ربيع جودة يكتب: إشارة روكسي

مقالات الرأي

ربيع جودة
ربيع جودة


جلس حزيناً في سيارته الفارهة.. يمسك بيده اليمني أعلي عجلة القيادة..  ويضع مرفقه الأيسر علي نافذة الباب.. ملامساً أسفل فمه بإصبع السبابه..  كانت الشمس في طور النمو تنحني لتلامس الأسطح استعداداً للهبوط علي الأرض..  لكن قطعان السحاب المتراكمة التي ترعي في الأفق.. تحجبها حيناً وتتركها حيناً آخر.. بينما الشاب شارد الفكر مرهق الجبين..  تسير أمامه سيارة يطل من زجاجها الخلفي نور أبهي من الشمس التي يحجبها الأفق..  طفلة لم تتجاوز الثالثة..  تضع كفيها علي الزجاج..  وتحرك رأسها للأمام والخلف.  وكلما هدأ الطريق واقتربت سيارة الشاب داعبته بضحكة تذيب القلب..  بفمها الذي يقطر عسلاً مصفي..  استمر الشاب خلف السيارة تأسره ضحكة الطفله وتغير ببراءتها  ضيقه وحزنه ..  حتي ضاق الطريق عند مدخل اشارة روكسي.. 

واندفعت أمواج السيارات تتلاطم..  حتي توقف الطريق تماماً..  إلا من مسافة قصيرة جدا علي يسار سيارة الطفلة..  وقف فيها الشاب موازياً لسيارتها..  فإذا بوالدة الطفلة.. لا  تقل حسناً  عن ابنتها.. وماذا يترك البدر خلفه سوي نور من فوقه نور .  وكأنها استأثرت بالحسن كله.. غير أنه يخالط جماله الحزن أيضاً..  وتكسوه الخيبة..  نظر إليها وأطال النظر..  وعاد نظره حسيراً.. لم يظفر منها بشيء..  كانت إشارة المرور بمثابة وقفة مع النفس شرد كلاهما في رحلة مع ماضيه الذي يبدوا أليما..  لدرجة أنهما نسيا ضجيج الزحام..  وصخب آلات التنبيه..  وانطلقا كل بخياله.. فتذكر حين أوقظته الممرضة ليلاً في المستشفي التي كان يعمل بها طبيباً.. يا دكتور هناك حالة يبدو أنها تستدعي الجراحة الفوريه..  فأسرع إليها فوجدها فتاة تعاني من التهاب حاد في الزائدة..  سرعان ما أعدوا غرفة العمليات وفي الوقت الذي يجري فيه الجراحة  ..  كانت والدة الطفلة  هي الاخري شاردة..  تتذكر يوم زفافها حين أصرت والدتها أن يكون الحفل في مصر بينما كان حجز الفندق في بيروت ..  لتنتهي المشكلة بإرضاء الجميع..  فتم حفل الزفاف بالقاهرة وانطلقت الطائرة من فورها الي لبنان..  أما هو فقد أنتهي من إجراء العملية.. غير أن قلبه بات أسيراً لتلك الفتاة ..  وقد أدرك أن دواءه لن يصرف إلا من خزانة عينيها.. فبات يدعوا طيلة الليل أن تكون فتاة الزائدة غير مرتبطة..  حتي تنفس الصبح..  وخرج ليمر عليها..  يبحث عن قلبه بين ضلوعها ربما سقط منه وهي بين يديه بالأمس..  ولم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتي نالها زوجة تملأ وجدانه..  وبينما يسمعها من رقيق القول..   كانت السيدة بالسيارة تذكر صراخها في غرفة الولادة..  حين أنجبت تلك الطفلة الجميلة..  ومن بعدها تغير الحال وتبدل..  فمنذ قرابة الثلاثة أعوام..  لم يمكث في البيت شهراً واحداً..  وهو من سفر الي سفر..  وكأنها تزوجته لتنجب طفلتها وحسب.. حتي ضاق بها الأمر..

ورافقته الي المطار في آخر مرة.. تستجديه أن يرجع فلم تعد تحتمل..  أما الشاب فقد أيقظته زوجته من نومه علي صرخة واحده.. تريد ترك المنزل في الثانية فجراً.. لأنها رأت علي هاتفه رسائل بينه وبين امرأه..  واحتدم النقاش بينهما في المطار حتي أقرت بطلب الطلاق ان سافر وتركها..  وفي غفلة من وعيه طلقها لاتهامها له بأنه خائن ولم يكن بينه وبين تلك المرأة شيء..  عادت من المطار تبكي حين لم يرعي تهديدها وانصرف الي سلم الطائرة..  استعدت إشارة المرور واصفر لونها..  وسكت عنه غضبه وقد ندم علي طلاقها وهي عشقه وفؤاده..  فذهب إليها وقد أسكتتها الصدمة.. فقط تجمع أغراضها لترحل..  وهو يتوسل إليها أن تبقي..  ويلقي باللوم عليها..  كيف تشك في وفاءه.. وهي تعلم أنها  تسكن قلبه منذ أن أجري لها الجراحة..  وانه عاد من سلم الطائرة كالمجنون من أجلها.. وأن له منها طفلة فاقت الكون حسناً وجمالا..  حتي انقضي الليل دون جدوي من إقناعها..

ومع أول طلة للصبح..  هرولت الي سيارتها ومعها الطفله..  فتبعها بسيارته..  رفع رجل المرور الشارة الخضراء..  وهو لا يزال يتوسل اليها بعينيه وهي تبكي..  وقبل أن يحين دوره في التحرك..  نزل من سيارته ليقف أمام سيارتها وسط ضجيج السيارات..  حتي أخرجت الطفله رأسها من النافذة فاحتضنها..  وسكن فؤاد الأم رحمة بطفلتها..  اخذ ابنته في سيارته وانعطف بها يساراً الي أحد المطاعم بروكسي..  ليفتحا صفحة جديدة.. ويسمعها من آيات الحب ما يسكن جرحها ويطيب خاطرها ..  حتي عادا الي البيت..  ليداعبها قائلاً إذا قد عرفنا في المرة القادمة حين نتشاجر  نذهب فوراً إلى إشارة روكسي ..