اليمين بعشرة أمتار من الباب الرئيسي، فتحت الباب وأخذت تحكي عن كتب الأطفال، وتقول: "كل هذه الكتب للأطفال، تتسع الغرفة لحوالي 25 طفلا يمكنني تدبر أمرهم، كل هذه الكتب تحصلت عليها من أصدقائي داخل وخارج مصر، منها كتب بالفرنسية والعربية والانجليزية والألمانية".








وعلى اليمين قليلاً من باب المدرسة تقع غرفتان واحدة لـ "ديدي"، والثانية للمطبخ، كما يوجد بالأعلى غرفة ثالثة تحت الإنشاء، قالت إنها مخصصة للمتطوعين عند بقائهم لفترة من الوقت.

 

أمام الغرفتين بالأسفل توجد مساحة كافية للهو الأطفال، بها الكثير من الأشجار التي علقت عليها أشكال الطيور ومجموعة من اللوحات التي كتب على بعضها "الله في كل مكان، كن إنسانً، تعاطف مع الحيوانات وعاملها بحب واحترام".

 





وفي الخلف تقع الحديقة المطلة على النيل لتضفي على المكان جاذبية خاصة بجمال الأزهار التي تتمايل مع كل نسمة هواء.


وعند سؤالها عن قصتها قبل "البحاروة"، تلعثمت وازداد وجهها حمرة وغلبت عليها علامات البكاء ورفضت الإفصاح عما بداخلها، لكنها تماسكت بإجابة مقتضبة: "ولدت في سلوفانيا، ثم انتقلت إلى ألمانيا مع والدي، ودرست هناك ثم بدأت طريقي في العمل التطوعي وعمري 22 عاما".




كان معلمها في الهند هو البطل الحقيقي والنموذج الذي تنظر إليه طوال الوقت، تقول: "شاركت في أعمال تطوعية في بلدان كثيرة منها الفلبين والهند وكرواتيا، ومعلمي كان هو بطلي ومثلي الأعلى، وفي الهند عرفت معنى تسخير الحياة في خدمة الآخرين".


انتهى بها المطاف إلى مصر عام 2011 بعد التجربة التي دفعتها لترك الجامعة، استكمالا لرحلة العطاء، "أخبرني الأصدقاء عن بعض الأماكن التي بحاجة للمساعدة، كان من بينها البحاروة، ليقع الاختيار عليها".

 



التقطت "شيماء" ابنة الأربعة عشر عاما أطراف الحديث، بعد انشغال ديدي بمكالمة عابرة: "عرفناها من زمان لما كانت في قبلي عند جولسي – انجليزية متزوجة من ناصر- أحد أبناء العزبة وبيتهم هناك عند الجامع".

 

وتستكمل ديدي الحديث بعد انتهاء مكالمتها العابرة: "تعرفت على سيدة انجليزية تسكن العزبة، جلست عندها لبعض الوقت، ساعدتني بالمال في البداية لبناء البيت".


الآن وبعد مرور أكثر من 6 سنوات على وجودها بالمكان باتت معروفة لدى الجميع، بمجرد أن يتبادر اسمها إلى مسامع المارة عند مدخل العزبة، تجد من يشير إلى البيت المميز بالألوان على يسار الطريق.






يبدأ الأطفال في التوافد إلى بيتهم الثاني من الصباح الباكر وحتى الظهيرة، وفور رؤيتهم الست ينادي أحدهم "ديدي" وعلى وجنتيه ابتسامة عريضة، فسرعان ما تهرول إليهم ليرتمي الجميع في أحضانها مرددين الاسم الشهير "ديدي"، لتبدأ رحلة تعكف فيها على تعليمهم حروف الانجليزية، وكذلك بعض الأعمال اليدوية والرسم واليوجا بمساعدة متطوعين.

 

"واحد يعني one والشمس اسمها sun، اتنين يعني two اذهب يلا go، تلاتة يعني three والشجرة اسمها tree، أربعة يعني four والكورة اسمها ball، خمسة يعني five وحياتنا هي life"، جمل يحفظها الأطفال صغيرهم وكبيرهم يرددونها في حماسة واستمرار، رغبة منهم في التواصل مع تلك الشقراء التي أسرت قلوبهم.

 




"بنتعلم انجليزي ونرسم وتخلينا نلعب ونعمل كل حاجة" جملة قالها "أحمد وإبراهيم وبسام" المواظبون على الحضور كل يوم في نفس الموعد بمدرسة "نهر النيل" أو كما يحبون أن يطلقوا عليها "منزل ديدي".

 


لم تكتف "ديدي" بما تقدمه إلى أطفال العزبة، بل نجحت في الوصول إلى المتطوعين من خارج مصر عن طريق مواقع إلكترونية منها"Helpex.com، work away.com"، حيث كان برفقتها اثنين من المتطوعين الألمان، "ساندور وميلينا"، منذ مايقرب من أسبوعين، عكف كليهما على إنهاء التجهيزات بالأعلى لاستقبال المتطوعين إذا أرادوا البقاء لبضعة أيام.






"جئنا إلى القاهرة منذ 3  شهور"، يقولها "ساندور" بعد أن عقد العزم برفقة "ميلينا" على استمرار بقائهما أسبوعين آخرين بالبحاروة: "نساعد ديدي ف هذا العمل التطوعي لتجهيز المكان بالأعلى، ونحن سعداء بتعليم الأطفال".



يجلس الأطفال حول "ساندور" لتعليمهم كيفية العزف على الجيتار، فبينما يحاول تعليمهم التقطت ذات الملامح السمراء "شمس" الآلة، وأحكمت قبضتها عليها رغم حجمها الكبير ثم راحت تعزف بقدر استطاعتها، حتي انفرجت أسارير الجالسين صغارًا وكبارًا من قدرة تلك الصغيرة على تنفيذ ما تعلمته بدقة.


تؤكد "ديدي" أنها تعمل بمفردها مع قليل من المتطوعين ولا تتلقى دعما ماليا من مؤسسات داخل أو خارج مصر، "بعض المتطوعين أحيانا قد يتركون بعض الأموال عند رحيلهم، وأستطيع تدبر أمري من وقت لآخر".




 


لفتت ديدي الأنظار إلى تلك البقعة الصغيرة في عزبة البحاروة وجعلتها محل اهتمام المنظمات والأسر الخيرية، "شارك في افتتاح مدرسة البحاروة منظمة (من أحياها)، كل الطاقة أصبحت موجههة إلى المدرسة الآن، وما زال منزلي مفتوح للأطفال".

 

بصوت حزين وكلمات متقطعة، قالت "ديدي": "بعض الناس هنا يعلمون أنني غريبة عنهم، مع ذلك لا يقتربون مني كثيرا، اعتدت التأقلم"، ورغم كل هذه الصعوبات لم تفكر "ديدي" في الانسحاب من المشروع الذي بدأته حتي تجد شريكا دائما من أهل العزبة لاستكماله.

 





"المكان بحاجة إلى الكثير من التنمية، هل يعقل أن يكون النيل بجانب العزبة، ومع ذلك فهم يعانون من مشكلة المياه ؟، ماذا حدث لمصر؟" تقولها الألمانية ضاحكة من سخرية الوضع، لكنها فخورة بمقدار ما زرعته داخل هؤلاء الصغار من عطاء وقيم، واثقة من قدرتها على تدشين نموذج آخر ليصبح كل طفل هو المعلم القادر على جعل العالم مكانًا أفضل له وللآخرين.