أحمد عبد الفتاح يكتب: صلاح الدين الأيوبي في عيون الشرق والغرب.. والرد على الشبهات

ركن القراء

أرشيفية
أرشيفية


لم تكن هذه المرة الأولى التي يتجرأ فيها الروائي المعروف (يوسف زيدان) على ثوابت ومقدسات الأمة العربية الإسلامية ، فالرجل له باعٍ طويل فى ذلك الأمر فقد شكك أكثر من مرة فى حادثة الإسراء والمعراج بل وتجاوز به الأمر للإدعاء الباطل جهرًا بأن المسجد الأقصي موجود فى الطائف وليس في القدس وأن المسجد الموجود حاليًا حق لليهود ، وقد اعتمد فى ذلك على بعض الروايات الشيعية التى ضمنها اليعقوبي كتابه وانساق وراءها بعض المستشرقين أمثال اليهودي المجري جولد تسهير الذى اشتهر بعدائه للإسلام ، ولم يكتف (زيدان) بذلك فقد خرج علينا من عدة شهور قليلة قائلا : " أن التاريخ الهجري غير مكتمل وينقصه شهرًا أدى لحدوث فوضى فى التقويم نفسه ، لذا شهر رمضان لا يأتي فى موعده الحقيقي"  ، ضاربًا بالآيات القرآنية الكريمة عرض الحائط كأنه لم يقرأ قول الله عزوجل فى محكم تنزيله  " إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ (36) سورة التوبة ".

وفى هذه الآونة التى يجب العمل فيها على تماسك الأمة العربية ووحدتها والنهوض بها من عثرتها ، نجد هذا الرجل (زيدان) يعمل على آثارة الرأي العام بعبارات غوغائية تحوي بين طياتها مغالطات تاريخية يجب الوقوف عندها وتفنيدها عقليا من خلال الحجج والبراهين القاطعة حتى يتضح للقارئ العادى المغزى الحقيقي من وراء هذه التصريحات التى تنتقص من قدر أعلام وقادة الإسلام بهدف النيل منهم ومن تاريخهم المشرق الذى شهد بفضله مؤرخي الغرب أنفسهم.

فقد صرح (زيدان) فى حواره الأخير مع الإعلامي عمرو أديب خلال لقائه ببرنامج "كل يوم" ، على فضائية "ON E"، بأن " صلاح الدين الأيوبي من أحقر شخصيات التاريخ الإنساني" وقد استند فى ذلك الإدعاء الباطل إلى أمرين أولهما : قوله أن " صلاح الدين قام بجريمة ضد الإنسانية ضد الفاطميين وعزل الرجال فى حتة والستات فى حتة، بحيث أن الذكور لا يروا أنثى، فانقطع النسل" وثانيهما : " أنه أحرق مكتبة القصر الكبيرالتى كانت تعد من أهم المكتبات فى العالم أنذاك".


نقد هذه الشبهة والرد عليها:

وللرد على هذا الكلام فإنه غير صحيح بالمرة ويتنافي إطلاقا مع ما اتصف به هذا القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي من شهامة ونبل ومروءة وشجاعة وغيرها من الأخلاق الإنسانية الحميدة التى عرف بها وقد أثني عليه بها مؤرخي عصره شرقًا وغربًا . ومما يدحض هذه الشبهة عدم التفات صلاح الدين الأيوبي للخلاف المذهبي بين السنة والشيعة عندما  أصبح وزيرا للخليفة الفاطمي العاضد ، بل اثبت كفاءة وجدارة فى محاربة وقتال الصليبيين . ومن ناحية أخري يتضح أن كلا الفريقين عملا فى خدمة الإسلام والإنضواء تحت لوائه ولا أدل على ذلك من طلب الخليفة الفاطمي العاضد (الشيعي) النجدة من عماد الدين زنكي (السني) رغم الخلاف بينهما مذهبيا.

وفاء صلاح الدين للفاطميين:

ومما يثير الانتباه الوفاء والحكمة والرحمة التى تمتع بها صلاح الدين أثناء وزارته لمصر وحتى بعد تملكه أمر البلاد وقد أشاد بذلك مؤرخي عصره أمثال الأصفهاني المتوفي عام (597هـ / 1200م) فى كتابه حروب صلاح الدين وفتح بيت المقدس ؛ المسمى (الفتح القسي فى الفتح القدسي)  ، وابن شداد المتوفي (632هـ/1239م) فى سيرته ، وأبو شامه المتوفي (ت665هـ /1266م) فى كتابه الروضتين فى أخبار الدولتين النورية والصلاحية، وابن واصل (ت 697هـ/ 1297م) فى كتابه مفرج الكروب فى أخبار بني أيوب ، والحنبلي المتوفي (876هـ/1471م) فى كتابه شفاء القلوب فى مناقب بني أيوب. وقد برهنت هذه المصادر على  هذه المناقب والصفات بدون أدني شك وكيف كان صلاح الدين حريص على وحدة أبناء البيت الواحد.

ويستدل بذلك من خلال مراجعة صلاح الدين الأيوبي لنور الدين زنكي واعتذاره له ، عندما طلب منه الأخير الدعاء على منابر مصر للخلفاء العباسيين ، وكان ذلك مخافة اندلاع الفتنة فى وقت لابد فيه من لم شمل المسلمين ووحدتهم إبان الغزو الصليبي ، وعلل المؤرخ أبو شامة ذلك بقوله : " فاعتذر صلاح الدين بالخوف من وثوب أهل مصر وامتناعهم عن الإجابة إلى ذلك، لميلهم إلى العلويين". (الروضتين فى أخبار الدولتين النورية والصلاحية ، ج2 ، ص190).

بل عندما علم صلاح الدين الأيوبي بوفاة الخليفة الفاطمي العاضد سنة (567هـ/1171م) اعتق بعض العبيد والإماء الذين كانوا بالقصر على حد قول المقريزي فى كتابه اتعاظ الحنفا ، ولم يظهر أي شماتة فى موت الخليفة بل حزن عليه وجلس للعزاء بوفاته ووفَّى له بوصيته إزاء إكرام أبنائه ورعايتهم. ومما يؤكد ذلك ما ساقه لنا أبو شامه بقوله " ولما اشتد مرض العاضد أرسل يستدعي صلاح الدين فظن أن ذلك خديعة ، فلم يمض إليه فلما توفي علم صدقه فندم عن تخلفه عنه" (الروضتين ، ج2 ، ص192).

وقد عبر الأمير أبو الفتوح ابن الخليفة العاضد عن التزام صلاح الدين بوصية والده بقوله " أن أباه فى مرضه استدعى صلاح الدين فحضر قال وأحضرنا يعني أولاده وهم جماعة صغار فأوصاه بنا فالتزم إكرامنا واحترامنا رحمه الله" على حد تعبير أبو شامة (الروضتين ج2 ، ص192).

ثم لما توفي الخليفة الفاطمي العاضد ندم صلاح الدين على استعجال نور الدين له في تحويل الخطبة للعباسيين ، وعدم التروي فى ذلك الأمر . حيث ذكر أبو شامة: "وأما ندمُ صلاح الدين، فبلغني أنه كان على استعجال بقطع خطبته وهو مريض، وقال: لو علمت أنه يموت من هذا المرض ما قطعتها إلى أن يموت" (الروضتين ، ج2 ، ص192).

وقد وصف المؤرخ ابن العماد الحنبلي (ت1089هـ/ 1679م) حزن صلاح الدين على موت الخليفة بقوله  "جلس السلطان للعزاء، وأغرب في الحزن والبكاء، وبلغ الغاية في إجمال أمره؛ والتوديع له إلى قبره" (شذرات الذهب فى أخبار من ذهب ، ج6 ، ص364).

وحفاظًا على وصية الخليفة العاضد ووفاءًا له فقد  " نقل صلاح الدين أبناء بيت العاضد إلى موضع من القصر ووكل بهم من يحفظهم"، كما يروي أبو شامة. وقد أكد حسن معاملة صلاح الدين لأفراد أسرة الخليفة الفاطمي فكتب: "ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد، ووكل لحفظهم، وجعل أولاده وعمومته وأبناءهم في الإيوان في القصر، وجعل عندهم من يحفظهم". ونقل أبو شامة عن أبي الفتوح بن الخليفة العاضد أن صلاح الدين "جعلهم في دار برجوان في الحارة المنسوبة إليه بالقاهرة، وهي دار كبيرة واسعة، كان عيشهم فيها طيبا (الروضتين ، ج2 ، ص 192).

ويتضح مما سبق أن صلاح الدين بهذا التفكير القويم كان يهدف إلى تماسك المجتمع الإسلامي وحفظه من الفتن والثورات الداخلية فى وقت تكالب عليه الأعداء من الخارج وكثرت فيه المطامع ، لذا فكان يدرك بكل وضوح ماهية الخلاف بين أبناء البيت الواحد وأثره في ضياع وانهيار الأمم امتثالا لقوله عزوجل " وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) سورة الأنفال.

ومما يلفت النظر أن صلاح الدين سار فى تحويل مصر إلى المذهب السني تدريجيا حيث قام بتشييد العديد من المدارس والمنشآت الثقافية والدينية في مصر والشام وفلسطين تحمل الفكر وتساهم فى نشر المذهب السني، منها المدرسة الناصرية والمدرسة القمحية والمدرسة السيفية في مصر، ومنها المدرسة الصلاحية في دمشق، ومدرسة بنفس الاسم في القدس ، ولم يهدم الجامع الأزهر ولم ينتزعه من الفاطميين بل عمد إلى تهميش دوره من خلال نقل الخطبة منه إلى الجامع  الحاكمي بالقاهرة . وكل هذا يدل على عبقرية هذا القائد المسلم الذى حقن دماء المسلمين دول الدخول أو التسبب فى إندلاع حرب أهلية بين أبناء الأمة الواحدة .أما عن حريق مكتبة القصر الكبير فأغلب الشواهد التاريخية اثبتت بما لا يدع مجالا للشك بأنها احترقت قبل عصر صلاح الدين الأيوبي.

وتعقيبًا على ما سبق فإن تلك الألفاظ البذيئة التى تلفظ بها (زيدان) واصفًا صلاح الدين لا تمت بأية صلة لأخلاقيات البحث العلمي المتعارف عليها، وما قاله عبارة عن حلقة ردح متواصلة مدفوعة بأغراض أخرى ممنهجة ، فالباحث الحق لا يصدر أحكام عامة ولا يكون شتامًا ولا يستخدم تلك الألفاظ العامية التى تنم عن جهل صاحبها ، وإن المرء يتعين عليه البعد عن الألفاظ البذيئة الفاحشة وأن يعود لسانه على قول الخير، إستجابة لقول الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا {البقرة: 83} ، وقد ثبت في الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء. رواه الترمذي والحاكم وصححه الألباني.

وفى ميزان النقد التاريخي ما قاله (زيدان) من مغالطات تاريخية تعد تجني على شخص صلاح الدين، وكأنه تناسي كل ما قام به صلاح الدين من أجل توحيد الجبهة الإسلامية واسترداد بيت المقدس، ولم يشير إلى انتصاراته التى اعتبرت من أهم المعارك الفاصلة في تاريخ العصور الوسطي . بل ولم يتطرق لعظمة صلاح الدين عند دخوله بيت المقدس فى ليلة الإسراء 27 رجب سنة 583هـ / 1187م ، حيث كانت الشروط التى فرضها صلاح الدين على المدينة غاية في التسامح والكرم لدرجة أن بعض المؤرخين المعاصرين الصليبيين قال فى هذا الصدد : " ولم تتجل عظمة صلاح الدين مثلما تجلت عند تسليم المدينة الخالدة" ، فهذه العبارة فى الواقع تتضمن حقائق ومعان كثيرة لأن صلاح الدين لم يستغل انتصاره للتمثيل بأعدائه كما مثلوا بالمسلمين حينما فتحوا القدس سنة (492هـ/ 1099م) ، بل تركهم يغادرون المدينة بأمتعتهم وأموالهم بعد دفع فدية معتدلة ، كما راعي حالة الفقراء منهم فترك الكثيرين يرحلون دون دفع الفدية المطلوبة، أما النصاري الشرقيون من أهل المدينة فقد سمح لهم بالبقاء مع المسلمين على أن يدفعوا الجزية كأهل الذمة.

وإضافة إلى كل ذلك لم يحاول صلاح الدين هدم الكنائس بل تركها وعلى رأسها كنيسة القيامة ، واكتفى بإعادة المساجد التى حولت إلى كنائس ولا سيما المسجد الأقصى الذى كان الفرنجة قد حولوه إلى كنيسة وأنزلوا الفرسان الداوية في قسم منه وأطلقوا عليه معبد سليمان ، وكان هذا يدل على أن صلاح الدين لم يكن يحارب الدين المسيحي بل كان يحارب السياسة الأوروبية الاستعمارية.

ويعلق على ذلك المستشرق الإنجليزي (سير توماس .و. أرنولد) بقوله : (ويظهر أن أخلاق صلاح الدين وحياته التى انطوت على البطولة قد أحدثت فى أذهان المسيحيين فى عصره تأثيرا سحريًا خاصًا ، حتى إن نفرًا من الفرسان المسيحيين قد بلغ من قوة انجذابهم إليه أنهم هجروا دياناتهم المسيحية وهجروا قومهم وانضموا إلى المسلمين ؛ وكذلك الحال ، عندما ترك النصرانية مثلا فارس انجليزى من فرسان المعبد يدعى (روبرت أوف سانت ألبانس Robert of st, Albans) في سنة 1185م ، واعتنق الإسلام ثم تزوج بإحدي حفيدات صلاح الدين . (الدعوة إلى الاسلام ، ص111).

ولم يكتف (أرنولد) بذلك فيبين موقف المسيحيين بالشرق من سقوط بيت المقدس في يد المسلمين فيقول : "ومن المؤكد أن المسيحيين من أهالي هذه البلاد قد آثروا حكم المسلمين على الصليبيين . ويظهر أن أهالي فلسطين من المسيحيين ، لما وقع بيت المقدس فى أيدي المسلمين نهائيا سنة 1244م رحبوا بالسادة الجدد واطمأنوا إليهم ورضوا بحكمهم ، كذلك دفع هذا الشعور نفسه ، شعور الاطمئنان إلى الحياة الدينية فى ظل الحكم الإسلامي. (الدعوة إلى الإسلام ، ص116).