أحمد خيرالدين يكتب: نزهة في أدب نجيب محفوظ

الفجر الفني

بوابة الفجر


لم أكره شيئا كراهيتي لوضع اسم نجيب محفوظ إلى جوار جائزة نوبل، باعتبار ذلك الاعتراف الأوضح بقيمته وأثره.

 

  عاد هذا إلى ذهني مؤخرًا حين أعاد كاتب لبناني أثرت الأيديولوجيا على خلايا التمييز في عقله، فأعاد إنتاج أكذوبة أن نجيب محفوظ تلقى تلك الجائزة مكافأة على تطبيعه، معددًا أسماء كتاب كثر أحق بها منه.

 

 ربما تمثل الرواية اليونانية "في شوارع القاهرة - نزهة مع نجيب محفوظ" لبيرسا كوموتسي التي صدرت ترجمتها العربية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب مؤخرا الردَّ الأوضح على هذا الفريق، ومعه من يريدون مدح "المعلم الكبير" كما تسميه، فيعتبرون الجائزة شهادة نجاحه فينالون من عظيم أثره ويحصرونه في خانة أضيق بكثير مما يستحق.

 

انطلاقًا من مقطع من رواية له في مستهل كل فصل تسير بيرسا في روايتها، تحكي قصة كاتبة مصرية يونانية فتحت عيونها على وطن ثان عاشت معه تحولاته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ثم اكتشفت نجيب محفوظ، كشخص تراه أمام مسكنها يعاملها بود، وتكتشفه ككاتب تحاول أن تقرأ رواياته وهي طفلة، إلى أن تبدأ في اكتشاف عالمه الروائي وتعيش معه إلى أن تصبح نافذة وطنها الثاني على أدبه، فتنقل رواياته إلى لغتها الأم.

 

قراءة أصيلة في أدب كاتب مصر الأهم، بعيون استخلصت قيما إنسانية خرجت للعالم على لسان شخصياته من حيز القاهرة التي اختارها مسرحا لرواياته وقصصه، تتبعًا لآرائه ورحابة فكره وإخلاصه لمشروعه الأدبي والإنساني، صنعت بها خطا زمنيا يتشابك مع تطورات حياتها وما جرى في مصر خلال زمن طويل.

 

 بالرغم مما للنوستالجيا من وقع منفر وسيئ على النفوس الآن، فإنك لا تملك إلا أن تهيم حبا بالعالم الذي رسمته بيرسا في روايتها للقاهرة، تسير معها إلى جوار منزلها في شارع مراد وفي سيدي جابر، وتنتشي وتتألم وهي تحكي عن "عادل" حبها الطفولي، فتفهم لماذا انزعجت حين أتت إلى القاهرة فلم تعرف شارعا أو وجها من الذين عاشت بينهم إلى أن غادرتها.

 

 تغبط بطلة الرواية وأنت تدخل معها الجامعة فترى كيف كان لهذا المكان سحر وأثر، تكتشف النقاشات وتتعرف على العقول التي حاولت صنع فارق في الحياة الجامعية وحال التعليم في بلادها فواجهت الانغلاق والصدأ، فحاولت مرات أخرى قبل أن ترفع راية بيضاء وتنسحب إلى عالم آخر. لا تذكر بيرسا اسم أستاذتها التي استدعتها لتخبرها باختيارها للقاء آرثر ميللر مع مجموعة من طلاب جامعة القاهرة والصحفيين سيلتقون به ويطرحون عليه ما لديه من أسئلة، ولم يفعل المترجم، لكني من التعريف والأوصاف أظن أنها لطيفة الزيات.

 

 وبعد أسابيع من هذا اللقاء يدخل نجيب محفوظ إلى مدرج في جامعة القاهرة، يتهدج صوته وهو يتذكر كم من الوقت فات. كاتبان بهذا الحجم تتاح لك فرصة أن تلتقيهما في أيام دراستك الجامعية، حين تتشكل الأفكار وتكتشف العوالم ولا تملك إلا أن تقارن بين ذلك وما يجري في الجامعات المصرية الآن.

 

في حديثه للطالب يذكر نجيب محفوظ أنه "سيحاول" الإجابة عن أسئلة الطلاب بدلا من أن يتحدث مباشرة، ينتقل بمرح وحب ورغبة في النقاش والإفادة من الحديث عن الحب وقيمته، إلى حقوق الإنسان ودور المرأة، يشتبك في النقاش مع طلاب متشددين، يقول إن العلم دين المستقبل، ويقول مبدأه الأثير: إن السعي إلى الحقيقة والبحث عنها أسمى دور للإنسان.

 

 هذه تجربة جديدة لقراءة عين أخرى لجزء مهم من تراث قدمناه للإنسانية، تستحق الاحتفاء بها والتعريف بها وإتاحتها لطلاب المدارس إلى جانب نشرها في الصحف والإصدارات الأدبية بدلا من ملفات الاحتفال السنوية المعلبة بذكرى الرجل، والثرثرات المكررة بذكريات لا قيمة لها.

 

 كل الشكر إلى الدكتور خالد رؤوف على ما بذله من جهد في ترجمته هذه القطعة الأدبية الجميلة، والشكر موصول لفريق مجلة "إبداع" ورئيس تحريرها د.محمد المنسي قنديل، لنشرهم مقاطع من الكتاب قبل وقت طويل للتعريف به.

 

هذا المقال نقلًا عن "التحرير"