تفسير الشعراوي للآية 88 من سورة النساء

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)}.

كل جملة سبقتها (فاء) فمن اللازم أن يكون هناك سبب ومسبب، علة ومعلول، مقدمة ونتيجة، وكل الأشياء التي تكلم الحق عنها سبحانه وتعالى فيما يتعلق بمشروعية القتال للمؤمنين ليحملوا المنهج إلى الناس، ويكون الناس- بعد سماعهم المنهج- أحراراً فيما يختارون. إذن فالقتال لم يشرع لفرض منهج، إنما شُرع ليفرض حرية اختيار المنهج، بدليل قول الحق: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} [البقرة: 256].

وعلى ذلك فالإسلام لا يفرض الدين، ولكنه جاء ليفرض حرية الاختيار في الدين، فالقُوَى التي تعوق اختيار الفرد لدينه، يقف الإسلام أمامها لترفع تسلطها عن الذين تبسط سلطانها عليهم ثم يترك الناس أحراراً يعتنقون ما يشاءون، بدليل أن البلاد التي فتحها الإسلام بالسيف، ظل فيها بعض القوم على دياناتهم. فلو أن القتال شُرع لفرض دين لما وجدنا في بلد مفتوح بالسيف واحداً على غير دين الإسلام.

وبعد أن تكلم الحق عن القتال في مواقع متعددة من سورة النساء، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المؤمنين عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} [النساء: 84].

شرع الحق سبحانه وتعالى قضية استفهامية هنا، فيها معنى الإنكار وفيها معنى التوبيخ وذلك شائع في كل الأساليب التي تتفق معها في القرآن الكريم. فإذا سمعت كلمة (فمالك لا تفعل كذا)، فكأن قياس العقل يقتضي أن تفعل، والعجيب ألا تفعل. ولا يمكن أن يأتي هذا الأسلوب إلا إذا كان يستنكر أنك فعلت شيئا كان ينبغي ألا تفعله أو أنك تركت شيئا كان عليك أن تأتي به.

فالأب يقول للابن مثلاً: (مالك لا تذاكر وقد قرب الامتحان؟) كأن منطق العقل يفرض على الابن إن كان قد أهمل فيما مضى من العام، فما كان يصح للابن أن يهمل قبل الامتحان، وهذا أمر بدهي بالقياس العقلي، فكأن التشريع والقرآن يخاطبان المؤمنين ألا يقبلوا على أي فعل إلا بعد ترجيح الاختيار فيه بالحجة القائمة عليه، فلا يصح أن يقدم المؤمن على أي عمل بدون تفكير، ولا يصح أن يترك المؤمن أي عمل دون أن يعرف لماذا لم يعمله، فكأن أسلوب (فما لكم)، و(فما لك) مثل قول أولاد سيدنا يعقوب: {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ} [يوسف: 11].

ما معنى قولهم هذا؟ معناه: أي حجة لك يا أبانا في أن تحرمنا من أن نكون مؤتمنين على يوسف نستصحبه في خروجنا. فكأن القياس عندهم أنهم إخوة، وأنهم عصبة، ولا يصح أن يخاف أبوهم على يوسف لا منهم ولا من شيء آخر يهدد يوسف؛ لأنهم جماعة كثيرة قوية.

وكذلك قول الحق: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20].

أي أن القياس يقتضي أن يؤمنوا. وقوله الحق: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49-51].

كان القياس ألا يعرضوا عن التذكرة، إذن فأسلوب (فماله)، و(فمالك) و(فمالهم)، و(فمالكم) كله يدل على أن عمل المؤمن يجب أن يُستقبل أولاً بترجيح ما يصنع أو بترجيح ما لا يصنع. أما أن يفعل الأفعال جزافاً بدون تفكير في حيثيات فعلها، أو في حيثيات عدم فعلها فهذا ليس عمل العاقلين.

إذن فعمل العاقل أنه قبل أن يُقبل على الفعل ينظر البديلات التي يختار منها الفعل؛ فالتلميذ إن كان أمامه اللعب وأمامه الاستذكار، ويعرف أنه بعد اللعب إلى رسوب، وبعد الرسوب إلى مستقبل غير كريم، فإذا اختار الاجتهاد فهو يعرف أن بعد الاجتهاد نجاح، وبعد النجاح مستقبل كريم. فواجب التلميذ- إذن- أن يبذل قدراً من الجهد ليتفوق. وكل عمل من الأعمال يجب أن يقارنه الإنسان بالنتيجة التي يأتي بها وبترجيح الفعل الذي له فائدة على الأفعال التي لا تحقق الهدف المرجو.

والآية هنا تقول: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ} كأن القياس يقتضي ألا نكون في نظرتنا إلى المنافقين فئتين، بل يجب أن نكون فئة واحدة. وكلمة (فئة) تعني جماعة، والجماعة تعني أفراداً قد انضم بعضهم إلى بعض على رغم اختلاف الأهواء بين هؤلاء الأفراد وعلى رغم اختلاف الآراء، إلا أنهم في الإيمان يجمعهم هوى واحد، هو هوى الدين، ولذلك قال الرسول: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).

فالمسبب للاختلاف هو أن كل واحد له هوى مختلف ولا يجمعهم هوى الدين والاعتصام بحبل الله المتين. وما حكاية المنافقين وكيف انقسم المؤمنون في شأنهم ليكونوا فئتين؟

والفئة- كما عرفنا- هي الجماعة، ولكن ليس مطلق جماعة، فلا نقول عن جماعة يسيرون في الطريق لا يجمعهم هدف ولا غاية: إنهم فئة؛ فالفئة أو الطائفة هم جماعة من البشر تجتمع لهدف؛ لأن معنى (فئة) أنه يرجع ويفيء بعضهم إلى بعض في الأمر الواحد الذي يجمعهم، وكذلك معنى (الطائفة) فهم يطوفون حول شيء واحد. والحق يقول: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ}. هذا لفت وتنبيه من الحق بأن ننزه عقولنا أن نكون في الأمر الواحد منقسمين إلى رأيين، وخصوصاً إذا ما كنا مجتمعين على إيمان بإله واحد ومنهج واحد. والمنافقون- كما نعرف- هم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.

إننا نعرف أن كل المعنويات يؤخذ لها أسماء من الحسيات؛ لأن الإدراك الحسي هو أول وسيلة لإدراك القلب، وبعد ذلك تأتي المعاني.

وعندما نأتي لكلمة (منافقين) نجد أنها مأخوذة من أمر حسي كان يشهده العرب في بيئتهم، حيث يعيش حيوان اسمه (اليربوع) مثله مثل الفأر والضب. واليربوع مشهور بالمكر والخداع، ولكي يأمن الحيوانات التي تهاجمه فإنه يبني لنفسه جحرين، أو جحورا متعددة، ويفر من الحيوان المهاجم إلى جحر ما، ويحاول الحيوان المهاجم أن ينتظره عند فوهة هذا الجحر، فيتركه اليربوع إلى فتحة أخرى، كأن اليربوع قد خطط وأعد لنفسه منافذ حتى يخادع، فهو يصنع فوهة يدخل فيها في الجحر، وفوهة ثانية وثالثة، وذلك حتى يخرج من أي فتحة منها، وكذلك المنافق.

ونعرف أن المسائل الإيمانية أو العقدية على ثلاثة أشكال: فهناك المؤمن وهو الذي يقول بلسانه ويعتقد بقلبه وهو يحيا بملكات منسجمة تماماً. وهناك الكافر وهو الذي لا يعتقد ولا يدين بالإسلام ولا يقول لسانه غير ما يعتقد، وملكاته منسجمة أيضاً، وإن كان ينتظره جزاء كفره في الآخرة؛ فملكاته منسجمة- لكن- إلى غاية ضارة، وهي غاية الكفر. أما (المنافق) فهو الذي يعتقد الكفر وينعقد عليه قلبه لكن لسانه يقول عكس ذلك، وملكاته غير منسجمة؛ فلسانه قد قال عكس ما في قلبه؛ لذلك يحيا موزعاً وقلقاً، يريد أن يأخذ خير الإيمان وخير الكفر، هذا هو المنافق.

وهناك جماعة- في تاريخ الإسلام- حينما رأوا انتصار المسلمين في غزوة بدر، قالوا لأنفسهم: (الريح في جانب المسلمين، ولا نأمن أنهم بعد انتصار بدر وقتل صناديد قريش وحصولهم على كل هذه الغنائم أن يأتوا إلينا)، هذه الجماعة حاولت النفاق وادعت الإسلام وهم بمكة، حتى إذا دخل المسلمون مكة يكونون قد حصنوا أنفسهم. أو هم جماعة ذهبوا إلى المدينة مهاجرين، ولم يصبروا على مرارة الهجرة والحياة بعيداً عن الوطن والأهل والمال، فكروا في هذه الأمور، وأرادوا العودة عن الدين والرجوع إلى مكة، وقالوا للمؤمنين في المدينة: (نحن لنا أموال في مكة وسنذهب لاستردادها ونعود).

وبلغ المسلمون الخبر وانقسم المسلمون إلى قسمين: قسم يقول: نقاتلهم، وقسم يقول: لا نقاتلهم. الذين يقولون: (نقاتلهم) دفعهم إلى ذلك حمية الإيمان. والذين يقولون: (لا نقاتلهم) قالوا: هذه الجماعة أظهرت الإيمان، ولم نشق عن قلوبهم، وربما قالوا ذلك عطفاً عليهم لصلات أو أواصر.

فجاء القرآن ليحسم مسألة انقسام المسلمين إلى قسمين، ويحسم أمر الاختلاف.

وعندما يأتي القرآن ليحسم فهذا معناه أن رب القرآن صنع جمهور الإيمان على عينه، وساعة يرى أي خلل فيهم فسبحانه يحسم المسألة، فقال: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ}.

والخطاب موجه للجماعة المسلمة، فقوله: (فمالكم) يعني أنهم متوحدون على هدف واحد، وقوله: (فئتين) تفيد أنهم مختلفون.

إذن ف (فئتين) تناقض الخطاب الذي بدأه الحق ب (فمالكم)، كأن المطلوب من المتلقي للقرآن أن يقدر المعنى كالآتي: فما لكم افترقتم في المنافقين إلى فئتين؟ إذن فهذا أسلوب توبيخي وتهديدي ولا يصح أن يحدث مثل هذا الأمر، فهل ينصب هذا الكلام على كل المخاطبين؟ ننظر، هل القرآن مع من قال: (نقتل المنافقين) أو مع من قال بغير ذلك؟ فإن كان مع الفئة الأولى فهو لا يؤنب هذه الفئة بل يكرمها، إن القرآن مع هذه الفئة التي تدعو إلى قتال المنافقين وليس مع الفئة الثانية؛ لذلك فهو يؤنبها، ويوبخها. والأسلوب حين يكون توبيخاً لمن يرى رأياً، فهو تكريم لمن يرى الرأي المقابل، ويكون صاحب الرأي المكرم غير داخل في التوبيخ، لأنّ الحق أعطاه الحيثية التي ترفع رأسه.

والحق يقول: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين} أي إن الحق يقول: أي حجة لكم في أن تفترقوا في أمر المنافقين إلى فئتين، والقياس يقتضي أن تدرسوا المسألة دراسة عقلية، دراسة إيمانية لتنتهوا إلى أنه يجب أن تكونوا على رأي واحد، ومعنى الإنكار هو: لا حجة لكم أيها المؤمنون في أن تنقسموا إلى فئتين.

ويقول الحق: {والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا} وساعة تسمع كلمة (أركسهم) ماذا نستفيد منها حتى ولو لم نعرف معنى الكلمة؟ نستفيد أن الحق قد وضعهم في منزلة غير لائقة. ونشعر أن الأسلوب دل على نكسهم وجعل مقدمهم مؤخرهم أي أنهم انقلبوا حتى ولو لم نفهم المادة المأخوذة منها الكلمة، وهذا من إيحاءات الأسلوب القرآني، إيحاءات اللفظ، وانسجامات حروفه.

{والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا} و{أَرْكَسَهُمْ} مأخوذة من (ركسهم) ومعناها (ردهم). كأنهم كانوا على شيء ثم تركوه ثم ردهم الله إلى الشيء الأول، وهم كانوا كفاراً أولاً، ثم آمنوا، ثم أركسهم، لكن هل الله أركسهم تعنتاً عليهم أو قهراً؟ لا؛ فهذا حدث {بِمَا كسبوا}، وذلك حتى لا يدخل أحد بنا في متاهة السؤال ولماذا يعاقبهم الله ويوبخهم ما دام هو سبحانه الذي فعل فيهم هذا؛ لذلك قال لنا الحق: إنه {أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا}. و{أَرْكَسَهُمْ} مادته مأخوذة من شيء اسمه (الركس)- بفتح الراء- وهو رد الشيء مقلوبا ومنه (الرِّكس) بكسر الراء وهو الرجيع الذي يرجع من معدة الإنسان قبل أن يتمثل الطعام. مثلما نقول: (إن فلاناً غمت نفسه عليه) أو (فلان يرجع ما في بطنه).

وعندما ننظر إلى هذه العملية نجد أن الطعام الذي يشتهيه الإنسان ويحبه ويقبل عليه ويأكله بلذة، وتنظر عيونه إليه باشتهاء، ويده تقطع الطعام بلذة ويمضغ الطعام بلذة، هذا الطعام بمجرد مضغة مع بعضه ينزل في المعدة وتضاف إليه العصارات المهضمه، فإذا رجع فإنه في هذه الحالة يكون غير مقبول الرائحة، بل إن الإنسان لو هضم الطعام وأخذ منه المفيد وأخرج البافي بعد ذلك، فرائحة الفضلات الطبيعية ليست أسوأ من رائحة الطعام لو رجع بدون تمثيل.

فلو رأيت إنساناً يقضي حاجة وآخر يتقيأ الطعام، فالنفس تتقزز من الذي يتقيأ أكثر مما تتقزز من الذي يقضي حاجته؛ لأن (الترجيع) يخرج طعاماً خرج من شهوة المضغ والاستمتاع. ولم يصل إلى مسألة التمثيل.

ولذلك نسمع المثل (كل ما فات اللسان صار نتان). و(الرِّكس) هو الرجيع الذي يرجعه الإنسان بعد الطعام قبل أن يتمثله. فالطعام بعد أن يتمثل ويخرج من المكان المخصص له يصبح روثاً، وغائطاً وبرازاً. والحق سبحانه وتعالى قد جاء بالكلمة التي تصفهم: {والله أَرْكَسَهُمْ} أي أنهم ارتدوا من قبل أن ينتفعوا بأي شيء من الإيمان.

هذا هو التعبير القرآني الذي جاء بالعبارة التي تؤدي هذا المعنى، وتؤدي إلى نفرتنا منهم، فيكون الإركاس هو الرد، وهل هو مطلق الرد، أو رد له كيفية؟ هو رد بإهانة أيضاً، كيف؟ لأن الشيء إن كان قوامه أن يقف رأسياً، يكون الركس أن تجعل رأسه في مكان قدمه وقدمه في مكان رأسه. وعلى ذلك فالرد ليس رداً عادياً بل إنّه رد جعل المردود هُزُواً. وإن كانت استقامة الأمر على الامتداد الطولي، يكون الركس بأن تأتي بما في الخلف إلى الأمام، وبما في الأمام إلى الخلف، فتقلب له كيانه، وتعكس حاله.

والقرآن يصف الكافرين والمنافقين: {ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 65].

لماذا، لأن الرأس مبنيٌ على القامة والهامة والارتفاع. هذا الرأس يُجْعلُ مكان القدم، والقدم يكون محل الرأس. إذن فقوله: {والله أَرْكَسَهُمْ} أي لم يردهم مطلق الرد، بل ردّهم ردا مهيناً، ردّاً يقلب أوضاعهم.

{والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا} إذن فلا يقولن أحد: ما دام الله قد أركسهم فما ذنبهم؟ إن الله قد أركسهم {بِمَا كسبوا}، فهم كانوا فاعلين لا منفعلين.

وإليكم هذا المثل- ولله المثل الأعلى- حين تضع المدرسة أو الجامعة درجات للنجاح في كل مادة. تجد مادة يجب أن يحصل الطالب فيها على نسبة ستين في المائة. وأخرى على سبعين في المائة، ويدخل التلاميذ الامتحان، وعندما يرسب أحدهم لا يقال: إن المدرسة قد جعلته يرسب، صحيح هي أرسبته ولكن وفق القوانين التي وضعتها المدرسة أو الجامعة من قبل أن يدخل التلميذ الامتحان، ولأنه لم يبذل الجهد الكافي للنجاح، فقد أرسب نفسه.

إذن، فالله لم يأت بالرّكس ورماه عليهم. بل هم الذين كسبوا كسباً جعل قضية السنة الكونية هي التي تؤدي بهم إلى الركس، مثلهم مثل التلميذ الذي لم يستذكر فلم يُجب في الامتحان، فلا يقال عن هذا التلميذ: إن المدرسة أرسبته.

ولكنه هو الذي أرسب نفسه.

ولذلك عندما يقال: الله هو الذي أضلهم، فما ذنبهم؟ هذه هي القضية التي يقول بها المسرفون على أنفسهم، ولهؤلاء نقول هذه الآية: {والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا} وكذلك أضل الله الضالين بفعلهم، كيف؟.

نحن عرفنا أن الهداية تأتي بمعنيين، هداية الدلالة وهداية المعونة، ويأتي المسرفون على أنفسهم الذين يودون أن تكون قضية الدين كاذبة- والعياذ بالله- لأن قضية الدين عندما تكون صدقاً فإن الذين أسرفوا على أنفسهم يتيقنون أنهم ذاهبون إلى داهية وأمر منكر شاق عليهم؛ لذلك نجد الواحد منهم يتمحك في محاولة عدم التصديق، والدخول إلى متاهات يصنعها الفهم السطحي للدين. ولذلك نجد المناقشات التي يناقشونها تدل على أنها مناقشات المسرف على نفسه، فيقول الواحد منهم: ما دام الله هو الذي كتب عليّ كل شيء فلماذا يعذبني وهو الذي كتب عليّ المعاصي؟

نقول له: ولماذا آمنت في هذا الموقف بالذات أن الله هو الذي كتب؟ وما دمت قد آمنت بأن الله هو الذي كتب فلماذا لا تؤمن به وترتضي أحكام منهجه؟. ولكن الواحد منهم يحاول أن يقف وقفة ليست عقلية، فالوقفة العقلية الصحيحة تقتضي أن تأتي بالقضية المقابلة وهي أن الله إذا كان قد كتب على العبد الطاعة فلماذا يثيبه؟. لماذا تناسي قضية الطاعة والثواب عليها؟؛ لأنه يعرف أنها القضية التي تجلب الخير، ووقف في القضية المقابلة التي تأتي بالشرّ، ولا يقول هذا القول إلا مسرف على نفسه. ولا نرى ملتزماً بمنهج الإيمان يقول مثل هذه القضية، فالمؤمن يحب أن تسير الأمور على ضوء منهج الله، ولذلك أنا إلى الآن- وليسامِحْني الله وليغفر لي- أتعجب من أن العلماء الذين سبقونا جعلوا من هذه المسألة محل خلاف. وقالوا: معتزلة وأهل سنة.

المسألة كلها يجب أن تفهم على أساس أن الإسلام دين فطرة؛ ولم يأت للفلاسفة فقط، إنّه جاء للعقل الفطري، ورَاعى الشاة في الإسلام كالفيلسوف، ومن يكنس الشارع أو يمسح الأحذية مساوٍ لمن درس الفلسفة أو الحقوق؛ لأن الإيمان لم يأت لطائفة خاصة، ولكن المنهج قد جاء للجميع، ولابد أن تكون أدلته واضحة للجميع، فعندما يقال لنا: إن الله يعلم كل شيء فيك، لا يدخل معك في متاهة، هو سبحانه يقول لك: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14].

فالذي صنع الكرسي- ولله المثل الأعلى- ألا يعرف أن الكرسي مصنوع من الخشب، ونوع الخشب (زان) أو (أرو) أو (مجنة)، وأن المسمار الذي يربط الجزء بالجزء إما مسمار صلب وإما من معدن آخر، وكذلك يعلم صانع الكرسي أي صنف من الغراء استعمل في لصق أجزاء الكرسي، وكذلك مواد الدهان التي تم دهن الكرسي بها.

إذن فقول الحق: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} لا يحتاج إلى جدال ولذلك نجد النَّجار الذي يرغب أن تكون صنعته مكشوفة واضحة يقول للمشتري: سوف أصنع الكرسي من خشب الزان وعليك أن تمر يومياً لترى مراحل فعله.

ويبدأ صناعة الكرسي مرحلة مرحلة تحت إشراف الزَّبون. وكذلك يعرف البدوي كيف يتكون الرحل. وهو ما يوضع على ظهر البعير للركوب، العربي يعرف كيف يتكون الفسطاط وهو بيت يتخذ من الشَّعْرِ. وقد جاء سبحانه بما يدحض أي جدل، وبدون الدخول في أية مهاترات أو مناقشات لها مقدمات ونتائج ومقدم وتال. جاء الحق بهذا القول الفصل: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14].

هو يعلم وهذا أمر سهل عليه، ولذلك أتعجب كيف أدخل هؤلاء العلماء هذه المسألة في متاهة فلسفية، فالإسلام دين الفطرة.

ولذلك نجد العلماء الذين ناقشوا هذه المسألة- جزاهم الله خيراً- جاءوا في آخر مطافهم، وقالوا:
نهاية إقدام العقول عِقال *** وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا *** سوى أن جمعنا فيه قِيلَ وقالوا

وأنا أريد أن أعرف ماذا قدمت الفلسفة النظرية للدنيا من خير؟. لقد انفصلت عنها الفسلفة المادية ودخلت المعمل وأخرجوا لنا الابتكارات التي انتفع بها الخلق، فماذا فعلت الفلسفة النظرية؟. لا شيء. ونقول: جاء الإسلام بالعقيدة الفطرية، ومعنى العقيدة الفطرية أن الناس فيها سواء، فالأدلة العقلية تقتضي الوضوح لمن تَعَلَّم ولمن لم يتعلم.

والفلاسفة هم الذين قالوا: بأدلة الغاية وأدلة العناية وأدلة القصد. لكن البدوي الذي سار في الصحراء وجد بعر البعير ووجد الرمل وعليه أثر قدم، فقال: إذا كانت البعرة تدل على البعير والقدم تدل على المسير أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟. هو لم يدخل في فلسفة أو متاهة مثلما دخل الفلاسفة مع بعضهم في متاهات عقلية وحلها البدوي في جملة واحدة. وكذلك نجد واحداً من الناس يسأل واحداً من أهل الإشراق: ألا تشتاق إلى الله؟. فيقول له: إنّما يُشتاق إلى غائب، ومتى غاب الله حتى يشتاق إليه؟!

لذلك نقول لمن اختلفوا في أمر رد الله لهؤلاء: نريد أن نكرم عقولكم وننظر لماذا اختلفتم في هذه الحكاية {أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا}.

نقول مع حسن الظن بهم، إن كل واحد منهم تعصب لصفة من صفات الحق، فواحد منهم يقول: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فنقول له: أنت قد تعصبت لصفة القدرة وطلاقتها في الحق.

وجاء ثانٍ وقال: ولكن الله عادل. ولا يمكن أن يخلق في الكافر كفره ثم يعذبه عليه. إنّه متعصب لصفة العدل. وكل منهما ذاهب إلى صفة واحدة من صفات الحق. وتناسي الاثنان أن هذه الصفات إنما هي لذاته- تعالى- فسبحانه قادر وعادل معًا.

فلا هذه تفلت منه ولا تلك.

ونقول لمن يقول: إنه الله خالق كل شيء وخالق كل فعل. ما الفعل؟. الفعل هو توجيه جارحة لإحداث حدث، فالذي يمسح وجهه بيديه يوجه يديه لوجهه حتى يمسحه، وهذ الفعل لا يفعله صاحب الفعل، ودليلنا على ذلك الإنسان الآلي نضغط على أكثر من زر ليتحقق هذا الفعل، هذا الإنسان الآلي حتى يتحرك حركة واحدة لابد من ضغط وتحريك عدد آخر من القوى، لكن الإنسان حتى يمسح وجهه بيديه اكتفى بأنه بمجرد أن أراد مسح الوجه باليد مسح الوجه. فهل أمسك من يمسح وجهه بشيء وضغط عليه ليمسح وجهه؟

إنه بمجرد أن أراد فعَل. وسائق جرافة التراب يحرك عدداً من الأذرع الحديدية حتى يحرك الجرافة إلى أسفل، ثم حركة أخرى ليفتح كباشة التراب، وحركة تقبض أسنان الكباشة وحركة أخرى ترفع التراب، كل ذلك من أجل أن يرفع التراب من مكان ما إلى مكان آخر، والواحد منا بمجرد أن يريد أن يمسح وجهه فهو يمسح وجه ولا يعرف أي عضلات تحركت، فمن الذي فعل كل ذلك؟. إنه الله.

فيا من تتعصب لصفة القدرة. فالله هو الذي فعل والعبد هو الذي وجه الطاقة التي تنفعل بالله. فإذا كانت إلى غير مراد الله يصير العبد عاصياً، وإن وجهها إلى مراد الله فيكون طائعاً، ويكون له الكسب فقط، فالذي يقتل واحداً، هو لم يقتله؛ لأنه لم يقل له: (كن قتيلاً) فيكون قتيلاً، ولكن القاتل يأتي بسكين أو سيف أو مسدس ويرتكب فعل القتل.
 فأداة القتل هي التي قامت بالفعل، والقاتل إنما أخذ الآلة الصالحة لفعل ما ولغيره، فوجهها لذلك الفعل. فيا من تريد العدل، إن الله يعذب على المعصية؛ لأن الإنسان استعمل أداة مخلوقة للفعل ولعدمه، فجعلها تؤدي فعلاً غير مرادٍ لله أي لا يرضى عنه الله ولا يحبه، ومع ذلك فالله هو الفاعل لكل شيء.

ونعود إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا} وما دام هو سبحانه الذي أركسهم بما كسبوا، وأنتم مؤمنون بالله فلابد أن يكون الرأي فيهم واحداً؛ لذلك يتساءل الحق: {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله}؟ وسبحانه لا يريد أن يقدم لهم العذر، إنما يريد أن يظهر لهم هدايته سبحانه وهي هداية لا تتأتى لهم؛ لأنه قد أضلهم فأنَّى لهم الهداية. فلماذا يقف جانب من المؤمنين في صفهم؟.

لأن الله حين يهدي فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء بوضع القوانين الموضحة للهداية أو الضلال. ونحن إن سمعنا (أن الله هدى) نفهمها على معنيين؛ المعنى الأول أنه (دل)، والمعنى الثاني أنه (أعان ومكّن).

ف (هدى) تكون بمعنى (دل)، وهدى تكون بمعنى (أعان). وسبق أن قلنا: إذا كان هناك إنسان يمشي في الطريق ويريد الاتجاه إلى الإسكندرية وهو لا يعرف الطريق الموصل. فيسأل شرطي المرور فيشير الشرطي: هذا هو الطريق الموصل إلى الإسكندرية. إنَّ الشرطي هدى هذا الإنسان ودله على الطريق، لكنه لم يحمل الإنسان على أن يسير في الطريق، فإذا ما صدّق المسافر قول الشرطي وقال له: إنني أشكرك وأكثر الله من خيرك والحمد لله أنني وجدتك، فلولا وجودك لتعبت، هنا يقول الشرطي: أنت رجل طيب والطريق إلى الإسكندرية به (مطب) وعقبه، سأركب معك حتى أدلك على مكان هذه العقبة. وبذلك يتجاوز الشرطي مرحلة (الدلالة) إلى مرحلة (المعونة) وسبحانه أوضح: سأهدي الناس جميعاً وأرشدهم وأدلهم، فالذي يقبل على الإيمان بي سأعاونه على ذلك.
ولذلك يقول: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17].

و(هديناهم) هنا بمعن (دللناهم) فقط، أما أن يسلكوا سبل الهداية أو لا فالأمر متروك لهم. والهداية- إذن- ترد بمعنى الدلالة، وترد بمعنى الإعانة. والحق يعين من؟. يعين من آمن به ولكن من يكفر به لا يعينه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [التوبة: 37].

وكذلك: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [التوبة: 24].

إذن فلله هدايتان: هداية عم الناس بها جميعاً وهي هداية الدلالة، وأخرى خص بها من جاءه مؤمناً به، وهي هداية (المعونة). ولذلك قال الحق للرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].

وهذا القول فيه نفي الهداية عن الرسول، وهو سبحانه القائل أيضاً: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].

وليس من المعقول أن ينفي الحق الهداية عن الرسول ثم يثبتها له. ونفهم من ذلك: إنك يا رسول الله تدل على الحق، ولكنك لا تعين عليه. فالله هدى الناس جميعاً فدلهم على طريق الخير. فمن آمن به وأقبل عليه يسر له الأمر.

وبذلك نكون قد عرفنا تماماً معنى قوله الحق: {والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}. فالذي يضله الله هو من اكتسب ما يوجب أن يضله فلا تجد له سبيلاً. وكان من الممكن أن يقول الله: أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلا تستطيعون أن تهدوه، ولكن الأبلغ هو ما يوضحه سبحانه لنا: أنتم لا تستطيعون هداية هذا المكتسب للضلال؛ ذلك أنه لا يوجد سبيل حتى تهدوه إليه. فالسبيل هو الممتنع وليس الهداية فقط.

والسبيل هو الطريق الذي يعطيك حقاً في الهداية، فإذا ما امتنع السبيل فماذا تفعل؟ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً في أن ينقض هذا القرار، أي لا حجة له على الإطلاق.

ولذلك أخذنا المعنيين هنا، فالذين ينافقون يظهرون الإيمان مرة وينقلبون إلى الكفر مرة، هم ينكرون الإيمان بقلوبهم والذي يقولون بألسنتهم هو الإسلام، أمّا الإيمان فلمَّا يدخل في قلوبهم.

وما هو الأعز على النفس البشرية؟ مكنونات القلب أم مقولة اللسان؟

الأعز هو مكنونات القلب. وما داموا هم لا يؤمنون بقلوبهم ويقولون فقط بألسنتهم، فالعقيدة داخلهم معقودة على الكفر، وما دامت العقيدة معقودة على الكفر فهم لا يريدون أن يأتوا إلى صف الإيمان، ولكنهم يريدون جر المؤمنين إلى معسكر الكفر؛ لذلك يقول الحق بعد ذلك: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ...}.